close button

المناظرة قاطرة للتفكير النقدي

الكاتب – ذة. الزهرة أمدكيك

تعد المناظرات من أنجع وأفضل الآليات التي يمكن من خلالها التعبير المباشر وتجاذب أطراف النقاش والتفاعل الآني حول قضية معينة، فهي أرقى نوع من أنواع النقاش المنظم الذي يدور بين طرفين أو أكثر، حيث يعرض كل طرف وجهة نظره حول حدث سياسي أو واقعة اجتماعية أو قضية فكرية أو فلسفية، مع تقديم الحجج والأدلة لدعم موقفه. مما يجعلها تلقى إقبالا كبيرا من لدن جمهور المتتبعين.

ويسجل التاريخ سلسلة من المناظرات التي لا زالت إلى اليوم محط اهتمام الباحثين في مختلف التخصصات، ومنها مناظرة سقراط مع السفسطائيين في القرن الخامس قبل الميلاد والتي أسست للمنهج السقراطي في الجدل وكان لها الأثر الإيجابي على الفلسفة الغربية والفكر الإنساني بصفة عامة. نفس الشيء بالنسبة لمناظرة ابن رشد والغزالي التي شكلت نقاشا عميقا في الفكر الإسلامي حول حدود كل من النقل والعقل، بعدما رد ابن رشد بكتاب “تهافت التهافت” على الغزالي الذي كان قد أصدر مهاجما كتاب “تهافت الفلاسفة”.

أما في العصر الحديث، فيمكننا الوقوف على مناظرة نعوم تشومسكي وميشال فوكو حول العدالة والسلطة والطبيعة البشرية، والتي تركت بدورها أصداء إيجابية في المجتمع العلمي العالمي. كما نستحضر المناظرات السياسية التي تعرفها جلسات أعرق مجلس برلماني في العالم، وهي مناظرات مجلس العموم البريطاني بين ممثلي كل من حزبي العمال والمحافظين، وكذلك تلك التي تعقد لحظة الانتخابات الرئاسية في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا بين المرشحين للرئاسة. وهو تقليد دأب المرشحون على القيام به لإقناع الناخبين، كما آلف الجمهور تتبعه على مختلف وسائل الإعلام والوسائط الاجتماعية.

لعل كل هذا، هو ما جعل الباحث الأمريكي ستيفن يانو يدعو في مقال له ضمن مؤلف جماعي تحت عنوان “التفكير النقدي في التعليم العالي”، إلى اعتماد المناظرات في الجامعات كآلية بيداغوجية لتعليم التفكير النقدي والتحليل المنطقي. معتبرا أن تنمية التفكير النقدي خصوصا لدى طلبة الجامعات، ستتعزز أكثر باستخدام تقنية المناظرة، كآلية جديدة تشجع على تعلم التفكير النقدي. وكساحة تدريب جيدة على الاستحضار اللحظي للتفكير الثاقب والرسائل المقنعة للمستقبلين والجمهور. فالمناظرة تجبر الطلبة على اختيارات صعبة من خلال قليل من الحقائق اليقينية، في وقت يكاد لا يذكر. ليحظى بموافقة الجماعات ذات الاهتمام بالقضية المطروحة.

تشجع المناظرات الطلبة على استيعاب التفكير النقدي كثقافة بالإضافة إلى كونه مجموعة من المهارات. وعندما يكون التفكير ثقافة، فإنه يصبح منظومة من السلوكيات والعقائد التي ينتظم المرء في أدائها، حتى يكون مشاركا في التفاعل الإيجابي في المجتمع -ذلك التفاعل الذي يمثل مفتاحا لحياة الإنسان في تعايش وتعاون صحيين-. إن الممارسة الثقافية تعد شبيهة بدراسة اللغة أو الموسيقى، وهي الأمور التي في ظاهرها مهارات فنية، لكنها تعرض ذاتها في معظم الأحوال على أنها جزء من حياة الإنسان، وتوجد روابط بين ممارستها وبين جوانب الحياة الدنيا.

لذلك، يمكن اعتبار المناظرة وسيلة ومنهج لتعلم التفكير النقدي، وليست فقط مجرد أداة تقييم له. حيث أن النظر إلى المناظرة بهذا النهج يمكن أن يساعد الطلبة على رؤية التفكير النقدي كمجموعة من السلوكيات في صلب ثقافة المرء، بدلا من أن تكون مهارة خاصة تفيد في مواقف معينة فحسب. فالمناظرة تتطلب تفكيرا مركزا ويقظا وثاقبا في سياق معين، للوصول إلى الآخرين. كما أن التفكير النقدي يكون له معناه إذا اقتنع به الطلبة كوسيلة يستعان بها حيال المواقف التي تحتاج إلى عصف ذهني. والمناظرة يمكن أن تكون أفضل أنشطة التفكير النقدي التي يمكن أن نسير على منوالها، لأنها تجد طريقها لاستدعاء تفكيرنا النقدي حول جانبي الموقف أو القضية بنهج فريد.

تنفع المناظرة إذن في كشف اللثام عن جوهر القضية، حيث تتيح للمشارك في المناقشة رصد العوامل الداخلية أو الخفية في تكوين الموقف من القضية المطروحة. وتساعد العوامل المهدئة للآثار الناتجة عن سخونة المناظرة في إتاحة الفرص للطلبة للنظر في القناعات التي تلقوها في فصول الدراسة، وإطلاق العنان لمحاولة تعديل أو العدول عن بعض وجهات النظر. ويستطيعون بهذه الطريقة أن يتبينوا نوع الصلة بين وجهات النظر تلك ووجهات نظرهم الذاتية.

يقر ستيفن يانو بأنه اعتمد في التأصيل لنظريته هذه على خبرات وكتابات العديد من الباحثين، فاستند على نصائح كل من “تشايم بيرلمان” و”لوسي أولبركتيس تايتيكا” في الطريقة التي يجب اعتمادها حتى يتحقق الوجود السليم للمناظرة. كما استعان بتمرين التفكير النقدي الذي ابتكره “بيتر إلبو” كأسلوب لتعليم فن الكتابة عبر لعبة الشك. ذلك أن العصف الذهني يعد عنصرا ضروريا في توليد المعرفة المتجددة وهو من أفضل السبل لاكتشاف أن فكرة ما تستحق الاستبعاد أو الرفض.

تبنى ستيفن يانو كذلك تصور “بيتر إلبو” في أن بناء الرؤيا الصحيحة لقضية ما تأتي بالنظر إلى جانبها الإيجابي والسلبي كمفتاح لاكتمال ممارسة التفكير النقدي. ذلك أننا في حاجة إلى تشجيع الطلبة على تبني الأدلة، وكذلك على استبعادها. ولا شك أن المناقشة الحرة والجدل الصحي يحققان كلا الأمرين بكفاءة عالية.

على هذا الأساس، حدد لنا الشكل الذي يجب أن تبدو فيه المناظرة، حيث يجب أن تتوفر بعض الخصائص المهمة، أولها أن يكون العنوان المطروح معبرا عن موضوع وليس في صيغة سؤال، وإنما قضية تحتمل القبول أو الرفض. وثانيها أن يكون هناك زمن محدد ليحظى الخطاب بدرجة مقبولة، وأن يكون هناك ترتيب للمتحدثين. كما ينبغي أن يتاح توجيه أسئلة من يتحدث للأخر كجزء من سلسلة الحوار. ويستعرض مثالا لمناظرة أشرف عليها مع الطلبة الذي درسهم، مع الإشارة إلى أنه محاضر مشهور في المناظرة والبلاغة، يدرس النظرية والنقد وأساليب التدريس في الخطابة. له أبحاث واسعة النطاق، بما في ذلك حول مواضيع مثل تاريخ المناظرات الجامعية وتدريس الخطابة. كما سبق له أن ألقى محاضرات أمام جمهور في اليابان وأوكرانيا والمكسيك وسلوفينيا وصربيا وإيطاليا. وهو محاضر ضيف منتظم في جامعات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة.

لا يكتمل تنزيل رؤية ستيفن يانو لمسألة اعتماد المناظرة كآلية لتعليم التفكير النقدي لطلبة الجامعات دون إدخال تكليف تقليدي واحد للمناظرة في كل فصل دراسي، ودعوة الجمهور العام للحضور فيه، إذ ستمثل خطوة ممتازة لمساعدة الطلبة سواء منهم من كان ضمن الجمهور، أو على المنصة، في استكشاف جوانب القضية ذات الصلة بأي مقرر دراسي، بما في ذلك التحدث باسم تخصصهم. كل ذلك، حتى تساعد المناظرات على ترسيخ سلوك وممارسة التفكير النقدي، بحرية، ليس داخل فصول دراسية معينة فحسب، وإنما كجزء من المقومات التي تسبغ على مقر الجامعة خصوصا في تبني التحدي الفكري.

إن فكرة اعتماد المناظرة كتقنية حديثة لتعليم الطلاب التفكير النقدي هي فكرة بيداغوجية بديعة ومبادرة علمية راقية، لما رآه ستيفن يانو فيها من نجاعة وفعالية في التفكير واستعمال الوسائل الحجاجية للإقناع. كما أن الفكرة القائمة على قيام الطلبة بالانخراط في المناظرات بدلا من وسائل التدريس التقليدية، تنبع من أن التدريب عليها، يساعد الطلبة على عبور الفجوة بين تصورهم وتعلمهم للتفكير النقدي، وبين حياتهم اليومية التي يعيشونها بالمواقف التي تحتاج التقييم. فعندما يتم التركيز على ممارسة التفكير النقدي في السياق العام للدور الثقافي للجامعة، فإن ذلك يساعد الطلبة على الفهم الأفضل للدور الحيوي للتفكير النقدي في الحياة الاجتماعية.

وفي بلادنا، يعرف الجميع بأن عدد كبير من رجالات الدولة وأساتذة القانون والقادة السياسيين ينتمون لأجيال تربت على المناظرات والترافع سواء داخل الساحات الجامعية أو في السجون… مما يبرز الدور الكبير الذي لعبته المناظرات في تكوين شخصياتهم وصقل مهارات الترافع لديهم.

والحالة هاته، وأمام تذمر الجيل الحالي من فراغ الحياة المجتمعية من النقاش الفكري الحر ومن الأنشطة الثقافية اللازمة، بشكل يطرح التساؤل حول مهام ووظائف مؤسسات التنشئة الاجتماعية والثقافية في البلد. فإنه صار لزاما حسب رأيي إحداث خلخلة إيجابية في نظامنا التربوي والتعليمي، باعتماد ميكانيزمات بيداغوجية وفنية جديدة، كتقنية المناظرة وغيرها، تشجع التلاميذ والطلبة على السواء، على الانفتاح والابتكار والترافع الجيد وصقل الشخصية والتفكير النقدي الحر والتحليل المنطقي السليم بغية إثبات الذات وفرض الوجود. لأن حاضر ومستقبل بلدنا هو بيد الجيل الحالي والأجيال التي تليه، والطريق نحو وضعه في أمان هو الاجتهاد والنهوض بمنظومة التفكير ببلادنا، من المدرسة إلى الجامعة، مرورا بجميع أطوار التحصيل الدراسي. فالتفكير هو أساس التغيير… والتغيير ضروري من أجل التطوير.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. شكرا جزيلا على هذا المقال وهذا التحليل العميق. مقال متميز ونوعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى