كيف يوقف فيروس كورونا عمل المحامين في العالم ويحركه في الولايات المتحدة الأمريكية

رشيد وهابي

 

 

أتذكر أنه قبل حوالي ثلاثة عشرة سنة وفي إطار طرح الأسئلة التي تمزج بين الترفيه والثقافة العامة ، كنت أطرح على بعض الأصدقاء السؤال التالي ، من هي بلد المليون محامي ، هل هي دولة الصين التي كان يتجاوز سكانها مليار وثلاث مائة  وثمانية عشرة مليون نسمة  تقريبا سنة 2007  تقريبا مليار ومائة وثلاثة وثمانون مليون نسمة أو دولة الهند التي كان يتجاوز سكانها مليار ومائة مليون نسمة أو الولايات المتحدة الأمريكية التي كان عدد سكانها حوالي ثلاث مائة وواحد مليون نسمة فقط ، وكنت أذكر لهم عدد السكان حتى  يرتبط في ذهنهم عدد المحامين بعدد السكان ، وكان أغلبهم يجيب بأن الصين أو الهند هي بلد المليون محامي ، وكانت مفاجئتهم كبيرة حين أخبرهم بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي بلد المليون محامي ، وهي التي كانت سنة 2007 تحسب فقط  مليون ومائة وثلاثة وأربعون ألف وستة وثلاثون محامي ، وسنة 2019 وصل عدد المحامين بها  إلى مليون وثلاث مائة واثنين وخمسين محامي ، حسب موقع statista .com  الذي قدم إحصائيات عن ارتفاع عدد المحامين بين 2007 و2019 ، وهذا أمر طبيعي لأن المجتمع الأمريكي هو مجتمع محب التقاضي ويتنفس ويعيش بالدعاوى القضائية التي قد يربح من سلوك سبلها في الكثير من الأحيان  مبالغ مهمة  ، وحب التقاضي بالإضافة إلى نظام وأعراف المحاماة في النظام الأنكلوساكسوني التي تختلف بشكل كبير عن النظام التقليدي الذي تعرفه الأنظمة اللاتينية  وتجعل مكانة المحامي في أمريكا مهمة وضرورية في أبسط أمور حياتهم  هي التي ساعدت على ريادة الولايات المتحدة الأمريكية لسلم الأكثر عددا من حيث نسبة المحامين على مستوى العالم . ، و يكفينا أن نذكر فقط مثالا بسيطا لنوضح حجم الهوة  بين المحامين الذين يعملون في الأنظمة اللاتينية والآخرين الذين يمرحون في ملعب أنظمة المحامين الأنكلوساكسونية ليتبين الفرق الشاسع بينهما   ، ففي أمريكا يمكنك أن تجد محامي أو شركة محاماة تقوم بشراء صفحة على ظهر جريدة أو ثواني في مساحة إشهارية لقناة أو على أمواج إذاعة لإشهار خدماتها ، ويمكنك أن تجد محامي يصور نفسه وهو يقبض على سيارة إسعاف ويقوم بعرضها على صفحة جريدة أو مجلة ويقترح خدماته على الزبناء المحتملين ، ويمكنك أن تجد محامي ينتظر أمام باب مصحة ليسأل من يخرج منها ، هل قدمت له بشكل صحيح وسليم  العلاجات أو العمليات التي أجريت له أو لقريبه ويعرض عليه خدماته لتقديم دعوى تعويض تختلف بين التقصير وتصل إلى الخطأ في التشخيص أو العلاج أو القتل الخطأ ضد المصحة من أجل التعويض في حالة وجود خطأ من الأطباء أو الممرضين  أو من كل تصرف مضر أو مهين  من طرف  المصحة أو أطبائها أو ممرضيها  ، فإشهار المحامي لخدماته غير محرم ومتعارف عليه  و غير مخالف لأعرافهم المهنية ، وحتى لا يجرنا الحديث عن المحاماة في أمريكا  للسباحة في محيط المحاماة الأمريكية الذي لا نضبط امتداد شواطئه ولا نعرف حدود أعماقه ، نقف هاهنا لنعود ونقول بأن من بين أكبر المتضررين من فيروس كورونا الجديد يقف المحامون في العالم وزملائهم المغاربة بشكل خاص في أول الصفوف ، لأنهم يعملون في اطار مهنة حرة ولهم التزامات شهرية مرتبطة بكراء المكاتب وأداء أجور المحامين المساعدين والمتمرنين و الكاتبات والكتاب  وفواتير الماء والكهرباء والهاتف ومصاريف تسيير المكتب  ، وبما أن عمل المحامي مرتبط باستمرار العمل بالمحاكم ، و بما أن عمل المحاكم مثلا في المغرب وأعتقد أن الأمر مشابه في باقي الدول توقف بشكل شبه كلي ، لا جلسات إلا بعض استنطاق  المشتبه فيهم الموضوعين في اطار الحراسة النظرية المقدمين أمام  النيابة العامة أو قضاء التحقيق  أو بعض المتهمين المعتقلين المحالين على جلسات الحكم أو جلسات الاستعجالي والتي حسب ما بلغنا أنها تؤخر كلها على حالها وتم البث في عدد قليل جدا من القضايا الاستعجالية فقط   ، لا إجراءات ، غلق أغلب مكاتب المحاكم  ، غلق مكاتب المحامين ، وبما أن المحامي يمارس مهنة حرة وكل ما يكسبه من مال هو نتيجة ما يقدمه له الموكل من أتعاب لتمثيله أمام القضاء ورعاية مصالحه  والدفاع عنها ،  وبما أن أغلب المتقاضين منعهم الحجر الصحي أو الخوف من المرض من التردد على مكاتب  المحامين ، وحتى من كانت له قضايا مفتوحة ، أجل اتصاله بمحاميه لأنه عرف أن العمل في المحاكم والجلسات مؤجلة إلى تاريخ غير معلوم ، كل هذا جعل فئة عريضة من المحامين المغاربة تتضرر منذ بداية الأسبوعين الأولين ، وترفع أصواتها لتطلب من الهيئات مساعدتها في تخطي الأزمة المالية التي تعصف بهم ، وهو الأمر الذي استدعى تدخل مجموعة من هيئات المحامين بالمغرب لتصرف إعانات مالية للمحامين الرسميين والمتمرنين ، ولم يقتصر أمر العُسر الذي لحق بالمحامين بالفئة العريضة منها التي تضررت من أول الأيام ، بل بعد دخول الحجر الصحي وتوقف العمل بالمحاكم للشهر  الثالث ، بدأت طبقة من المحامين ممن لم يتضرروا خلال الأسابيع الأولى وتنازلوا عن مستحقاتهم التي صرفت بعلة أنهم يوثرون على أنفسهم بعلة أن لا خصاصة بهم   ، قلنا بدأت تصلهم حرارة ولهيب التوقف عن العمل التي لا أمل عن قرب انفراجها  ، تُضاف إليها سيولة شلالات المصاريف اليومية لإعالة أسرهم وشراء دوائهم ورعايتهم ماديا   ، وتضاف إليها أداء قروض شققهم أو مكاتبهم أو سيارتهم ، كله هذه المصائب البتي نزلت على جيوبهم جعلتهم يبحثون ويجتهدون في محاولة للبحث عن مخرج لمصيبتهم التي أصابتهم وأصابت كل زملائهم ، وجعلتهم مهنيون عاطلون عن العمل لسبب خارج عن إرادتهم ، فأفتى بعضهم بضرورة تقديم الشكايات عبر البريد الإلكتروني وهو ما سارعت رئاسة النيابات العامة والسادة الوكلاء العامين ووكلاء الملك للعمل به ، ولكن لا نجاح لمثل هذه العمليات أمام عدم  كفاية عدد الموظفين الدين سيسهرون على جرد هذه الشكايات وتوجيهها للضابطة القضائية وكذا أمام  عدم وجود المشتكي الذي سيتقدم بشكايته ، وآخرون طلبوا تقديم الدعاوى بطريقة إلكترونية والجواب عليها بنفس الطريقة ، ولكن أمام  عدم التحاق كل الموظفين وتوقف المفوضين القضائيين عن العمل من سيسهر على تبليغ المدعى عليهم باستدعاءات الجلسات ، وهناك من اقترح عقد الجلسات عن بعد باعتماد بعض التطبيقات التي اشتهرت مع كارثة فيروس كورونا المستجد كتطبيق زوم ، اقتراحات كثيرة كلها تهدف إلى المساعدة في خروج المحامين المغاربة من وضعية الجمود التي أضرت بهم ماديا ومعنويا بشكل غير مسبوق ، ولكن انفراج الأزمة المهنية أعتقد حسب تصوري المتواضع لن ينتهي بشكل نسبي جدا إلا بانتهاء الحجر الصحي وفتح أبواب المحاكم ومكاتبها  كما كانت  وبدأ عقد كل الجلسات ، لأن كل العاملين في مجال العدالة لم يكونوا مستعدين  من قبل  للعمل بطريقة أخرى تخفف من شدة التوقف الشبه الكلي لمرفق العدالة ، ولا يمكن لأفكار كانت وليدة لحظة معينة أن تطبق دون أن تأخذ على الأقل بعض  الوقت لدراستها وتحليلها ، وربما كارثة كورونا المستجد ستسرع مستقبلا من التوجه الذي سطرته مرافق العدالة المغربية بتدرج مدروس ومضبوط لاعتماد وسائل الاتصال الحديثة والتقنيات الحديثة في التحرير وعقد الجلسات والقيام بالإجراءات المتعلقة بكتابة الضبط ، وبعمل المحامين من مكاتبهم بإرسال مقالاتهم ومذكراتهم والأداء عنها ، عوض التنقل للمحاكم .

إذن هذا هو حال المحامين المغاربة وأغلب محامي العالم الذي لا يسر على أي حال مع ما خلفه ومازال فيروس كورونا المستجد . لكن هناك استثناء هو الذي دفعني إلى كتابة هذا المقال، وهو الذي يتعلق بارتفاع الطلب بسبب كارثة كورونا في الولايات المتحدة الأمريكية على  خدمات المحامين والاستشارات القانونية التي يقدمونها لعملائهم أو لمن يطلبها بشكل لا يصدق ،  بل إن هناك شركات محاماة كبيرة أنشأت داخل مكاتبها خلايا أزمة لكي يستمر عملها ولا ينقطع حتى ولو أصيب أحد أفرادها بالفيروس ، وتعمل شركات ومكاتب  المحاماة في الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحالي على تقديم استشارت يومية عن بعد بالبريد الإلكتروني أو على الهاتف ، للشركات التي توقفت عن العمل واضطرت لتسريح عمالها أو للعمال الذين فقدوا عملهم  ،  ويحاولون أن يقدموا أجوبة قانونية لأسئلتهم التي  تتعلق بالكيفية الصحيحة والقانونية  لمعالجة  قانونية للنتائج الكارثية  التي خلفها الفيروس على سوق الشغل   ويساعدوهم على وضع  خطط  تحميهم من كل متابعة قانونية أو تعويض قد يلجأ له  العمال  في الغد لطلبه من المحاكم  وآخرون يقدمون استشارات للعمال التي تحميهم قانونيا وتبقي على حقهم في طلب التعويض مستقبلا بعد انتهاء الحجر الصحي ، والملاحظة التي تبين خصوصية المحاماة في أمريكا أن شركات المحاماة ومكاتبها ممن أغلقت مكاتبها ، لم تغلق مقرات عملها وتأمر  العاملين بها إلى التوجه إلى منازلهم للنوم والأكل وانتظار الفرج بل طلبت منهم العمل عن بعد من منازلهم وتقديم استشارات مكتوبة أو بالصوت والصورة لعملائهم بعد تلقي استفسارات الموكلين ودراستها وضرب موعد لهم للجواب عنها برسالة مكتوبة أو بتواصل مباشر  معهم  ، وهذا التحول في عمل المكاتب الأمريكية راجع إلى كثرة الطلبات المقدمة من العملاء  وطالبي الاستشارة القانونية مع أزمة كوفيد 19 . وباستمرار عمل المحامي الأمريكي في ظل ظروف فيروس كورونا وتجديد طرق عمله وتركيزه على تقديم الاستشارة القانونية المتعلقة بتأثير كورونا على مجموعة من عقود العمل والتزامات الشركات والمقاولات  ، أثبت لنا  هذا الكائن القانوني الأمريكي  الذي يحل مشاكل المتقاضين الأمريكيين  القانونية ويقدم لهم الاستشارات في نزاعاتهم المختلفة أنه نجح في أن يهزم على الأقل فيروس كورونا الذي عطل أعمال وتحركات وأشغال الكثير من المحامين  في مختلف بقاع العالم ومن بينهم من يمارسون في  دول عريقة في مهنة المحاماة كفرنسا التي سمعنا خبر يقول بأن أكثر من 27000 محامي يفكرون بتغيير مهنهم بعد أزمة كورونا ، و التي تابعنا أيضا أن حجم الأزمة التي لحقتهم دفعت الحكومة الفرنسية  إلى ضخ  إعانة لكل محامي بمبلغ 1500 أورو .

وربما الطريقة التي تمارس بها المحاماة في الولايات المتحدة الأمريكية والثقة الكبيرة التي يضعها المواطن والشركات الأمريكية في المحامي  الأمريكي  كمهني ضروري للخروج من كل مشكلة تواجههم واتساع مجال عملهم وتوسعه هي التي قللت ولو نسبيا من تأثير فيروس كورونا على عملهم . وهذا ما يجعلنا نقف على حقيقة  أن بلد المليون محامي لا يمكن لأية أزمة أو طارئ أن يحد من طموحهم للعمل خصوصا إذا كانوا يمارسون في مجتمع لا يتحرك فيه شخص أية حركة دون أن يستشير مع محاميه أو يتأبط يده اليسرى ليرافقه إلى حيث يريد أن يدخل عليهم برفقة دفاعه  .

و تابعنا كيف أنه في الوقت الذي يستعد فيه العالم أجمع ومنهم المحامين  لانكماش اقتصادي ومهني لم يعرف التاريخ الحديث انكماشا مثله ،  يستعد المحامون الأمريكيون المجتمعون في شركات أو الذين يديرون مكاتب خاصة ،  ويعدون  العدة لتصريف النزاعات الكبيرة التي ستغرق المحاكم الأميركية بعد رحيل فيروس كوفيد 19  والعمل على حلها قضائيا ، والتي ستشمل قطاعات متنوعة نذكر منها ، نزاعات الشغل  التي ستترب عن تسريح ملايين  العمال ووقف أجورهم ، والصعوبات التي ستواجهها الشركات وقد تؤدي إلى إفلاس عدد كبير منها  ، وقضايا الديون التعاقدية ، وقضايا التأمينات ، والرعاية الصحية أثناء الفترة التي انتشر فيها الفيروس ، وغيرها من النزاعات الكثيرة المتعلقة بالتجارة والتجار .

وصدق من قال أنه في أمريكا: ” لا يمكنك العيش بدون المحامين ، وبالتأكيد لا يمكنك الموت بدونهم “. جوزيف اش شاوت

“You cannot live without the lawyers, and certainly you cannot die without them.” —Joseph H. Choate

رشيد وهابي ، المحامي بهيئة الجديدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى