الأحزاب السياسية …إلى أين …؟

يمكن اعتبار الحزب السياسي بمثابة تنظيم يعمل على تأطير المواطنين وتثقيفهم سياسيا من أجل خوض الصراع السلمي للوصول إلى ممارسة الحكم.

وقد تعددت التعريفات بهذا الخصوص فقاموس le Robert الفرنسي يصفه بأنه تنظيم سياسي يقوم أعضاءه بعمل مشترك لإيصال شخص أو عدة أشخاص إلى السلطة بهدف نصرة عقيدة أو إيديولوجيا معينة.

وهناك من يربط طبيعة عمل الحزب بالمصالح أكثر من ربطها بالايدولوجيا، وهو ما ذهبت إليه موسوعة لاروس عندما اعتبرته مجموعة أشخاص تعارض مجموعة أخرى بالآراء والمصالح.

وإذا كان أغلب المحللين يجمعون على أن الحزب السياسي هو الأداة المثلى لترسيخ السلوك الديمقراطي، فإن دوره في اعتقادنا يتجاوز التكوين والصراع من أجل السلطة، إلى القيام بدور الوسيط، وصمام الأمان في العلاقة بين الحاكمين والمحكومين عن طريق القيام بدور المعارضة من خلال النقد البناء واقتراح البديل.

وبالتأكيد فإن إعراض الأحزاب في المنطقة العربية عن دورها الأساسي المتمثل في التكوين السياسي للمواطن عن طرق المؤسسات الشبابية والنقابية والثقافية، وتحقيق الديمقراطية الداخلية والتناوب على القيادة، أدى بطبيعة الحال إلى إجهاض المسلسل الديمقراطي وفقدان قدرتها على استقطاب المواطنين رغم الارتفاع المذهل في أعدادها، بل وفي استفحال العزوف عن المشاركة في الاستحقاقات الديمقراطية ومن تم فتور العمل السياسي وتردي الوعي الجماعي بالديمقراطية وهو ما يدعم الممارسات الديكتاتورية، وتنامي الشروخ العميقة بين الحاكمين والمحكومين.

لقد أصبحت المنطقة العربية مختبرا مثيرا للاهتمام بخصوص هذا السلوك.
فبلدان الخليج على سبيل المثال – وباستثناء حالات محدودة مثل الكويت- أعرضت أصلا عن الترخيص للأحزاب السياسية، وعمدت إلى التعيين المباشر حتى في المؤسسات التشريعية مما جعل المعارضة تختفي من الفضاء العام.

أما مصر والتي كانت تعتبر القلب النابض للمجموعة العربية، فقد عرفت التحول منذ انقلاب الضباط الأحرار سنة 1952 عندما أقدم جمال عبد الناصر على تجميد الأحزاب السياسية وإنشاء هيئة التحرير كبديل لها ابتداء من سنة 1953 ،ثم إنشاء الاتحاد القومي الذي استبدل بالاتحاد الاشتراكي العربي.

لقد كانت طموحات عبد الناصر قومية بامتياز، وتتجاوز حدود مصر نحو مجموع العالم العربي، لكن انتكاستها لم تفرز أي بديل ديمقراطي، بل إن المؤسسة العسكرية ظلت هي المهيمن الأساسي على آلية اتخاذ القرار في البلد، بل أصبحت هي القوة السياسية والاقتصادية الموجهة لأحزاب الموالات، بل أن الكثير من الباحثين أصبحوا يعتبرون قوى المعارضة بأنها معارضة مستأنسة ورغم أن رياح الربيع العربي كانت تؤذن بمنعطف جديد إلا أن عودة العسكر إلى فرض نفوذهم عصف بكل تلك الآمال ليعود الوضع القائم إلى ما كان عليه.

أما في تونس- التي اعتبرت كنموذج أمثل في الانتقال الديمقراطي- فقد عرفت تعثرات خلال السنوات الماضية، لم تفض إلا إلى المزيد من الغموض حول مستقبل الأحزاب السياسية التي فاق عددها المائتين، بل وحول مستقبل النظام السياسي. فالعزوف بين فئات الشباب على وجه الخصوص لم يزد إلا ارتفاعا، وسجلت نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية (08/10/2019) حوالي 41% مما يؤكد تلك التكهنات خاصة وأن هذه النسبة كانت مرتفعة سنة 2014 إلى 86% والأدهى من ذلك هو أن المراتب الأولى في الانتخابات الرئاسية لم تكن من نصيب الأحزاب التقليدية، فقد احتل المرتبة الأولى الأستاذ قيس سعيد الذي لا يملك إلا نفسه دون أي رصيد سياسي، كما أن المرشح الثاني نبيل القروي الذي هو زعيم حزب (قلب تونس) لا يزال يقبع في السجن عاجزا عن أي مشاركة في الحملة الانتخابية، مما يعطي صورة غريبة عن هذا الاستحقاق الرئاسي.
وإذا كان الكثيرون يعتقدون أن الأستاذ قيس سيكون هو الفائز، إلا أن القرار التشريعي سيبقى معلقا في انتظار أي توافق ممكن بين حزب النهضة ب 44 مقعدا وقلب تونس ب 33 أو بعقد تحالفات مع أحزاب مجهرية أو مع المستقلين الذين يتوفرون على أكثر من 50 مقعدا.

أما وضعية الأحزاب الجزائرية فهي أسوء بذلك بكثير، إذ يعلم الجميع أن المؤسسة العسكرية ظلت تهيمن على مقاليد السلطة منذ ستينيات القرن الماضي، وكانت واجهتها المفضلة هي جبهة التحرير الجزائري التي ظلت محصنة بخلفية المقاومة وتضحيات المليون شهيد.

وحتى عندما برزت أحزاب أخرى فقد تأثرت هي الأخرى بالنموذج المصري لتتجه نحو الموالات، أكثر من المعارضة، وليكون مصير جبهة الإنقاذ الإسلامي شبيها بمصير الإخوان المسلمين في مصر.

إن الحراك التي تعيشه الجزائر اليوم، يفلت تماما من قبضة أي من الأحزاب، بل ظهر بوضوح أن الشارع أصبح في مواجهة مفتوحة مع النظام الذي لم يعد ممثلا بالواجهة التي كانت تشكلها العصابة المزعومة لبوتفليقة وأتباعه، بل أصبح في المواجهة المباشرة مع المؤسسة العسكرية. ومن تم فإن أي بصيص من الأمل لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تمكن الجزائريون من تجاوز هذه المرحلة وبناء مجتمع قائم على الاختيار الحر وعلى التعددية. في ظل الديمقراطية الحقيقية.

قد يقول البعض بأن المغرب ظل يشكل استثناء في هذه المنطقة من العالم، لكن وبالتأكيد فإن مثل هذا الاستنتاج يبقى محاطا بالكثير من التحفظات.

فرغم أن المغرب أعلن منذ أول دستور سنة 1962 منع الحزب الوحيد ورفع شعار التعددية الحزبية، والليبرالية الاقتصادية، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لإتباع نهج ديمقراطي سليم ، إذ سرعان ما أصبحت أجهزة الدولة العميقة تسارع الخطى نحو دعم الأحزاب الإدارية التي تتشكل نواتها عادة من المستقلين، وهي أحـــــزاب أصبحت المتفــــوقة في الســــاحة مقــــــــارنة مع الأحــــزاب

التقليدية مثل حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. ويتذكر المغاربة على وجه الخصوص، تلك اللائحة التي ابتدأت بجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، تم التجمع الوطني للأحرار، فالاتحاد الدستوري والأصالة والمعاصرة.
وينبغي أن نعترف أن هناك غموضا في التمييز بين الأحزاب المعارضة وأحزاب الموالات. وهي حقيقة صادمة تبرز للعيان مباشرة عند السعي نحو تكوين أي حكومة جديدة، حيث يختلط اليمين باليسار والتقدمي بالمحافظ، وهو ما انعكس بقوة على الأداء الحكومي وعلى التضامن المفروض في العلاقة بين مكوناتها.

ويظهر اليوم واضحا للجميع أن أداء الأحزاب السياسية يعاني من أزمة حقيقية، فجل الأحزاب لا تفلح في تقديم برامج واضحة وقابلة للتنفيذ، بمناسبة المشاركة في الاستحقاقات الوطنية ، كما أنها فشلت في استقطاب الشباب للعمل السياسي، وهو فشل ناتج يقينا عن هيمنة الزعامات القديمة على القيادة، والفشل في تجديد النخب وعدم تحقيق الديمقراطية الداخلية.

وبالنتيجة فقد أصبحت الأحزاب عاجزة عن القيام بدور الوسيط الممثل لطموحات المواطنين وهو ما تفسره نسبة العزوف عن العمل السياسي وعن الاختلاف إلى صناديق الاقتراع.

لعل العديد من البلدان في منطقتنا أصبحت مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى رد الاعتبار للعمل السياسي وللأحزاب السياسية بالذات التي بدونها تصبح كل أطراف العملية السياسية في مواجهة المجهول، ولعل أكبر درس ينبغي للجميع أن يستفيد منه ويأخذ العبرة للمستقبل هو ما أصبحت تعيشه الكثير من بلدان المنطقة التي أصبحت تصنف ضمن لائحة البلدان الفاشلة، بل إن بعضا منها فقدت مكونات الدولة من سكان هجروها وأرض صارت خرابا وسيادة تفرقت بين النزعات الطائفية والعرفية والجماعات الإرهابية وبين أطماع القوى المتفوقة في المحيط الإقليمي والدولي.

 

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. الفوضى هي الامل العظيم لمن يعيشون في الظلال..الفوضى بالنسبة الى اصحاب القرار ..هو الاستمرار و العيش على حساب الحمقى و الجهلاء..تدخل الشعوب فيما بينها في حروب (الكريساج..الغش..الاحتكار..السرقة..الرشوة..)..و يبقى اصحاب القرار يتفرجون و هم يستمتعون بمشاهدة الحمقى و الجهلاء يتشجرون فيما بينهم..و في الاخر يقررون من سيخرج من الرماد و من سيبقى..و كلما حاولت الشعوب الاستيقاظ من النوم العميق زادو في المهرجنات الموسيقية و زادو في المخدرات و الخمور …او يختلقوا عدوا وهميا مثل الارهاب كي نصبر على الجوع و الفقر بدعوا ان هناك حرب على البلاد من الخارج..هكدا تصنع الدول الفاشلة عدوا وهميا داخل الوطن و خارج الوطن ..لكي تبقى الشعوب تحمد ربها على نعمت الامن و الامان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى