دعوى “تحريف” القرآن وحلُّ عالِمٍ مغربي للإشكال ؟!

يعد مبحث النسخ من أهم مباحث علم أصول الفقه، حيث لا يمكن للمجتهد أن يستنبط حكم الشارع من أدلته التفصيلية دون إلمامه ومعرفته بالناسخ والمنسوخ، سواء في القرآن أو في الحديث.
وقد اتفق علماء الأصول على أن النسخ في آي القرآن موزع على ثلاثة أنواع:
أولها: نسخ معنى الآية دون لفظها ورسمها، أي نسخ الحكم دون التلاوة.
ثانيها: نسخ لفظ ورسم الآية وكذا معناها، أي نسخ الحكم والتلاوة معا، وإبطال اعتبارها من القرآن.
ثالثها: نسخ لفظ ورسم الآية وبقاء معناها، أي نسخ التلاوة دون الحكم.

ومما كان يُمَثِّل به القائلون بنسخ لفظ الآية ورسمها، إيرادهم لرواية أحمد والنسائي عن زرٍّ قال: قال لي أبي بن كعب: كأين تقرأ سورة الأحزاب؟ أو كأين تعدها؟ قال: قلت: ثلاث وسبعين آية، فقال: أقط؟ لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها: “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله، والله عزيز حكيم”. قال ابن كثير: “وهذا إسناد حسن، وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه أيضا”.

ونظرا لما شكلته هذه الرواية وغيرها من حرج للمسلمين عندما يواجَهون بدعوى تحريف القرآن استنادا عليها، فقد انبرى العلامة الإمام عبد الله ابن الصديق، بما حباه الله به من حس نقدي اجتهادي، إلى رفع هذا الحرج بتبيان تهافت متنها رغم صحة سندها، وذلك بانتقاده لعلماء الأصول قاطبة، حيث خالفهم في جواز نسخ لفظ ورسم آي القرآن الكريم، معتبرا أن النسخ نوع واحد وهو نسخ الحكم دون التلاوة، وجعل النوعين الآخرين من قبيل المحال، مستدركا عليهم في ذلك بجزءٍ فريد لم يُسبق إليه قط، وسمه بـ: “ذوق الحلاوة ببيان امتناع نسخ التلاوة”، وهو منشور بالمجلد العاشر من موسوعته تحت باب: “أصول الفقه”.

ومما قاله العلامة ابن الصديق حول هذا الجزء، ما يلي: “فهذا بحث لم أسبق –والحمد لله- إليه، ولا غُلبت –والمنة لله- عليه، وهو يتعلق بنسخ تلاوة آية من القرآن، أي: نسخ لفظها بعد أن كانت من القرآن، فلا تبقى قرآنا. وهذا هو ما خالفت فيه علماء الأصول قاطبة، ومعهم المتخصصون في علوم القرآن الكريم، وكتبت هذا الجزء لبيان ما ذهبت إليه، والاحتجاج له بدلائل قطعية لا تبقي شكا في صحة قولي، ولو تفطن لها المتقدمون ما عدلوا عنها”.

ومن جملة الأدلة التي استدل بها العلامة ابن الصديق على مذهبه القائل بامتناع نسخ التلاوة، ما يلي:
أولا: أن هذا النوع من النسخ يستلزم القول بـ “البداءَ”، وهو ظهور المصلحة في حذف الآية بعد خفائها، وهذا ما يقتضي الإقرار بسبق الجهل وحدوث العِلم تبعا لما يستجد من وقائع، وهذا في حق الله تعالى محال.

ثانيا: أن تغيير اللفظ بغيره أو حذفه بجملته، إنما يناسب البشر لنقصان علمه وعدم إحاطته، ولا يليق بالله الذي يعلم السر وأخفى.

ثالثا: أن ما قيل: أنه كان قرآنا ونسخ لفظه، لا نجد فيه أسلوب القرآن ولا طلاوته ولا جرْس لفظه.

رابعا: أن منه ما يخالف أسلوب القرآن. قال تعالى: “الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة” [النور: 2]، فالزانية مقدمة على الزاني. لكن، إذا قرأت: “الشيخ والشيخة إذا زنيا” كما مرَّ بنا، وجدت الزاني مقدما في الذكر على خلاف الآية السابقة، وهذا يقتضي أن تقديم أحدهما كان مصادفة لا لحكمة، وهذا لا يجوز؛ لأن المقرر المعلوم أن ألفاظ القرآن الكريم موضوعة وضعا حكيما، بحيث لو قدم أحدهما عن موضعه أو أُخِّر اختل نظام الآية.

خامسا: أن ما ورد في سبب نسخ هذه الجملة من القرآن أخبار منكرة مردودة، بيَّنها العلامة ابن الصديق باختصار في ذات الجزء (تراجع في مظانها)، ومنها: ما رواه الحاكم عن كثير بن الصلت قال: كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص يكتبان المصحف، فمرا على هذه الآية، فقال زيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة”، فقال عمر: لما نزلت أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: أكتبها؟ فكأنه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم”.

فقد أنكر العلامة عبد الله ابن الصديق متن هذه الرواية ورَدَّه من وجوه:
أحدها: كراهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكتابة آية الرجم، إذ كيف يكره كتابة آية نزلت عليه ؟!
ثانيها: اعتراض عمر رضي الله عنه عن تلك الجملة، إذ كيف يعترض عما يعتقد أنها آية أنزلت من عند الله تعالى ؟!
ثالثها: نسخها بمجرد الاعتراض عليها، إذ لم يكن الله ليحذف آية من القرآن بسبب اعتراض بعض المكلفين عليها ؟!
سادسا: أن تلك الجمل التي كانت من القرآن فيما قبل، جاءت مقتطعة لا رابط يربطها بآيات القرآن الكريم، ولم ينقل لنا أين كان موضعها في المصحف الشريف.

سابعا: أن خواتيم سورتي البقرة وآل عمران، وما فيهما من دعاء وتوجه إلى الله تعالى بأسلوب في نهاية البلاغة، إذا وازنته بما قيل إنها كانت سورة “الحفد”، وجدت الفرق بين كلام الله وكلام البشر.

ثامنا: أن القرآن، وكما تقرر في علم الأصول، لا يثبت إلا بالتواتر، وما لم يتواتر لا يكون قرآنا، والكلمات التي قيل بقرآنيتها ليست بمتواترة، فهي شاذة، والشاذ ليس بقرآن ولا تجوز تلاوته.

تاسعا: أن السنة النبوية وقع فيها نسخ المعنى، أي الحكم، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه رجع عن لفظ من ألفاظ حديثه، أو بدَّله بغيره، أو قال للصحابة رضوان الله عليهم عن حديث: لا تحفظوه فقد نسخت ألفاظه أو رجعتُ عنه، فما بالك بالقرآن الكريم الذي هو كلام الله تعالى.

وبعدما استدل العلامة ابن الصديق على مذهبه بهذه الأدلة، استشكل على عموم الأصوليين والقائلين بنسخ تلاوة القرآن إشكالا دقيقا: ذلك أن علماء الأصول قد عرفوا الحكم الشرعي بأنه “خطاب الله المتعلق بفعل المكلف”، وخطاب الله كلامه، وهو قديم، ومعنى نسخ لفظه ورسمه أن الله تعالى غير كلامه القديم بحذف آية منه ؟! وهل يقال إن الآية المنسوخ لفظها كانت من كلام الله ولم تعد منه والله تعالى يقول: “لا مبدل لكلامته”، وقال أيضا: “لا تبديل لكلمات الله” ؟!

وقمين بالذكر، أن جل الباحثين الذين درسوا موضوع الناسخ والمنسوخ بعد إصدار هذا الكتاب، إن في الشرق أو الغرب، اعتمدوا عليه وتأثروا بثمرة ما انتهى إليه. والغالب على المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري أنه لم يطلع عليه، ولو تسنى له ذلك لأشار إليه في كتابه الموسوم بـ: “مدخل إلى القرآن الكريم”، ولَمَا جنح إلى كثير من مُخرجات بحثه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى