القاضي الوردي يكتب :”قاض في الجنة“

لولا بقية من إيمان ورسوخ اليقين في الوجدان لما كانت وفاة الأستاذ محمد الهدار غير دليل على عبث الأقدار، وعلى صدق الشاعر حين قال : رأيت المنايا تخبط خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطأ يعمر فيهرم.
فالقاضي الشاب الذي التحق بالرفيق الأعلى على حين غفلة لم يكن منذورا للغياب، ولا قدرة لأهله وأصدقائه على الاستيعاب، …أن يرحل هكذا فجأة بدون استئذان في سن النبوة، وعنفوان الشباب…مصرا على إنتاج المعنى وفائض المعنى في الحياة كما في الممات…
وبالفعل لم يكن الأستاذ الهدار قاضيا عاديا يدير الجلسات ويحرر الأحكام و يتأمل في الملفات، وينتظر راتبه الهزيل آخر الشهر لتلتهمه القروض والوصفات الطبية، ولكنه كان صاحب قضية، متمثلا للمعنى الخطير لأن تكون قاضيا تصرف العدل بين الناس بطهارة في اليد، وسعة في العلم والحلم، وحرص على النأي بالنفس والقرار عن جميع ما قدر يكدر صفو استقلاليتها
لذلك لم يتردد في معانقة الهم الجماعي للقضاة وهو حديث العهد بالتخرج من معهد القضاء، مستوعبا الأعطاب التاريخية لمؤسسة مثخنة بالطعنات، مكبلة بخطايا الماضي وآمال الحاضر والتباسات المستقبل، موقنا أن أقرب طريق للقول هي الفعل، ومنخرطا في الصف الأمامي للنار عند ترجمة القرار والاعلان عن ميلاد نادي الأحرار
لم يكن سهلا ولا مألوفا زمن صولة الوزير، واستئساد الكبير على الصغير أن يعبر القضاة خارج مكاتبهم الضيقة، أن يستنكروا قرارا جائرا عصف بزميل، أو اعتداء بشعا لحق ببذلة، كانت المحاكم تحت رحمة المسؤولين، والمسؤولين تحت رحمة الوزارة، وشعب القضاة صابر محتسب ينتظر الفرج، إلى أن هب الأستاذ الهدار ومعه رجال مؤمنون بالقضاء، صادقون مع القضية، ليؤسسوا تحت شمس المنع بيتهم كما يسميه المرحوم : نادي قضاة المغرب…
في النادي كما في العديد من التنظيمات قلما يكون المنتمون على نفس العقيدة والنية عند الهجرة، وعند التضحية، وعند البدل والعطاء، والفقيد رحمة الله عليه كان نموذجا متفردا في الانتماء وسخيا في الوفاء، …الوفاء للفكرة النبيلة والشعلة الجسورة التي ألهبت الحماس في قلوب قضاة شباب آمنوا بحق المغاربة في قضاء نزيه ومستقل، وشغلهم حب جمعيتهم الفتية عما سواه، فحملوا أفئدتهم فوق أكفهم وراحوا يبشرون بميلاد سلطة قضائية جديرة بدستور 2011، غير هيابين لما كانت تحيكه جيوب مقاومة التغيير من مكائد، وما ترسله من تهديدات لا سيما بعدما اشتد عود الجمعية الفتية، والتف حول أفكارها مئات القضاة الذين سجلوا ملاحم للتاريخ في الوقفات الاحتجاجية واللحظات القاسية غيرة على البذلة، وبالبلاغات الحارقة دودا على الاستقلالية
ولو لم يقيض الله لنادي قضاة المغرب رجال من أمثال الفقيد محمد الهدار لما قامت للنادي قائمة، فأن تتجاوز شرطك التاريخي، و تتمرد على بنيتك المحبطة، وأفقك الواطئ، وتزرع الأمل بالعمل، ليس أمرا متاحا إلا لأشخاص متفردين بالهمة العالية وعزة النفس الغالية اللاتقدر بثمن ….لذلك كان رحمة الله عليه مستعدا وقادرا دائما على أن يخوض حربا بالنيابة عنا جميعا دفاعا عن الكرامة والاستقلالية…
لم تتح لي الفرصة كثيرا لمعرفة الفقيد، وآخر لقاءاتنا تعود إلى الجمع العام الأخير لنادي قضاة المغرب، كان ضمن اللجنة التنظيمية التي تشرف على توزيع البطائق، صافحته بحرارة، ودون أن تفارقه الابتسامة منحني بطاقتي وتبادلنا الضحك الأخوي، وأحسست أنني في حضرة رجل مسؤول، صغير في السن كبير في الحياة، يشع هدوءا، ووقارا وطمأنينة، من أمثال أولئك الذين تتمنى أن تطول رفقتك بهم لما في دواخلهم من صفاء ونقاء،…
ربما أرهق الأستاذ الهدار قلبه في تحمل كل تلك الأعباء التي أتقلته بها الأقدار، فتحملها بصبر واقتدار، ودون اعتدار، تحرير في الليل وجلسات في النهار، وحراك جمعوي لترسيخ الاختيار…ألم يكن آخر ما كتبه على الجدار: تحية لنادي قضاة المغرب هو بيتنا الذي يجسد حرية الانتماء…
ربما شاء الرب في السماء أن يقبض نفسه المطمئنة، بعدما أدى الرسالة التي أنذر لها بكل الإخلاص والوفاء، ليجزل له العطاء…فرحين بما آتاهم
ولكن الأكيد أنه حي بعمله الصالح الذي لن ينقطع …وأوله نادي قضاة المغرب بيتنا الذي يجسد حرية الانتماء كما كتب بعمق الفقيد…نحسبه من أهل الجنة ولا نزكي على الله أحدا
عزاؤنا واحد.. إنا لله وإنا إليه راجعون …رحم الله زميلنا ذ محمد الهدار واسكنه جنة الرضوان ولأسرته الصبر والسلوان..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى