العنف في المغرب.. مشاهد من الواقع وتحديات من أجل المستقبل
الكاتب – د. مصطفى تاج
تلقى الرأي العام الوطني قبل أسابيع خبر الاعتداء الشنيع الذي تعرضت له الأستاذة هاجر العيادر بكثير من الاستغراب والاستهجان، وزاد التأثر سلبا بعدما انتشر الفيديو الذي يظهر الأستاذة مدرجة بدمائها فيما يتجمع حشد من الناس حولها بلا حول ولا قوة. هذه الواقعة خلقت نقاشا كبيرا خصوصا أن الجاني لم يكن إلا تلميذا من تلامذتها، وأن الحادثة وقعت في منطقة أرفود بالجنوب الشرقي للمملكة المعروفة أصلا بالأمن والأمان وبهدوء وسكينة سكانها.
فماذا وقع لأخلاقنا؟ ولماذا أصبح دم نسائنا مستباحا؟ وكيف ذلك والأمر يتعلق بالأحرى بمربية وأستاذة؟ ما الذي تغير في منظومتنا القيمية؟ وكيف تسرب العنف إلى المؤسسات المفروض فيها القيام بالتربية والتنشئة الاجتماعية؟ أسئلة من ضمن أخرى تتناسل وتطرح نفسها للنقاش.
وتزداد إلحاحية فرض الأسئلة لنفسها علينا خصوصا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، حيث تفاجأ الجميع مرة أخرى بفيديو من فاس يظهر فيه شاب في مقتبل العمر يعتدي بلا أسباب تذكر وبدون مقدمات على عامل نظافة باستعمال سكين حادة، متسببا له في أضرار خطيرة على مستوى الوجه. وكذلك الأمر، وقع في مناطق أخرى متفرقة، حيث تناسلت ولازالت تتناسل بشكل يومي فيديوهات عن اعتداءات يقوم بها في الأغلب شباب ويافعون اتجاه ضحايا يكون أغلبهم من النساء، فيما يرافق الاعتداء سرقات موصوفة.
وعلى سبيل الذكر لا الحصر، في نواحي القنيطرة، رجل يستغل ضعف وحاجة امرأة مطلقة وأم لثلاثة أطفال لعمل إضافي، فيحاول اغتصابها، ولما قاومت، قام بالاعتداء عليها بالضرب والجرح، مما تسبب لها في جروح عميقة على مستوى الوجه، بل أفسد وجهها بالكامل وتركها مدرجة في دمائها.
تتكرر المشاهد… شاب بنواحي الصخيرات يوثق بالصورة لحظة مهاجمته لأبناء حيه وطعنهم بالسيف في واضحة النهار، ويظهر مباشرة بعدها على فيديو عبر صفحته على الفايسبوك متهكما على ضحاياه متوعدا إياهم بالمزيد… شاب أخر في القنيطرة يحتجز شيخا قيل أنه والده في غرفة في أحد السطوح ويهدد بذبحه… وشاب ثالث في ورزازات يظهر في فيديو مصور حاملا سيفا وهو يهدد رجال الشرطة ويكسر واجهة إحدى المحلات التجارية. وفي نفس الأسبوع، شباب كثر في كل من أكادير والحوز ومناطق أخرى يقومون بأعمال مشابهة… فما هذا المسخ؟
أكثر من ذلك، وجدت بقايا جسد شخص بأحد مساجد ابن احمد التابعة لإقليم سطات. ولما تم فتح تحقيق في الواقعة، تبين بأن الجاني لم يكن إلا شيخا ملتحيا معروفا في المنطقة بمرضه النفسي وبتعدد سرقاته واعتداءاته… لم يكتف الشيخ المجنون بقتل الضحية، بل لجأ إلى التمثيل بجثته وسلخ لحمه عن عظمه وطحنه وانتزاع كبده من جسده وشوائه وأكل جزء منه، ورمى ما تبقى من أطراف الجثة المقطعة في بالوعات مراحيض المسجد. فيا للقرف.
للأسف، العنف يتخذ أشكالا نسائية بصيغة أنثوية أيضا، شابة في مقتبل العمر في مراكش بعدما شرملت صديقتها، وتركت ندبة أبدية على وجهها، وبعدما قضت عقوبتها الحبسية، تفتتح خروجها من السجن بالتهكم عبر مشاهد مرئية الكترونية على ضحيتها، وتكيل لها ولأبيها السباب، فيما تظهر في الفيديوهات وهي تدخن لفافات الحشيش منتشية بما فعلت وبما لا زالت تفعل. وامرأة أخرى في نفس المدينة تعتدي على سائق طاكسي وتتمادى في تعنيفه.
فما هذا العبث؟ وما هذا التردي؟ وما هي الأسباب التي أوصلتنا إلى هذا المستوى من الانحدار القيمي؟
لقد ارتفع منسوب العنف داخل المجتمع في أواخر هذه الأسابيع بشكل غير مفهوم وغير معقول، مما يستنفر الضمير الجماعي الوطني بضرورة الوقوف على هذه الظاهرة قبل أن تتحول إلى معضلة عامة، خصوصا وأن وسائل التواصل الاجتماعي أضحت متخمة بفيديوهات توثق لحوادث الضرب والجرح والاعتداءات، مما أصبح يؤرق بال المواطنين، وأصبح يشكل هاجسا خطيرا يزرع الخوف في النفوس ويدعو إلى مراجعة شاملة لمنظومتنا القيمية وللأدوار المنوطة بكل من الدولة والسلطات الأمنية ومؤسسات التنشئة الاجتماعية جميعها.
وإن كان العنف مرتبطا في الأذهان بالحروب وبأساليب التعذيب في المعتقلات، فإن العنف اليوم يكاد يكون ظاهرة مجتمعية بامتياز، حيث استشرت أنواع عديدة من العنف، نذكر منها العنف المدرسي والعنف الأسري والعنف ضد المرأة والعنف في الملاعب… مما يعكس نقصان منسوب التسامح والتآلف والتضامن داخل المجتمع في مقابل ارتفاع منسوب القسوة والتوحش والكراهية.
إن المشكل لم يعد في وجود العنف في حد ذاته، لأن العنف موجود بشكل فطري في الإنسان، منذ واقعة قابيل وهابيل. بل في اتساع مساحة ممارسات العنف وازدياد معدلات الجرائم واستفحال ظواهر التشرميل والسرقة والاغتصاب… بحيث لم يعد للعنف مجال محدود في المجتمع، بل استشرى في القرى كما في المدن وضواحيها، وانتشر في جميع المؤسسات والوحدات الاجتماعية. فنجده في الأسرة وفي المدرسة وفي الشارع، وداخل مقرات العمل والأحياء السكنية وحتى داخل وسائل النقل المختلفة، وعبر وسائل الإعلام ومختلف الوسائط الاجتماعية… بحيث يكاد يصبح فعلا اجتماعيا اعتياديا.
كما أن العنف لم يعد مقتصرا بفئة معينة من الناس، بقدر ما أصبح منتشرا في صفوف مختلف الأصناف العمرية، ابتداء من الأطفال إلى الكبار والشيوخ مرورا بفئة اليافعين، التي تقبل على ممارسة العنف بشكل حماسي بحكم التحولات السيكولوجية والفيزيولوجية التي تفرضها عليهم مرحلة المراهقة. وفي هذا يستوي كل من الذكور والإناث.
لقد اتفق كل من رواد المدارس النقدية والسيكولوجية والبنائية الوظيفية على أن العنف يعتبر نتاجا للظروف الاقتصادية والاجتماعية والنفسية الصعبة التي يعيشها أفراد المجتمع، والتي تتمثل في الأوضاع الهشة ومعدلات البطالة المرتفعة وظروف العمل الصعبة وضغوطه، وكذا الخلافات الأسرية وارتفاع نسب الطلاق والتفكك الأسري والفقر والأمية وارتفاع منسوب الأنانيات والفردانية والاكتئاب والأمراض النفسية والعزلة المرضية… إلى غير ذلك من المسببات… وللأسف كل هذا ينطبق على حالتنا حسب تقارير المندوبية السامية للتخطيط.
وإذا كنا نتفق إلى حد ما مع خلص إليه عالم الاجتماع بيير بورديو بأن الدولة نفسها مسؤولة عن مثل هذه الظواهر، باعتبارها منتجة للعنف، وتمارسه بشكل رمزي على أفراد المجتمع، من خلال المدرسة ووسائل الإعلام، فإننا نعتبر بأن المجتمع نفسه له دور فيما آلت إليه الأمور للأسف الشديد. وذلك بتخليه بشكل تدريجي عن القيم الإنسانية والإسلامية والوطنية التي كبر عليها أباؤنا وأجدادنا، والتي توصينا بالرحمة والتآلف والتعاون والتكافل فيما بعضنا البعض بعيدا عن كل مظاهر العنف كيفما كانت.
إن بلادا مثل المغرب، ظلت متراحمة وقوية بقوة إرادات قبائلها ومواطنيها وسكانها طيلة قرون، خلقت أنظمة وطقوسا اجتماعية مبهرة، مثل “التويزة” وأرست لنظام وقفي متميز واستثنائي، لا زال إلى يومنا هذا يؤدي بعض أدواره، ليس عصيا عليها أن تستثمر في التوعية والتثقيف على أساس نشر قيم التراحم والتآزر والتعاون، وكل القيم الإيجابية الأخرى، بغية خلق أجيال من الطفولة والشباب قادرين على الفعل الإيجابي داخل المجتمع، وقصد القضاء نهائيا على كل مظاهر العنف كيفما كانت مسبباتها ومحفزاتها وبؤرها.
ويبقى أكبر مدخل لتحقيق هذا الانعطاف في نظرنا هو الاستثمار في التعليم وفي تثقيف الأسر عبر وسائل الإعلام المختلفة، باعتبارها مؤسسات للتنشئة الاجتماعية منوط بها نشر قيم التسامح والتآزر والتعاون. كما يجب استثمار لحظة النقاش العام حول منظومة القانون الجنائي للقيام بالتعديلات المطلوبة التي تنتصر للتوعية والتحسيس قبل الجزر والعقاب، وتنتصر للاستباق قبل ردود الفعل، وكذلك بما يجعل المؤسسة السجنية مؤسسة للإصلاح والتهذيب والتربية على المواطنة، حتى نقطع مع منسوب حالات العود المرتفع وغير المنطقي.
لقد قطعت بلادنا طوال ربع قرن مسارات حافلة من التنمية والدمقرطة والتحديث على مستوى وثائقها المؤسسة ونظامها الاقتصادي والاجتماعي وبنياتها التحتية، كما أن السلطات الأمنية المتعددة والمتنوعة طورت من آليات عملها ومن جودة تدخلاتها، وهذا مهم جدا. لكن يبقى حاضر ومستقبل البلاد مرهون بالاستثمار في العقول وفي الأجيال الحالية والمستقبلية، حتى نضمن مغربا متسامحا متقدما يعيش فيه الجميع بكرامة وعز وتسامح وسلام.