سرقة لا يعاقب عليها القانون

بقلم: عز الدين فناني

اتفقا على موعد العرس، وتم حجز قاعة الأفراح، والدفع المسبق لفواتير ممون الحفلات والفرق الموسيقية وفرق التنشيط، وتم تسديد جميع تكاليف الحفل، بل وتمت دعوة الحضور أيضا، كيف لا ولم يتبق ليوم الزفاف سوى أربعة أسابيع.

على غير عادته، لم يعد يرد على الاتصالات الهاتفية، ولا يتوصل برسائل تطبيقات التواصل الاجتماعي. اتصلت بأهله فأكدوا لها خروجه من البيت كالعادة في أبهى حلة وفي أناقته المعتادة، وظنوا أنه ذاهب لملاقاتها كسائر الأيام.
ما لبثت تنهي المكالمة حتى تراكمت عليها الافتراضات، والسيناريوهات المحتملة، بعضها من قصص الروايات، والبعض الآخر من قصص الأفلام التي تحتفظ بها الذاكرة. لم يغمض لها جفن تلك الليلة، كانت تخشى أن يقع له مكروه، فقد تعلقت به كتعلق العجوز بعكازها، الذي يساعدها على الاستقامة ويمنعها من السقوط ويدلل لها صعاب الطريق، حتى أنها لو سُئِلت عن معنى الحب لقالت هو “ريان”، ولو سئلت عن “ريان” لقالت هو الحب،  لطالما آمنت أن حبهما أبدي، فقد تواعدا ألا شيء يباعد بينهما سوى الموت.


لحظة ! أيعقل أن يكون قد سرقه قدر الموت؟ تسأل نفسها سؤال تعلم أن القدر وحده يعرف جوابه، على الأقل في هذه الليلة.

ما كادت أن تُشرق شمس الصباح، حتى أطلت نسرين بوجهها في بيت أهله، وكأن قلبها أخبرها بأن هناك أمر خطب يخفى عليها وأن سره حتما سيكون لدى والدته، فحدس الأم يشعرها بما يدور في خواطر الأبناء.

– هل من جديد بخصوص ريان؟ تسأل نسرين حتى قبل أن تُلقي التحية على والدة ريان.

– مرحبا نسرين، كيف حالك ؟ أتعبْتِ نفسك في هذا الصباح الباكر، تحاول الأم أن تتفادى أي جواب يمكن أن يُشَكِّل صدمة لنسرين.

– الحمد لله، بخير، فقط أقلقني اختفاء ريان بهذا الشكل على غير عادته، هل من جديد عنه ؟

– هَدِّئي من روعك يا نسرين، لازال الوقت باكرا، ربما سيجيب هذا الصباح، فأنت تعلمين ريان لا يستيقظ في هذا الوقت.

– نعم لكنه لم يتصل يوم وليلة، هل هذا معقول؟

– وجهك شاحب يا نسرين، دعينا نأخذ وجبة الفطور وبعدها نتصل بأصدقائه حتما سيكون لهم علم عن سبب اختفائه.

هي تعلم أن نسرين لم تأت للفطور، ولكنها فقط كانت تبحث عن برهة من الزمن لترتيب منهجية الحديث، وترتيب الأفكار.
ونسرين تعلم أن هذه ليست طريقة أم ريان في الحديث، وأنها تخفي خطب جلل يتثاقل لسانها قبل أن تنطق به.

تتشجع أخيرا وتبادر بسؤال نسرين، هل تتذكرين ريم؟

ريم ! تقصدين التي كانت زميلة ريان في الدراسة ؟ تلك التي لم يوافق والدُها على زواجها من ريان مند سنتين، وهاجرت خارج الوطن، وخطبها أبن عمها ؟

– نعم، لكن خطوبتهما فُسخت خلال العام الأول ولم تكلل بالزواج. وقد التقت بالأمس مع ريان، أخبرته أن والدها لم يَعُد له مانع من زواجهما.

– ولكن أنا وريان على وشك الزواج، أليس كذلك؟

– صحيح لكن تعلمين أن ريان لم يكن متحمس للزواج، كنت أنا من اخترتك له، كان فقط يريد أن يُعَوِّض خسارة زواجه من ريم، ولم يكن له خيار غير ذلك، اليوم بعد عودة ريم يبدو أن ريان فقد وعيه، ولازال تحت تأثير حبه القديم.
فهمت نسرين الآن سبب الغياب، ولم تعد هناك ضرورة للبقاء، فأحسّت باختناق يكتُم أنفاسها، فحملت حقيبتها اليدوية وغادرت مسرعة، ومتسائلة مرة أخرى أيُعقل أن تأتي الموت على شكل نسرين، أيعقل أن تسرق مني الحب، والزوج، والحياة أيضا؟ أيُعقل أن من تخشى عليه من الموت يقتل فيك الحياة دون رحمة ولا شفقة؟
طريق العودة بالنسبة لنسرين كان كنفق مظلم وموحش، وكأن الدنيا تحولت إلى خراب و أطلال، وصمت رهيب، كل الحركية والضوضاء كانت بالنسبة لها مجرد ضجيج، كأزيز المرجل أو كصوت النحل، كل الصور أصبحت ضبابية وغير واضحة بالنسبة لها.

 

بعد سنة قضاها ريان رفقة ريم خارج أرض الوطن، بعد زواجهما، حيت كان يعيش أفضل أيامه، وكأنه منتشيا بالنصر، أو كأن الحياة أقبلت أخيرا بعد أن انقلبت عليه طيلة السنتين الماضيتين، حتى أن فرحته وسعادته أنسته التفكير في نسرين وفي حال نسرين بعد غيابه. بالنسبة إليه فقطار الحياة انطلق ولا مجال للرجوع ولا لتغيير الاتجاه. أما نسرين فاقتنعت أخيرا أن الزواج قسمة ونصيب، والزواج لا يعني بالضرورة الاستمرار، فهذه سنة الحياة، دائما هناك من يفسخ الخطوبة، من يتفارق بعد الزواج ومن ينفصل  بعد سنوات من العشرة الزوجية، وقد يحدث الطلاق ويعيش الطرفان في غمار تجارب أخرى و قد تتشرد الأبناء، وأن لا أحد يعلم ما يخفي له القدر.

 

انتهى العام الأول لريان في المهجر، وحان الوقت لزيارة أرض الوطن رفقة زوجته، كان متشوقا لملاقاة عائلته بعد كل هذا الغياب، لم يكن يعلم ما تخفيه له هذه الزيارة، ولم تكن المفاجأة سوى حادثة سير مروعة دفع حياته ثمنا لها، وكأن الموت سرقت ريان من ريم، بعد أن سرقت الحياة ريان من قلب نسرين، سرقة لا يعاقب عليها القانون.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى