طموحات التحرر داخل تنظيم العدالة والتنمية

رشيد لزرق، دكتور في العلوم السياسية وخبير دستوري

إن واقعة البرلمانية ماء العنين، هي حادثة تستحق الدراسة، للتدليل على قوة الواقع، وسلطة الاشياء في مقابل تسلط التنظيم وسلطة الاحداث، والوقائع والمؤسسات، والدهر حيث تبدو الأفكار أحيانا وكأنها لاشيء، أمام قوة الاشياء وثقل الواقع.

وهنا، فمن باب الموضوعية أن نوضح بأن واقعة ماء العينين تكشف عن طموحات التحرر داخل تنظيم العدالة والتنمية، بفعل عوامل متعددة، لعل أهمها تحسن الوضعية المادية لأعضائه..

فالسيدة ماء العينين عرفت تغييرا في وضعها الاجتماعي، هذا التغيير يعكس على الوعي بمقولة ماركس الشهيرة “ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم ، بل على العكس من ذلك، الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم”.

وحالة القيادية ماء العينين، هي ظاهرة تستحق الداسة في تناول قوى التدين السياسي، لكونها لن تكون تكون الأخيرة، وذلك على اعتبار أنهم يعيشون صدمة التحديث والإحساس بالاختناق التنظيمي والرغبة في التحرر، فسنوات التدبير لحزب العدالة والتنمية، أفرزت نخب الصدفة، والانتقال من المحيط إلى المركز، بالإضافة إلى وفرة المدخول والشهرة.
كل هذا أفرز الإحساس بالذات واكتشاف محيط آخر، و هو الأمر الذي أعطى توجها طبقيا متناميا وجليا، من خلال التواجد في المؤسسات التمثيلية أو المناصب العليا.

هذه الفئة باتت تبتعد عن عقيدة جماعة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوي للحزب؛ كما أسسها الشيوخ المؤسسين التي تعتمد على التقشف، لكون مؤسسوها كانوا في جلهم من فئة واحدة، مكنتها الثقافة الأبوية من الاحساس بالتباث في ظل ديناميكية جد سريعة للمجتمع.

وتم تدبير الاختلاف بإرجاء الأمر لشيوخ الجماعة، الذين هم أدرى بأمور الدين والدنيا، لكن هذا الواقع بات يشهد تحولا، في جيل آخر أفرزته سنوات التدبير والذي يود الانطلاق والاستمتاع بالدنيا قبل الآخرة، بدخوله عالم الاستهلاك، وتغليف تمرده هذا برغبته في الديمقراطية لكونهم يعلمون قبل غيرهم كون عقيدة حركة التوحيد والاصلاح متخاصمة مع روح العصر وعلى النقيض مع الديمقراطية ولا تلتقي مع قيمها.

وبطبيعة الحال، فالتسلق المالي والطبقي لدى فئة من قياديي العدالة والتنمية المستفيدين من الفورة المالية، جعلهم ينفتحون بعد انغلاق الجماعة، ويتلاقون مع شخصيات أخرى، هذا الانفتاح في الاحتكاك الإجتماعي، خلق لهم أفكارا جديدة، والأفكار، كما ذهب الى ذلك كارل بوبر، هي أخطر الأشياء وأقواها، بما جعلهم يكتشفون أن الافكار التي لقنتهم الجماعة، تختلف عن الواقع الجديد الذي يريدون الاندماج فيه، وإن كانت أيضا أكثر الاشياء خبثا ومكرا ، لأنها لا تحمل قيمتها في ذاتها، بل تعكس بدرجة أو أخرى ، إرادات التضليل أو الاستغلال او خدمة الاستبداد او تغليف الحقد او مقاومة الرغبة .

أمينة ماء العنين هي فقط فقط نموذجا، فرضه الواقع وطفا للسطح من خلال تسريب صور لها في باريس، يكشف بروز جيل جديد داخل تنظيم العدالة والتنمية جيل متعطش للحرية والرغبة في الاختيار، للتصالح مع واقعهم الاجتماعي الجديد، وملاءمة وضعهم الطبقي مع ممارستهم اليومية. غايتهم الاندماج والتماهى مع مجموعات جديدة، لهذا نجدهم مفتونين بآخر صيحات الموضة، و”الانجذاب لليسار المندمج” في قيم الاستهلاك.لكن تسلط الشيوخ، الذين أسسوا صعودهم على نقد قيم الاستهلاك، وضرب الثقافة الغربية، يجعلهم يشعرون بالكبت بمفهومه الواسع.

مما يجعل سلوكاتهم غارقة في الانفعال والهوس مع قرار الإبعاد عن الجماعة الأم؛ إذ يحاولون إخفاء تعطشهم بالمزايدة تارة وبتبني معتقدات كانت معارضتها سبب وصولهم إلى المناصب، الأمر الذي جعل سلوكاتهم يسودها التوجس والهوس مما نتج عنها سلبيات كثيرة، أهمها فقدان السيطرة على الوعي، بما يفترض أن تكون عليه الشخصية المتوازنة، وما يحدثه هذا الهوس أيضا من انعكاسات سلبية على مستوى الأداء. وهذا لوحظ، سواء في آخر جلسة ترأستها ماء العينين في البرلمان، كنائبة لرئيس مجلس النواب، أو من خلال حوادث السير المتكررة.. ومن المؤكد أنه في القادم من الأيام ستكبر هذه الحالة من فقدان السيطرة لديها من خلال تدويناتها التي يتوقع أن تكون صادمة لإخوانها في جماعة التوحيد والإصلاح، الذين لهم عقلية ثابتة ولا ولن تقبل النقاش والمساومة والاختزال في القواعد التي تحكمها.
في المقابل، سارع شيوخ الجماعة إلى إصدار الطرد المقنع لماء العينين حتى لا تنقل العدوى إلى الجيل المستفيد من سنوات التدبير الحكومي والتواجد المؤسساتي والفورة المالية، المتعطش للقيم الليبرالية، ويجعلهم في مفترق طرق لمراجعة مفاهيمهم الدعوية، مما يجعلهم مضطرين إلى مراجعة فكرية تحتم عليهم إحداث تغيير جذري لمنهج وفكر وأسلوب الحركة لتصالح مع قيم الليبرالية.

لهذا نرى كيف زايد بنكيران على حركة التوحيد والإصلاح، التي حالت بينه وبين الولاية الثالثة، من خلال دفاعه على ماء العينين بميله إلى أسلوب الانفتاح نحو الغرب وحرية العقيدة، في حين أن شيوخ التوحيد والإصلاح يرفضون هذا النوع من الميلان.

وبالتالي فواقع الحال يظهر أن حركة التوحيد والإصلاح تجد اليوم صعوبة في إبقاء الربط الوثيق بين السياسي والدعوي، وإقناع تنظيماته المنتشرة في كل مكان بالتمسك بعقيدتها الراسخة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى