انتخابات ماما فرنسا

 أيوب رضواني

ضعوا الأقلام، و انتبهوا للسبورة !

الكلام موجه لسياسي المغرب، و المدرس ليس عبد ربه، بل ماما فرنسا تقدم درسا في السياسة لتلاميذها الكسالى، الذين يتفوقون في المواد الثانوية، و يسقطون سقوطا مدويا في مواد المعامل 7 و 8.

انتخابات الدور الأول الفرنسي التي جرت قبل أيام و أفرزت تأهل مرشح الوسط إمانويل ماكرون و مرشحة الجبهة الوطنية مارين لوبان، قدمت دروسا في السياسة و الديمقراطية و التعدد.

أثبت تلك الاستحقاقات أن فرنسا، و بعيدا عن أعطاب نموذجها الاقتصادي و الاجتماعي، تبقى مدرسة عريقة لنظام سياسي استطاع جمع ما لا يجمع، و تصريف رغبات و توجهات شعب بأكمله داخل قنوات الشرعية، بعيدا عن المسالك الموازية من عنف و تصفية للخصوم بالقوة المسلحة، كما حال العرب، الذين لا زالوا يعيدون تمثيل قصة قابيل و هابيل صباح مساء.

إحدى عشر مرشحا، فيهم القوي و الضعيف، بينهم المتهم بالفساد والنزيه، منهم اليميني و اليساري و المتطرف و اللا منتمي .برامج توزعت على الدخل الفردي و العام، انخفاض أعداد الموظفين، البطالة، الأمن الاجتماعي، الأعمال. إضافة للعولمة و الأمن و الهجرة و الدفاع.

مرشحين خاضوا سباقا شيقا في جولة أولى اختار فيها الفرنسيون بكل حرية و نزاهة، دون تدخل سلطات أو توجيه إعلام.

جاءت النتائج متقاربة كما توقعت مراكز الاستطلاع، بحلول إمانويل ماكرون أولا ب 23 في المائة تلته مارين لوبان ب 21 في المائة ثم فرنسوا فيون ب 20 في المائة.

مراكز البحث التي استفادت من أخطاء استطلاعات الرأي في أمريكا و بريطانيا، حيث توقع الخبراء صعود هيلاري كلينتون و بقاء المملكة في الإتحاد الأوروبي، حين سقطت في فخ الأرقام الكبيرة دون التركيز على وزنها و فعاليتها. فدونالد ترامب فاز رغم تفوق كلينتون بملايين الأصوات، و بريطانيا خرجت رغم تصويت كبريات المدن على البقاء.

فخ الأرقام الكبيرة دون أخد النوعية بعين الاعتبار حذر منه الله و رسوله: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْن)ِ. (بَلْ أَنتُمْ يَومَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيل).

في مقابل تنوع المرشحين في انتخابات فرنسا توجها و برامجا، و صدق أنباء مراكز استطلاع، يضل المشهد السياسي داخل الشريك الجنوبي مبلقنا مشتتا، حيث سياسيون يغيرون ولاءاتهم كما يغيرون ربطات أعناقهم.

لا يعرف منهم اليميني من اليساري من الوسطي. لا حديث عن برامج، بل عن لغة الضرب تحت الحزام، حيث يغذوا نقد برنامج حزب برنامجا للحزب المناكف. أما الحزب المجتهد فبرنامجه اختزل في عبارة المعقول، والأرقام هي مصاريف تأثيث غرفة النوم و تجهيز المطبخ.

مراكز استطلاعنا هم باعة الزريعة الذين يتحولون لسماسرة بخبرة كبيرة، يتحركون بنشاط وقت الانتخابات، بهواتف نوكيا بيل المنقرضة، يحددون توجهات الناخبين بكميات )القرفيات( التي يقدمونها، و شيوخ قبائل و دواوير يلفون على المنازل مرة بعلب مواد تموينية ، و تارة بثمن كيس دقيق لا يسمن و لا يغني من جوع.

المتأهلان لنهائيات السابع من مايو في فرنسا يقفان على طرفي نقيض من حيث البرامج. إمانويل ماكرون منفتح على عولمة و متمسك باتحاد أوروبي، بينما مارين لوبان أظهرت قبل الجولة الأولى تعصبا للحدود الوطنية و الهوية الفرنسية، و حمائية تستهدف على حد زعمها الحفاظ على صناعة الداخل الفرنسي.

استقطاب توقعه مركز )أوبينيون واي( في السادس عشر من فبراير، حين قال أن محور محبي و كارهي العولمة يأخذ قسطا وافرا في توجيه اختيار الناخب الفرنسي. 53 في المائة قال المركز إنهم يأخذون عامل العولمة بعين الاعتبار، بينما صرح 44 في المائة بأن حكمهم على المرشح يرجع لانتمائه لليمين أو اليسار.

توقعات مراكز البحث صدقت بصعود المرشحين الذين يغلبون نقطة الانفتاح أو العزلة: ماكرون و لوبان.

انتخابات فرنسا راهنت على شخصية و كاريزمية المتنافسين، القادرين على مجابهة زعماء العالم الأقوياء: فلاديمير بوتن، دونالد ترامب و تيريزا ماي.

فبينما تخلت ماري لوبان طواعية عن زعامة الجبهة الوطنية المتطرفة، حتى تظهر بمظهر مرشحة كل الفرنسيين في الدور الثاني من السباق الرئاسي، تم خلع زعيم أكبر حزب سياسي مغربي كما تخلع الضرس.

بنكيران، الذي يشهد له الصديق والعدو بكاريزمية القائد السياسي، أبعد عن المشهد بشكل مباشر، بعد أن فشل إقصائه عبر إبراز زعماء أحزاب ينافسونه في الشعبوية: لشكر، شباط و العماري.

بالنسبة للمغرب، وعكس توجهات العالم، فإن مرحلة الكاريزما قد ولت، بعد إخماد نار الربيع ببعض العروض المسرحية السياسية، تارة بلقاء المواطنين في التجمعات الشعبية، و أخرى في جلسات المساءلة الشهرية داخل أروقة (لالة برمت لمان)، أيام الله يذكره بخير.

الاستقطاب يمين يسار الذي حل ثانيا في رئاسيات فرنسا من حيث أولويات الناخب، مرشح للعودة بقوة في انتخابات الصيف القادم التشريعية. تماما كما هو حال الاستقطاب في بريطانيا بين حزب العمال اليساري و المحافظين اليميني، و الحزبين الديمقراطي و الجمهوري في أمريكا.

كيف لا؟ و فرنسا هي من علمت العالم أبجديات اليمين و اليسار، حين قامت بثورة ضد ملكها قبل أزيد من قرنين، فجلس السياسيون بغيت تقرير مصير الملكية. اصطف الراغبون في الحفاظ على صلاحيات واسعة للملك يمينا، وجلس الراغبون في تقليصها يسارا.

طبعا، في أجمل بلد في العالم لا مجال للحديث عن يسار أو يمين أو وسط، فالكل تدجن.

اليساري الشيوعي أصبح يقيم مناسك الحج و العمرة دون إعلان تغيير توجهه، واليميني أصبح يحيي دبلوماسيات أوروبا بالوجه متعللا بالحداثة. أم الوسط المغربي فتعرفه بقوله تعالى :مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ.

هم حينا تقنوقراط وحينا سياسيون، حينا عاديون و حينا زعماء، حينا دبلوماسيون و حينا رجال أعمال، وقد يجمعون كل شيئا في فسيفساء قل نظيرها.

قد يقول قائل لا تقارن بيننا و بين فرنسا فلا مقارنة مع وجود فارق؟ !يكون الجواب أن البلد الذي يدعي الحداثة، و يستضيف ملك دولة الأردن فقط ليستعرض أمامه جيوش مدراء المؤسسات العمومية دليلا على منطق شوفوني راني حداتي مؤسساتي، أولى به أن يقلد لب الديمقراطيات بذل قشورها.

الدرس طويل جدا، لكن قدرة التلاميذ على الاستيعاب محدودة، لذلك وجب اختصاره بالإشارة إلى الفارق بين فئتين من الأمم كما ورد في القرآن الكريم.

أمم تمارس السياسة في تدافع بين مكونات المجتمع، فيذهب الغثاء و يمكث ما ينفع الناس:ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين.

و دول مأسست الفساد و جعلت له مبررات بكلمات فضفاضة، حتى تغلل في ضلوعها من أصغر موظف لأكبر مسئول: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ.

صدق الله العظيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى