” لوْجه المشروكْ عمْرو ما يصْفا ” المثل الذي تصرخ به مرافقنا
ظاهرة تحمل أكثر من دلالة
يتساءل المرء بكثير من الذهول ، وهو يذرع شوارعنا أو يلج أحياءنا ، لماذا يتدافع الكثير من المغاربة إلى الإساءة ؛ من حيث يعلمون أو لا يعلمون ؛ إلى المرافق العمومية والخدْمات المشتركة ، وكأنها لا تمت بصلة إليهم أو هي في نظرهم مجرد فضاءات للتخلص من فضلاتهم والتعبير عن عدوانيتهم . نلاحظ هذا في الشارع العام وفي الحافلة المهترئة والطرقات وعلى متن القطار وكذلك “الحدائق العمومية” ؛ أكواما مبعثرة من النفايات تؤثث زوايا الأزقة والدروب وبوابات العمارات ، وكدمات ورضوض باتت السمة العامة لحافلاتنا إلى جانب منافذ مهشمة ومقاعد لم تعد تحتفظ سوى بهياكل حديدية ؛ ترتج ضلوعها دوما كلما أقلعت … كما أن آثار التخريب والتمزيق تطالعك وأنت تهم بحجز مقعدك داخل قطار .. وتبلغ بك الدهشة أوجها حينما تحاول استعمال دورة المياه !
والمفارقة الغريبة هي في وجود اهتمام بمرافقنا الداخلية بمنازلنا وبيوتاتنا ؛ نتعهدها بالنظافة والرعاية ، لكن إذا تعلق الأمر بمرفق مشترك كالدرج والمصاعد والسطوح .. فثمة وجه آخر يعكس عدوانية بغيضة ومجانية أحيانا ، وكأن لسان حالنا يقول : ” أنا ومن بعدي الطوفان ” ! فماذا يكمن وراء هذا العداء تجاه المرفق المشترك ؟ ماذا يعكس السلوك بهذه اللامبالاة والتجاهل لكل قواعد سلامة البيئة الطبيعية والاجتماعية ؟
لماذا المشترك محل نزاع ؟
قد تعود جذور هذه الظاهرة إلى أساليب التربية التي اعتادتها معظم الأسر المغربية مع أبنائها ؛ والقائمة على الاستفراد بالمهام والمسؤوليات دون إشراك الآخر ، أو النظر إلى مرافق المنزل كما لو كانت قصرا على شخص معين ؛ فوقوع اختلالات بها لا يستدعي اهتمام “الجميع” ، مثلا تعرض النافذة لشروخات ما تستدعي ؛ في الدرجة الأولى ؛ اهتمام الأم أو الأب ، كما أن عطلا بالسيارة كثيرا ما يقود الأب وحده إلى استعراض تداعياته ، كالتأخر في التحاقه بالعمل وفي غياب تام لوعي الأبناء به ، مما يجعلهم يزيحونه من اهتماماتهم .
فالتربية المبكرة على صيانة المشترك هو أمر أساسي وجوهري في بناء وعي جماعي ؛ ينسحب على الأسرة كما ينسحب على الجوار . وهذا ما يدفع بالمواطن إلى ردود أفعال تلقائية إزاء كل حالة غير اعتيادية ؛ يلاحظها في محيطه أو بالقرب منه ، كأن تلاحظ امرأة شخصا يحاول القذف بنفاية ما من خلال نافذة ؛ حتى ولو كانت بمنزل مجاور ؛ فتنزعج وتسارع إلى إبلاغ الشرطة .. وينسحب هذا المثال أيضا على مشاهدة شخص يحاول العبث بأزهار الحديقة ، أو حيوان يتعرض للتعذيب . وفي جميع هذه الحالات وغيرها يهب الأشخاص بقصد النجدة أو إبلاغ دوائر الأمن المختصة ؛ على النقيض تماما من مجتمعات لا تهتم بالمشترك أو تتعامل معه بعدوانية ولامبالاة ، كما لو كان خارجا عن دائرة وجودها ولا يمت بصلة إليها .
ولعل هذا التأسيس من عدمه في قضية المشترك يمتد أثره إلى المجتمع ، فالكثيرون لا يأبهون بالمرافق ما كانت معطوبة أم لا ، أو يستعملونها كما لو كانت خارجة عن دائرة خصوصياتهم ، وهو ما يمكن رصده من خلال شخصين متواجدين في مجتمع واحد ؛ أحدهما تلقى تربية قائمة على احترام المشترك فإذا ما تناول العلكة جعل يبحث عن صندوق للنفايات ليرمي فضلتها ، عكس الثاني الذي يقذف بها أنى تأتى له .
وقد نجد لهذه الظاهرة امتدادات أخرى أكثر خطورة ؛ منها المعاملات التجارية والتي تحمل طابع “الشركة” بين ثلاثة أشخاص أو أكثر ، والتي ينتهي إقبارها داخل ردهات المحاكم لانعدام روح “الثقة” بين شركائها ، ودبيب الخلاف بينهم حول أشياء صغيرة وتافهة .
حمل المجتمع على احترام المشترك
هناك مجتمعات تنبهت مبكرا لهذه القيم الحضارية المشتركة فلجأت إلى سن قوانين زاجرة وإشارات منبهة .. نصبتها في جميع المرافق ، في الطرقات العامة في الحدائق وفي الأحياء ، فضلا عن تسجيلها على الكثير من علب المنتوجات الاستهلاكية معززة إياها بغرامات تجاه كل الخروقات ، مما حمل على تكريس الوعي بهذه القيم المشتركة بين أفراد المجتمع وصيانته للمعايير الحضارية وترسيخ وجودها في السلوكات الفردية والاجتماعية . ولتبيان أثر هذه التربية على المشترك ، يمكن إيراد مجموعة من المؤشرات فيما يلي :
* مآثرنا وأسوارنا التاريخية المكشوفة تنبعث من جنباتها روائح تزكم الأنوف ؛ تشعر الزائر بعدم الاقتراب منها ؛
* المراحيض عسير وجودها ، وإذا وجدت فعسير استعمالها ؛
* القمامة بالكاد تؤثث شوارعنا وحاراتنا ؛
* النفايات يقذف بها عادة في كل اتجاه ؛
* باحات ومحطات المسافرين تعد منبرا للنزاعات بين أرباب الحافلات والسائقين ، فضلا عن كونها مرتعا للنصابة ؛
* درج العمارات ملوثة باستمرار وأبوابها مخلوعة أو مهشمة في أفضل الحالات ؛
* منافض السجائر داخل المقاهي لا أثر لها وحتى إن وجدت يتم تحاشيها من طرف معظم المدخنين ؛
* الحدائق تتحول إلى مرتع للعب وطمس معالمها الخضراء ؛
* الشواطئ هي الأخرى تتحول في الصيف إلى موائد طعام متنقلة ومصرف للنفايات والفضلات ؛
** بينما نجد ؛ في مجتمعات أخرى تربى أفرادها على صيانة المشترك ؛ وجود روادع وتنبيهات باحترام المرافق المشتركة أينما حللنا ؛ سواء داخل الأسواق أو في قارعة الطريق أو على الرصيف أو المنتزهات ..