
“في معنى أن تكون ديمقراطيا؟”
د. الكاتب : د. مصطفى تاج
” أسوأ ديمقراطية في الدنيا أفضل من أعدل دكتاتور ” – محمد الماغوط
أن تكون ديمقراطيا، يعني أن تؤمن بأركان الديمقراطية وتتمثل مبادئها، وهي أن السيادة للشعب، الذي يجب أن يحكم نفسه بنفسه، وذلك عبر تفويض من يمثله في المؤسسات المنتخبة، التي يجب أن تكون بدورها في خدمة الشعب في البدء وفي الختام. وأن الحكم يجب أن يكون قائما على رضا المحكومين وبإرادتهم، وذلك عبر انتخابات حرة ونزيهة وشفافة تفضي بالضرورة إلى حكم الأغلبية مع ضمان حقوق الأقلية، وضمان التعددية السياسية والاقتصادية والمدنية.
أن تكون ديمقراطيا يعني أن تؤمن بمجموع القيم والمبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية، وأن تتمثل الديمقراطية كأسلوب حياة، وتحرص على تطبيقها في حياتك الشخصية والعملية والسياسية والاجتماعية. فالديمقراطية تستند بشكل كبير على فكرة المواطنة، التي تعني تحمل المسؤولية اتجاه المجتمع والعمل على تطويره. فأن تكون ديمقراطيا يعني أن تساهم في تحسين البيئة التي تعيش فيها، سواء من خلال العمل التطوعي، ودعم القضايا النبيلة. أو التصدي للاستبداد ولمظاهر الفساد ولمجموع الممارسات التي تضر بالمجتمع وبالمسار الديمقراطي داخله.
أن تكون ديمقراطيا، يعني أن تعي بأنك تتمتع كما الآخرين بمجموعة من الحقوق والحريات، وأن تحرص على ممارستها بكل موضوعية وتجرد، وأن تؤمن بالاختلاف وتحترم حقوق الآخرين في التعبير عن آرائهم والمشاركة في صنع القرارات العمومية وتتبعها وتقييمها ونقدها ومحاولة تقويمها. فالديمقراطية الحقيقية تزدهر في بيئة تحترم التنوع والنقد والتعددية، والرهان على تحقيقها يتجلى في النجاح في تقبل النقد وبناء جسور التفاهم والتعاون بين مختلف التيارات السياسية والحساسيات المدنية والاجتماعية، بعيدا عن أي مظهر من مظاهر التعصب والتطرف.
أن تكون ديمقراطيا، يعني أن تتعامل مع جميع من حولك على قدم المساواة، بغض النظر عن خلفياتهم الجنسية والدينية والعرقية والايديولوجية أو انتماءاتهم السياسية أو الطبقية أو القبلية. وأن تؤمن وتعترف بتعدد الآراء والأفكار والأيديولوجيات والانتماءات، وأن تسعى إلى التعايش السلمي بين مختلف المجموعات. فالديمقراطية لا تقبل بأي شكل من أشكال التمييز أو التهميش، بل تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية للجميع. والمساواة هي الأساس الذي يبنى عليه أي مجتمع ديمقراطي، حيث تضمن حقوق الأفراد وتفتح لهم المجال للمشاركة في صنع القرارات.
أن تكون ديمقراطيا يعني أن تكون على دراية بأسس الديمقراطية ومبادئها وبقوانين بلدك وأعراف مجتمعك وأن تحرص على الاطلاع بشكل مستمر على القضايا العامة الاجتماعية والاقتصادية ومستجدات الساحة السياسية، وأن تكون مشاركا إيجابيا في الديناميات التي يعرفها مجتمعك. بما يعني أولا وقبل كل شيء أن تتحمل مسؤوليتك في التصويت، والمساهمة في النقاشات العامة، والانخراط في الأنشطة المجتمعية والسياسية. فالديمقراطية لا تقتصر على البعد التمثيلي عبر الانتخابات فقط، بل تتحقق كذلك عبر البعد التشاركي، بالحوار المستمر بين من يملك السلطة وبين الديناميات المجتمعية، لضمان تحقيق مصلحة المجتمع بأكمله.
أن تكون ديمقراطيا يعني أن تؤمن بفصل السلطات وتعاونها وتوازنها وبسيادة القانون وأن تلتزم مهما كان موقعك بأن تكون جميع السلطات والمؤسسات خاضعة للقانون، وأن تسعى كغيرك لضمان استقلالية القضاء ونزاهته. فالديمقراطية تعني خضوع الجميع، بما في ذلك المؤسسات الحاكمة، للقانون. فالإيمان بسيادة القانون وسيلة لتحقيق العدالة. والديمقراطية لا تتحقق إلا بتبني قيمها ومبادئها كاملة غير منقوصة.
ولأن تحقيق الديمقراطية لا يتوقف عند تمكين المواطنين من حقوقهم السياسية فقط، وإنما يتطلب الأمر أيضا تمكينهم من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية… وعلى رأس هذه الحقوق يأتي الحق في تعليم جيد وميسر، وضمان صحي ناجع، ومنافسة اقتصادية نزيهة مبنية على تكافؤ الفرص، وظروف مناسبة للعيش الكريم، وحماية اجتماعية متكاملة الأركان، واعتراف رسمي بالتعدد اللغوي والثقافي والعرقي والقبلي وبالجذور والأصول التاريخية والاجتماعية والثقافية المتنوعة. حيث لا يمكن للإنسان أن يكون حرا سياسيا إذا كان يعاني من الفقر والهشاشة والتهميش، أو غير معترف بهويته كاملة.
فالديمقراطية ليست مجرد نظام حكم مبني على دستور وقوانين وقائم على احترام دورية الانتخابات ونتائجها، على أساس حكم الأغلبية…وفقط. بل هي نظام متكامل الأركان، يقوم على احترام الإرادة العامة، وتوفر شروط الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص وفصل السلط وتعاونها وتوازنها، وسيادة القانون، واستقلال القضاء، والمشاركة المواطنة والمتنوعة والفعالة، والتعددية السياسية والثقافية واللغوية، وربط المسؤولية بالمحاسبة ونشر الثقافة الديمقراطية في صفوف الأجيال المتعاقبة… فالتعليم والتنوير ضروريان لإنجاح الديمقراطية، لأن المواطنين يحتاجون إلى الوعي الديمقراطي ليختاروا بذكاء. وبدون تحقق هذه الشروط المذكورة جميعها، تتحول الديمقراطية إلى مجرد واجهة مزيفة وديكور سياسي فارغ من جوهرها الحقيقي.
أن تكون ديمقراطيا يعني أن تنطلق من نفسك أولا، وأن تحاول أن توفق بين مصالحك الشخصية ومصالح من هم حولك، وأن تستمع جيدا قبل أن تحكم على الأمور، وتؤمن بقيم التسامح والواقعية والبراغماتية الإيجابية لما فيه مصالح الجماعة، وأن تسعى لتحقيق آليات التوافق والتراضي والتعاون والتوازن والتكامل بين جميع الديناميات المكونة للمجتمع. وهي آليات تحقق الاستقرار السياسي لممارسة الديمقراطية بشكل أمثل وأنجع. بغية الوصول إلى مستويات عالية من النمو والتقدم والتطور والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
أن تكون ديمقراطيا ليس مجرد شعار أو موقف سياسي ظرفي، بقدر ما هو التزام مستمر بالقيم والمبادئ التي تجعل المجتمع أكثر حرية وعدلا وإنصافا. ذلك أن الديمقراطية تتطلب العمل المشترك والتعاون بين الأفراد والمؤسسات لضمان احترام الحقوق وتحقيق المساواة. فأن تكون ديمقراطيا يعني أن تؤمن بقدرتك وقدرة بقية المواطنين من حولك على بناء مستقبل أفضل من خلال الحوار والحوار المستمر، المشاركة المواطنة الإيجابية والفعالة، والاحترام المتبادل الدائم. فالديمقراطية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تزدهر في بيئة تسودها الفردانية والأنانية أو ثقافة الإقصاء والتمييز.
لكلهذا، ولأن المجتمعات البشرية تتطور شيئا فشيئا، فإن واجبك لكي تكون ديمقراطيا مساهما في تحقيق الديمقراطية حولك، أن تمارسها داخل أسرتك وعملك وفي محيطك، وأن تشجع على ممارستها، وأن تناضل من أجل تحقيقها. فكل خطوة منك ولو بدت صغيرة، قد تساهم في بناء مجتمع أكثر ديمقراطية. لهذا لا تنتظر من الحاكمين ومن مسيري مؤسسات الدولة أن يحققوا الديمقراطية لوحدهم. بل ابدأ بنفسك، وكن نموذجا للوعي والممارسة الديمقراطية في كل تصرفاتك وتفاعلاتك اليومية. كن ديمقراطيا تنشأ الديمقراطية من حولك. فلا ديمقراطية بدون ديمقراطيين.
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على Telegram تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على X