ماذا قال فقراؤنا .. عبد النبي رجل طيب يقتات من أوساخ الآخرين

هبة بريس ـ عبد الله عياش

هناك “سد عالي ” يفصل بين الفقراء والأغنياء..هناك كثرة تأكل الجوع وقلة تجتري التخمة .. هناك إستيلاء فاحش على الثروة ولتطويق هذا النهب يمجدون القناعة بتلك القولة الشهيرة ” الفقر ماشي عيب

هناك أرواح بشرية تعيش على الهامش تموت ببطيء تنتظر سعادتها المؤجلة بالجنة ..وهناك قلة تمتطي الأكتاف تردد على مسامع الفقراء شعارات “الصبر” و ” القناعة ” و ” الحلال الطيب ”

بين الفقراء والأغنياء هوة شاسعة مؤلمة …والذي قال بأن الفقر ليس عيبا، كان يريد أن يكملها ويقول: بل جريمة، ولكن الأغنياء قاطعوه بالتصفيق الحاد .

في هذه السلسة … سنداهم بالموافقة حياة مغاربة يعيشون الويل والدمار النفسي …مهمتنا تقتصر على الإستماع والمشاهدة والتدقيق في الأسباب والتوقف كثيرا عند الإهتمامات و الخلاصات ..فتحنا هذا الباب وكلنا أمل أن يجسد في الأرض رأي أفلاطون عندما قال: “يجب ألا يكون بين المواطنين سواء الفقر المدقع أو الثروة المفرطة لأن كليهما ينتج شرا عظيما” .

يقول عبد النبي.. انه ملاذ كل رجل اثقلته الأوساخ وارهقه العياء ..كل ادوات العمل لديه لا تتجاوز كيسا صغيرا للحك ونفس كبير لتحمل عناء الحرارة التي يتصبب لها عرق الزبون والكسال معا ..يحك الجلد لإزالة الاوساخ ويحرك العضلات بالتدليك حتى يصل الزبون الى دروة الاسترخاء ..

في حديثه لنا قال عبد النبي أن حرفته مثقلة بالعناء الجسدي والنفسي ..زمن العمل لديه يتفاوت من يوم لاخر حسب وفرة الزبائن ..وما يقاس من عذاب يومي يمكن ان يغطي سنوات لدى البعض ..وحتى وهو بدون زبائن لا يمكن ان تتوقف الاشغال لديه فهو يقوم باعمال اخرى من بينها تنظيف أروقة الحمام أو المساعدة في إدخال الحطب على المكلف بعملية وضعه في الفرن.

عبد النبي ..لحظة المنادة عليه من طرف بعض الزبائن ..يتسلح بالصبر طالما وصالات الحمام تذوب فيها الأوساخ والروائح الكريهة التي تنتشر بسبب عرق المستحمين ..

“طرف اديال الخبر” ..انا هنا من اجل عائلتي ..احرم نفسي من الراحة ولا احس اطلاقا بكياني كرجل يعيش الحياة ..فانا مجرد جسد يشتهي الاكتفاء وسط الاوساخ ..اغسل ابدان الناس دون كلل ولا ملل بمقابل قدلا يتعدي 30 درهم للتكسبة الواحدة .

رسالة عبد النبي ..ماعندنا فين نمشيو على هذا الحرفة ..خاصنا التغطية الصحية

رغم خدماته التي يصعب على الشخص العادي القيام بها، إلا أن الكسال لا يشترط على زبنائه ثمنا محددا.., كل كلامه حيال تعويضه لا يتعدي ” باش ماسخاك الله ” ويمني الأمل أن يكون زبونه متفهما لوضعه .. انه عمل شاق بتعويض هزيل يقول عبد النبي

كان كلامه قصيرا للغاية .. لكنه كان يعاود الحديث عن ازماته كلما حل بعائلته مرض ..قال بلهجة قاسية ..” راحنا بشر حتى احنا خاصنا تغطية صحية ..علاش مناديب الشغل مايخرجوش ايشوف من حالنا ةاش حنا ماشي عمال .. علاش مايخرجوش ايراقبو هذا الحمامات واش كيدكلاريو بينا ”

كان بين الفينة والاخرى يتأسف لحصيلته المالية التي جناها 14 سنة من العمل ..ود أن يغضب في لحظات كثيرة لكن احترامه لشخصنا ارغمه على التريث …. يستشعر بالحكرة لكن البديل مفقود …يتودد للجميع من اجل خبز مصبوع بالعياء والارهاق والعذاب

عبد النبي لم يكن جاهلا ..فهو مثقف اجبر على مزاولة حرفته تحت الاكراه في ظل غياب بديل ..عبد النبي طلب من “هبة بريس” ان نختم كلامه بقولة غاية في الوضوح ..أكد انه يتردد على سماعها في كل حين..هي العبارة نفسها التي نحبها لانها تتكلم عنا جميعا بالتفويض .. ندرجها تلبية لرغبة عبد النبي الذي انهى الحديث طالبا منا شرب كأس شاي

سيقنعونك أن الفقر ليس عيبا ، وأن الله يحب الفقراء أكثر ، وأن النبي عليه الصلاة و السلام كان فقيرا ، وأن القناعة كنز لا يفنى ، وأن الزهد فضيلة ، وأن الطمع زذيلة ، وأن الطيبة هي رأسمال الفقراء ، وأن الأغنياء هم محض مصاصي دماء .

نوع جميل من المخدرات ، ستجعلك تتسمتع بفقرك ، تستلذ بحاجتك ، ترضى بضعفك و قلة حيلتك !!

لن يحدثك أحد عن عثمان وجيش العسرة ، ولا عن طلحة وسخائه ، ولا عن الزبير وعقاراته ، ولا عن ابن عوف وتجارته ، ولا عن ابن أبي وقاص وصدقاته ، رضوان الله عليهم أجمعين .

لن يحدثك أحد عن استعاذة سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه من الكفر و الفقر ، ولا أن اليد العليا خير من اليد السفلى ، ولا أن المؤمن القوي خير عند الله من المؤمن الضعيف .

بل سيقولون لك إنه لا بأس أن تكون ( فقيرا ، ضعيفا ، محتاجا ) فحينها ، لن تسأل ، لن تنتقل لمرحلة تطالب فيها بأكثر من قوت يومك ، لتتساءل فيها عن الظلم ، عن الانبطاح ، عن الاستضعاف ، فحينها ، ستصبح مزعجا ، متطفلا ، متجاوزا لمكانتك ، حينها ستفكر ، ستخطط ، ستعمل ، و ربما ستنتصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى