النموذج التنموي .. بناء الوطن أو الدخول إلى نفق النسيان !

مرة أخرى، تحدث الملك محمد السادس، في خطاب افتتاح البرلمان، على ضرورة بلورة نموذج تنموي جديد، وأعلن عن قرب تشكيله للجن لهذا الغرض، تجمع مساهمات مختلف الفاعلين داخل المجتمع بخصوص هذا الموضوع، ولو أنه كان بالإمكان إعادة هيكلة المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، الذي يستنزف ميزانيته من المال العام، وتعيين أعضائه الجدد، ثم توكل إليه بعد ذلك مهمة الاشتغال على بلورة نموذج تنموي جديد، مع ضرورة الاستماع وإشراك مختلف مكونات المجتمع. وهذا هو دور المجلس العادي والطبيعي.

إن الحديث حول النموذج التنموي جوهره اقتصادي محض، وتفرعاته تشمل كل الجوانب الأخرى، الاجتماعية والسياسية والقانونية والثقافية والهوياتية والبيئية والرياضية… لأن قوة البلد الاقتصادية هي التي تحدد مكانه بين دول العالم، وما يحققه الاقتصاد من نجاحات، هو ما يسمح له فعليا بتنفيذ التصورات المجتمعية، ولذلك فالمدخل الحقيقي لنقاش مسألة النموذج التنموي هو الإجابة على سؤالين اثنين:

– كيف نريد/يمكن أن ننتج الثروة، كدولة بكل مكوناتها، وبأي وسائل؟
– كيف سنوزع تلك الثروة بين كل مكونات المجتمع، وعبر أي قنوات مجتمعية؟

الجواب على هذين السؤالين يحيلنا إلى التفرعات، فإنتاج الثروة يتم بوسائل معروفة ومحددة، هي المواد الأولية، والموارد البشرية، وتكنولوجيا الإنتاج، والطاقة. وافتقاد البلد لأي عنصر من بين عناصر الإنتاج هذه، يجعله بلدا تابعا وفاقدا لجزء من سيادته الاقتصادية.
وتَوفُّر المواد الأولية تحدده خصوصيات كل بلد، والموارد البشرية تحددها المنظومات التربوية والتعليمية والجامعية والصحية والثقافية والإعلامية والقانونية للبلد. أما تكنولوجيا الإنتاج، فهي مرتبطة بالمنظومة الجامعية وسياسات البحث العلمي المتبعة في البلد، فيما تبقى مصادر الطاقة مرتبطة بالخصوصيات الطبيعية وبمنظومة البحث العلمي لكل بلد.

أما سؤال توزيع الثروة، فيحيلنا إلى مسائل عديدة ومتعددة، أهمها عدالة النظام الضريبي، وفعالية السياسات الاجتماعية (التعليم، الصحة، النقل، المرافق العمومية…)، وحزم منظومة العدالة (القانون فوق الجميع)، ونجاعة المؤسسات التشريعية (برلمان حقيقي)، وصحوة مؤسسات الوساطة (الأحزاب، والنقابات، والمجتمع المدني)، وتنوير الإعلام (الاستثمار في بناء العقول والترافع على القضايا الحقيقية)، وتوازن اقتسام السلطة (المركز، والجهة، والجماعة)، واستدامة التنمية (البيئة)، وغيرها الكثير من التفرعات الأخرى.

وما هو مؤكد أن جميع المساهمات، التي ستتوصل بها اللجنة، التي سيشكلها الملك لهذا الغرض، ستتطرق لوصف ما يجب أن يكون عليه المغرب (المدينة الفاضلة)، لكن الأهم والأصعب، والذي لن تتطرق له أغلب المساهمات، هو الجواب عن السؤال التالي: كيف يمكن استعمال ما هو موجود ومتاح حاليا، للوصول إلى ما يجب أن يكون عليه المغرب مستقبلا؟

وهذه هي أصعب معادلة وسط مجموعة معادلات المنظومة، لأن إعطاء تصور لما يجب أن يكون عليه المغرب يُعتبَر شيئا سهلا… لكن الأمر الأصعب، وما يمكن اعتباره مفتاحا للمسألة، هو كيفية استعمال ما هو متاح، بكل متغيراته، للوصول إلى ذلك المغرب، الذي نتخيله ونحلم به.
لهذا، إذا لم تشتغل اللجنة على هذه المسألة بالأساس، سيبقى كل ما ستنتجه من وثائق مجرد تصورات للمدينة الفاضلة، كما سيراها وسيصفها مختلف المتدخلين.

إن المغرب يعيش مأزقا مجتمعيا، اختلطت فيه مهازل السياسة بإفلاس منظومة القيم، واصطدم فيه تعثر الاقتصاد باحتقان غير مسبوق وسط المجتمع، واجتمع فيه الاستثمار في الجهل بانتهازية المتربصين… والخروج من المأزق يتطلب التفكير من خارج الصندوق أولا، والابتعاد عن منهج “الرتوشات” ومساحيق التجميل ثانيا، وثالثا وأخيرا، اعتماد سياسات حازمة شعارها الأساسي هو “كفانا محاباة”.

نحن نقف اليوم في مفترق طرق، يفرض علينا اختيارا واضحا بين بناء الوطن، ببناء الإنسان، ووقف جميع أنواع الاستثمار في الجهل، أو اللحاق بركب الداخلين إلى نفق النسيان.

الوطن أولا، والوطن أخيرا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى