‎المُجتمع المَغربي المقهُور وصِناعة التّفاهــة

في وقتنا الرّاهن تعتبر شبكات التواصل الإجتماعي الوِعاء الأكثر جاذبية وإغراء في الشبكة العنكبوتية “الانترنت”، ويرجع الأمر إلى أنھا متاحة للجميع بلا شروط أو قواعد، فالجميع يمكنه استخدامها واللجوء إليها دون شرط أو قيد، والكل من حقه أن يلجھا كالجاهل والمنحرف والمجرم والنصاب… فلا حدود ولا مزايا لمن يريد استخدامها، ومن أھم المميزات السلبية في هذه الخدمة العالمية المفروضة ھو إنعدام المعايير التي تحفظ للمواهب مكانھا وتعطيها حقها وقيمتها الحقيقية.

ففي المغرب ھناك عددٌ ھائِلٌ يقبل بشكل منقطع النّظير على الركض وراء الفضائح والفيديوهات غير الهادفة التي لا تعدو أن تكون ترفيهية أو تشھيرية تنمرية، لكن بشكل مبالغ فيه، فلن يستطيع أولئك التافھون الذين يعتلون عرش منصات وسائل التواصل الاجتماعي أن يصبحوا نجوما من فراغ لولا متابعتنا لهم ونشرنا لأعمالهم، والدافع إلى مشاھدة المغاربة لھم أن عقولھم لا تتماشى كثيرا مع الفكر والقراءة لكنها تجد ضالتها في إشباع حاجاتها من خلال الإقبال على الاعمال التي توصف بالتافهة، كمتابعة أشخاص اكتسبوا شهرة من خلال فعل جنوني أو من خلال فضيحة اقترفوها أو حتى عمل غبي أوصلهم إلى قائمة الأعلى مشاهدة على منصة اليوتيوب، أو المجاھرة بكل وقاحة بالقيام بأفعال تثير غضب واشمئزاز المجتمع.

فإذا كانت عملية التصوير فيما مضى تتطلب مالا ووقتا ولكنها تبقى خاصة وحميمية لا تنشر ويحتفظ الشخص بصوره لنفسه، فإن اليوم أصبح كل من يملك كاميرا يصور كل شيء، وحين يصور أتفه شيء يكون مرشحا لأن يصبح نجما من لا شيء، مثلا يكفي أن يقول كلاما مضحكا يستحسنه زوار اليوتيوب للسخرية منه ويتم نشره على نطاق أوسع، لكن هذا لا يعني أن الأمر بريء مطلقا، فالحكومة تساھم في تغذية المواد التافهة لكي يزداد الاستحمار لدى أغلب مكونات المجتمع وهناك جهات تستفيد من هذا الوضع وتعمل على مأسسته وتسويقه واستعماله عن الحاجة ، يكفي ترويج فضيحة جنسية وتسريب مشاهد حميمية لأنها ستنسي الجميع وبسهولة مُعتقلي حرية الرأي والتعبير والمطالب الاجتماعية المشروعة …

فالحكومة ساھمت في تغذية مستنقعات التفاهة بعد إفساد الإعلام العمومي عبر زرع البرامج الترفيهية التافھة المبالغ فيها وصرف أموال طائلة في ذلك على حساب برامج راقية وهادفة، كأن يقدم الاعلام العمومي في أحد البرامج طفلا عرف بعبارة ” عطيني بيكالتي” على أنه النموذج في حين أن عبارته كانت نتيجة طبيعية لبيئة ولد فيھا وليس مسؤولا عنھا. تفتقد فيھا أدنى حقوق الطفل، لكي ينشأ نشأة سليمة، وصاحب ھذا البرنامج ھو نفسه استھزأ من المتطابقات الھامة وھي أحد القواعد الأساس لمادة الرياضيات فضرب النموذج في ذهنية التلميذ، ليأتي الدور بعد هذه البرامج المنحطة التي يقدمھا إعلامنا العمومي على مواقع اليوتيوب التي لا تفرض عليها قيود غالبا من الحكومة، ويكون الزائر لليوتيوب حرا في انتقاء ما يريد مشاهدته.

وقد ساھمت الحكومة بصمتھا وعدم التدخل وتفعيل القانون في انتشار التفاھة، حتى أن البعض يرى أن السلطات تدفع نحو تنصيب “نجوم تفاهة” في حرب معلنة ضد كل ما هو مفيد وهادف في مواقع التواصل الاجتماعي فترى النتيجة أن شبانا من الدارالبيضاء والرباط سألهم أحد الصحافيين عن لاعبي كرة القدم وعن نجوم التفاهة فأجبوا باستفاضة حتى مل الصحافي وبعدها سألهم عن سورة الإخلاص لم يعرفوھأ ، وهذا يبرز مدى اهتمام الشعب.

شخصيا لست ضد هؤلاء على الإطلاق ، بل نحن في أشد الحاجة لدراسة المجتمع ومعرفة حاجياته السيكولوجية الجديدة ، أجدني منبهر بشخصية مثل شيخة ميلينكس وأجده شخصية تستحق الوقوف معها وبعمق ، الرجل ليس تافها بل يدرك ما يريد وقد توفق في حصد ملايين المشاهدات ومتابعة شرائح واسعة ومختلفة ، وربما صار مرآة يرى المغاربة وجوههم فيه ، إذا الرجل يُلبي رغبة مكبوثة تحتاج لتحليل نفسي للبنية الذهنية للمغاربة ، نحن أمام قائل لما تريده الجماهير التي صارت بدورها تشكل الأغلبية .. مِنّا من يريد أن يسمع أو يرى : كلام نابي ، رقص ، استهزاء ، سخرية ، قهقهة ، تطلاع الطوبية ، تمركين بلغة الحبّاسة ، نعم ، كلها وسائل التنفيس على مجتمع مقهور … ومن النتائج لما يقع أن هذه الشبكات أصبح لھا تأثير على سطحية التفكير لدى جزء كبير من المغاربة، فسابقا كان التفكير أعمق والمقال والعمود كان أعمق كذلك، وكانت النقاشات الثقافية والفكرية ينخرط فيها المهتمون والمفكرون من جميع الاطياف والتيارات الفكرية والثقافية “طه عبد الرحمان، محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، علي أومليل،…” والآن أصبح سطحيا وأصبحت المعلومة بلا معنى، بلا تحليل ، وبلا تفكير وهذه هي مشكلة العصر الرقمي . فالنجم اليوم في شبكات التواصل الإجتماعي ليس المفكر وليس الكاتب وليس المثقف بل هو شيخة ميلينكس وولد الشينيوية وساريكول ومي نعيمة ومؤخرة الشيخة الطراكس وغيرها من ذوي الأرداف السمينة ، وكلما زادت تفاهة هذا النجم أو وزن مؤخرته زادت نجوميته ، مما يجعلنا اليوم نجد أنفسنا أمام مأزق وجودي غير مسبوق وتفريغ قهر سياسي واقتصادي واجتماعي بكل ماله صلة بالتفاهة ، إذا التَّفاهة تعوض عقاقير الطب النفسي للمجتمع المغربي المهدور والمقهور والمغدور …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى