
إصلاح المسار الديمقراطي بين الحرية والتحكم الإيجابي
بقلم عبدالله أيت شعيب
مع الأسف الشديد، ما يحدث في بلدنا من تعثرات ومواجهات، ولعقود، يبرهن بالملموس على أن الكثير من طبقاتنا السياسية والمثقفة والأمنية والإدارية والإعلامية وغيرها، بل والشعب كله، غير مهيأة لممارسة الحرية والديمقراطية، بحيث لا يرضى أحد بأحد… ولا يثق بعضنا في بعض… ولا نؤمن بتداول السلطة… ولا نؤمن بضرورة احترام نتائج الاقتراع…
وبالتالي نلجأ لوسائل وأساليب لا ديمقراطية وغير مقبولة لإجهاض المسار الديمقراطي ولفرض غير ما أقرته نتائج الإقتراع… !!
نعم… السلطة يجب أن تكون للشعب… ولكن كيف نقوم بذلك ونحن لم نهيء هذا الشعب ليكون في مستوى تلكم السلطة…؟
كلامي هذا ربما لن يعجب الكثيرين… خذوا منه ما شئتم واطرحوا منه ما شئتم.. ولكن، في رأيي، هذه هي الحقيقة المرة التي يجب أن تناقش…
*هذه الحقيقة تجعلني أحيانا أظن أننا مازلنا في حاجة للتحكم، ولو لفترة محددة،…!! مازلنا في حاجة للتحكم الإيجابي…!! مازلنا في حاجة للتحكم من أجل صيانة الثوابث والمقدسات، ولكن لا لحماية اللوبيات… مازلنا في حاجة للتحكم من أجل الإقلاع…!! مازلنا في حاجة للتحكم حتى نبني عنصرا بشريا مؤهلا…!!*
اطرحوا للنقاش إذن، بكل صراحة، فكرة، “*التحكم من أجل الضبط… التحكم لتجنب الانفلاتات… التحكم من أجل صيانة الثوابت… التحكم من أجل المصالح العليا للبلاد… التحكم من أجل وضع الإصلاحات الأساسية على سكة الإقلاع… التحكم من أجل بناء عنصرا بشريا مؤهلا… ضرورة التحكم الإيجابي الانتقالي… الخ”*،…
هذه فقط فكرة للنقاش، ولكن *الأصل في الأمور هو ضرورة احترام “الاختيار الديمقراطي” الذي نص الدستور في فصله الأول على أنه من الثوابت الجامعة للأمة*..” انتههى المقتطف.
*تحليل النص: بين معضلة الديمقراطية وضرورة التحكم الإيجابي:*
حين كتبت هذا المقطع في “المغرب إلى أين؟ صيحة من أجل الوطن” (2021)، كنت أطرح إشكالية جوهرية ما زالت تؤرقني: *كيف يمكننا تحقيق ديمقراطية حقيقية في مجتمع لم يتأهل بعد لممارستها بالشكل المطلوب؟*
لقد انطلقتُ من واقع نعيشه جميعًا، حيث نرى كيف تتحول الديمقراطية، في غياب ثقافة سياسية ناضجة، إلى صراعات لا تنتهي، وتشكيك متبادل، ورفض للتداول السلمي على السلطة. هذه الحقيقة المرة دفعتني إلى التساؤل بجرأة: *هل نحن مستعدون فعلًا لممارسة الديمقراطية؟ أم أننا بحاجة إلى مرحلة انتقالية من “التحكم الإيجابي” لإعادة ضبط المسار؟*
التحكم الإيجابي، كما أطرحه، ليس قمعًا للحريات، بل هو ضبط للمسار الديمقراطي حتى لا يتحول إلى فوضى أو يُختطف من قِبل المصالح الضيقة. إننا بحاجة إلى مرحلة يتم فيها بناء وعي سياسي حقيقي، وترسيخ ثقافة احترام نتائج الاقتراع، وتعزيز الثقة بين مكونات المجتمع.
لكنني، في الوقت نفسه، أدرك أن هذا الطرح يثير تساؤلات جوهرية، منها:
* *كيف نضمن أن التحكم الإيجابي سيظل مرحليًا وانتقاليًا ولا يتحول إلى ذريعة للسلطوية؟*
* *ما هي الآليات والضوابط التي تضمن ضبط المسار دون المساس بجوهر الديمقراطية؟*
* *هل يمكن إيجاد نموذج متوازن يستفيد من تجارب دولية سبقتنا في هذا المسار؟*
* *كيف يمكن تجسيده عمليًا دون أن يتحول إلى أداة لكبح الحريات بدل توجيهها؟*
هذه الأسئلة تعكس جوهر الإشكالية المطروحة في مفهوم *”التحكم الإيجابي”*، وهذا النقاش ليس مجرّد ترف فكري، بل هو جوهر مستقبلنا السياسي، لذلك أدعوكم جميعًا إلى التفاعل معه بكل صراحة، لأن مصير الديمقراطية في بلادنا يعتمد على مدى قدرتنا على الجمع بين الحرية والانضباط، بين الإرادة الشعبية وحماية الاستقرار، بين التغيير وضمان عدم الانزلاق نحو الفوضى.
*فما رأيكم؟ هل نحن بحاجة حقًا إلى “تحكم إيجابي”؟ أم أن المسار الديمقراطي يجب أن يُترك يسير بدون أي تدخل؟*
لفهم هذه الإشكالية بشكل أعمق، دعونا نسلط الضوء على كيفية تطبيق هذا المفهوم عمليًا…:
قبل ذلك، لا بد من التذكير بأن *المغرب دولة ذات نظام ملكي دستوري ديمقراطي واجتماعي*، وفقًا للفصل الأول من الدستور. فالملك، بصفته أمير المؤمنين ورئيس الدولة، يُعد الضامن لاستقرار المؤسسات، وصون ثوابت الأمة، والتي تشمل الإسلام، والوحدة الوطنية، والملكية، والخيار الديمقراطي.
غير أن الديمقراطية لا تتحقق بمجرد سنّ القوانين أو إقرار المبادئ الدستورية، بل هي *مسار يتطلب بناءً ثقافيًا ومؤسساتيًا عميقًا*. ومن هنا ينبثق جوهر فكرة *”التحكم الإيجابي”*، باعتباره آلية لضبط المسار الديمقراطي بما يضمن عدم انحرافه نحو الفوضى أو الاستغلال، ويؤدي إلى بناء دولة قوية بمؤسسات ناضجة، قادرة على ضمان الحقوق والحريات دون أن تتحول الديمقراطية إلى مدخل للاضطراب والتجاذبات العقيمة…:
*1. ضرورة التحكم الإيجابي: بين النظرية والتطبيق:*
يبدو من خلال الطرح أن التحكم الإيجابي ليس غاية في حد ذاته، بل وسيلة مرحلية تهدف إلى ضمان انتقال ديمقراطي سليم. لكن الإشكال يكمن في كيفية تطبيقه دون أن يتحول إلى أداة للهيمنة السياسية.
*2. الآليات العملية لتطبيق التحكم الإيجابي دون المساس بالحرية:*
يمكن ضمان نجاح هذه المرحلة الانتقالية عبر آليات واضحة، منها:
* *التدرج في تحرير الممارسة الديمقراطية:*
بدل إطلاق الديمقراطية في بيئة غير مهيأة، يتم تحريرها تدريجياً وفق مراحل محددة.
وضع معايير موضوعية للتدرج، مثل تعزيز الوعي السياسي، تحسين النظام التعليمي، وإصلاح الإعلام.
* *ضمان استقلالية القضاء والإعلام:*
يجب أن يكون القضاء ضامناً للحريات، بحيث لا يُستخدم التحكم الإيجابي كأداة لإقصاء الخصوم السياسيين.
الإعلام يجب أن يكون محايدًا وملتزمًا بنشر الوعي بدل أن يكون أداة تبرير لأي تحكم غير مبرر.
* *إشراك المجتمع المدني والأحزاب في عملية الإصلاح:*
يجب ألا يكون التحكم الإيجابي قرارًا فوقيًا فقط، بل يتم بالتشارك مع القوى السياسية والنخب المثقفة.
إنشاء مجالس استشارية من المفكرين والسياسيين والمجتمع المدني لمراقبة الإصلاحات وضمان عدم الانحراف نحو الاستبداد.
* *ربط التحكم الإيجابي بمدة زمنية واضحة:*
تحديد مدة زمنية لهذه المرحلة الانتقالية مع وجود مؤشرات تقييم واضحة لنجاحها.
عدم ترك المجال مفتوحًا لتحكم دائم تحت ذريعة عدم نضج الديمقراطية.
* *إصلاح النظام الانتخابي وتكريس ثقافة التداول السلمي للسلطة:*
ضمان نزاهة الانتخابات واعتماد آليات تحصنها من التزوير أو التلاعب.
وضع برامج لتثقيف الناخبين حول دورهم ومسؤوليتهم في بناء ديمقراطية سليمة.
*3. كيف نضمن أن التحكم لن يصبح ذريعة للسلطوية؟*
* وضع إطار قانوني صارم يحدد صلاحيات هذا التحكم بحيث لا يتحول إلى استبداد.
* تشكيل هيئات مستقلة لمراقبة القرارات السياسية ومدى توافقها مع أهداف الإصلاح الديمقراطي.
* اعتماد مبدأ المحاسبة والشفافية بحيث تخضع جميع إجراءات التحكم الإيجابي للمراقبة من طرف المؤسسات التشريعية والقضائية.
*4. كيف يمكن تحقيق التوازن بين إرادة الشعب وضبط الفوضى السياسية؟*
* التوجيه لا يعني المصادرة، بل وضع ضوابط عقلانية تمنع الفوضى وتحافظ على الديمقراطية.
* الفصل بين التدخلات الهادفة لضبط المسار الديمقراطي، وبين التدخلات التي تعيق حرية التعبير أو تمنع المنافسة السياسية النزيهة.
* عدم تبرير أي فشل في المسار الديمقراطي بضرورة التحكم، بل العمل على معالجة أسبابه البنيوية (التعليم، الوعي السياسي، استقلال المؤسسات، القضاء العادل…).
*5. الخلاصة:*
*التحكم الإيجابي يمكن أن يكون أداة إصلاحية إذا تم ضبطه بآليات واضحة ومراقبة مجتمعية، لكنه قد يتحول إلى استبداد إذا لم تكن هناك ضمانات كافية لتحديد مدته وأهدافه*. إذن، لا بد من:
✔ وضع معايير دقيقة لقياس نجاحه وفشله.
✔ التأكد من أنه وسيلة انتقالية وليس سياسة دائمة.
✔ التزامه بمبادئ الديمقراطية الحقيقية وليس مجرد وسيلة لتجميل واقع غير ديمقراطي.
*نماذج تاريخية وتجارب دولية تُجسد “التحكم الإيجابي”!*:
التاريخ لم يكن يومًا مجرد سرد للأحداث، بل هو كنز من الدروس والعبر! كثير من الدول التي وصلت اليوم إلى مصاف القوى العظمى لم تحقق ذلك بين عشية وضحاها، بل مرت بمراحل من التحكم الإيجابي لضبط مسارها، وتوجيه ديمقراطيتها نحو النضج، ومنع الانزلاق إلى الفوضى.
وبالتالي حتى في الأنظمة الديمقراطية الراسخة الحالية، هناك تدخلات لتوجيه المسار الديمقراطي وضبطه، ومنها:
* *فرنسا بعد الثورة:* بعد سقوط الملكية، غرقت البلاد في فوضى دموية، مما دفع نابليون إلى فرض سيطرة قوية لإعادة الاستقرار، قبل أن تتطور فرنسا لاحقًا إلى نموذج ديمقراطي قوي.
* *ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية:* بعد الهزيمة المدمرة، فُرضت مرحلة من “التحكم الموجه”، حيث تدخلت السلطة لضبط الإصلاحات السياسية والاقتصادية، مما أدى لاحقًا إلى بناء ديمقراطيات متقدمة دون التخلي عن النظام والانضباط.
* *الصين الحديثة:* رغم الانتقادات، استخدمت الصين تحكمًا استراتيجياً سمح لها بتحقيق نهضة اقتصادية عملاقة، حيث وجهت الدولة عملية التطور قبل أن تفتح المجال تدريجيًا لحرية اقتصادية محسوبة.
* *سنغافورة:* استخدمت قيادة قوية لضبط المشهد السياسي والاقتصادي قبل فتح المجال للديمقراطية بشكل أوسع.
* *كوريا الجنوبية:* مرّت بمرحلة تحكم إيجابي قبل أن تنضج تجربتها الديمقراطية.
* *إسبانيا بعد فرانكو:* رغم أنه كان نظامًا سلطويًا، فإن المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية تمت بضبط مؤقت سمح ببناء مؤسسات قوية.
* *الولايات المتحدة وأوروبا الغربية:*
تُستخدم آليات ضبط انتخابية وقانونية لضمان عدم صعود تيارات شعبوية متطرفة قد تهدد الاستقرار.
يتم التحكم في الإعلام عبر قوانين صارمة ضد الأخبار الزائفة والتأثير الأجنبي.
هناك لوبيات قوية تؤثر في السياسات، وهذا نوع من “التحكم غير الرسمي”.
* *اليابان وألمانيا:*
الحكومات تتدخل في الاقتصاد والسياسات الاجتماعية لضمان استقرار البلاد، وهو شكل من التحكم الإيجابي الاقتصادي.
تُفرض شروط صارمة على الأحزاب والجماعات السياسية لمنع ظهور حركات متطرفة.
* *فرنسا والمملكة المتحدة:*
رغم ديمقراطيتهما، تتحكم الدولة في بعض القرارات المصيرية، مثل ضبط الهجرة، قوانين الأمن القومي، والتحكم في الحريات العامة عندما ترى أن هناك تهديدًا للوحدة الوطنية.
*4. هل يمكن للدول النامية الاستفادة من نموذج التحكم الإيجابي المتقدم؟*
نعم، ولكن بشروط، أهمها:
1️⃣ أن يكون التحكم مؤقتًا، وليس مبررًا للبقاء في السلطة دون مساءلة.
2️⃣ أن يكون هدفه بناء مؤسسات قوية ومستقلة، وليس مجرد إدارة الوضع القائم.
3️⃣ أن يكون مصحوبًا بإصلاحات حقيقية في التعليم، الاقتصاد، والإعلام.
4️⃣ أن يتمتع بآليات رقابية فعالة تمنع استغلاله سياسيًا.
*الخلاصة:*
*التحكم الإيجابي لا يتعارض بالضرورة مع الديمقراطية، بل يمكن أن يكون وسيلة لتعزيز نضجها إذا طُبِّق بحكمة وشفافية، كما هو الحال في بعض الدول المتقدمة. ومع ذلك، في الدول النامية، يكمن التحدي في ضمان ألا يتحول هذا التحكم إلى ذريعة لقمع الحريات، مما قد يؤدي إلى استبداد دائم ونظام ديكتاتوري يُجهض أي إمكانية لترسيخ ديمقراطية حقيقية ومستدامة وبناء مؤسسات ديمقراطية قوية.*
هذا رأيي المتواضع الذي أضعه بين أيديكم، نابع من قناعتي وإيماني بضرورة التوازن بين الحرية والاستقرار، وبين الديمقراطية والحكمة. فإن أصبتُ فذلك بفضل الله وتوفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان.
أسأل الله أن يصل هذا الطرح إلى من يملكون سلطة القرار، وأن يجد صدًى لدى كل غيور على هذا الوطن العزيز، ليكون خطوة في مسار الإصلاح، لا تعبيرًا عن موقف فردي فقط، بل دعوة للتأمل العميق والعمل المسؤول.
*نحن أمام لحظة تاريخية تستوجب وضوح الرؤية، وشجاعة الموقف، وإرادة الإصلاح الصادق، بعيدًا عن الشعارات الجوفاء والمصالح الضيقة.*
إن بناء ديمقراطية حقيقية لا يتحقق بالفوضى، ولا يُختزل في صناديق الاقتراع وحدها، بل هو مسار طويل يتطلب حكمة في التدبير، ونضجًا في الوعي، وتحصينًا للمكتسبات، حتى نضمن لوطننا استقرارًا مستدامًا، ولمواطنينا حقوقًا مصانةً وكرامةً محفوظة.
*”إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ*” (هود: 88).
اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على Telegram تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على X