عندما تفقد الأغنية المغربية بريقها الفني…كرنولوجيا وانتظارات

لا شك في أن الأغنية المغربية هذه الأيام تعيش حالة فقدان الوزن، فهي لم تعد حائرة بين الأصالة والمعاصرة فحسب، بل أصبحت مجافية لأصالتها التي عرفت بها على مدى القرن الماضي، وتدير الظهر على يد نفر من المغرمين بالحداثة والتجديد لكل ما هو أصيل وعريق في الغناء العربي على مر العصور.

ولتطويع الأغنية المغربية للموسيقى الغربية الهجينة كان لا بد من أن يلوي كتّابها الجدد أعناق الكلمات العربية كيفما اتفق، حتى سقطت الأغنية على أيديهم في ركاكة التعبير وسذاجة المعنى، مما أضعف صلتها بوجدان المجتمع المغربي وبيئته، حيث باتت خاضعة لضحالة النظم والتصفيف اللغوي القسري والمصطنع والبعيد عن صدق العاطفة وعمق التعبير وجمال التصوير، خاصة أن معظم الأغاني المغربية الحديثة مغرقة وغارقة في اللهجات الخليجية المحلية، فبتنا نجلس على مائدة غنائية لا تجذب فينا شهوة الاستماع ولا تنمّي لدينا ذائقة فنية.

روح الشعر

ولعل ما فاقم الأمور وزادها تعقيدا، إعراض الشعراء الحقيقيين وأصحاب المواهب الشعرية الأصيلة عن كتابة النص الغنائي الجيد البعيد عن الإسفاف والابتذال، مما فتح الباب لكل حامل قلم ليصبح شاعرا غنائيا يملأ الفراغ بكلام قابل للتلحين والغناء، ولكنه يخلو من روح الشعر، إلى درجة تدفع الناقد الفني إلى القول “أسمعُ جعجعة ولا أرى طحنا”.

كما بات لزاما علينا أن ندعو إلى إحياء أغانينا من جديد، وذلك ببث الروح المغربية في الموسيقى الغنائية “المستغربة” إلى حد بعيد، ولنا من التراث الشعبي ما يكفي لتأصيل الأغنية المغربية وتحريرها من الغزو الفني الأجنبي واستعادة دورها في الحياة الاجتماعية لتؤدي رسالتها الفنية في مضمار حركة المجتمع وتقدمه.

لقد أصبحنا في أمسّ الحاجة إلى فنانين مغاربة يؤمنون بالدور الحضاري الذي يجب أن تضطلع به أمتهم، فيغوصون في عمق وجداننا وتراثنا وبيئتنا ليخرجوا علينا بما نحب سماعه ومشاهدته، لنغني معهم بجدارة ونطرب بحرارة مثل باقي شعوب الدنيا التي ترفض الذوبان بأمانيها وأغانيها في ثقافات الشعوب والأمم الأخرى.

وحتى نقف على عتبة إحياء الأغنية المغربية وإعادتها إلى جادة الصواب، لا بد للنقد الفني الجاد والأصيل أن يأخذ دوره ونصيبه في فتح الباب لأغنية مغربية بديلة تقنعنا قبل أن تطربنا، فللنقد نصيب الأسد في إعادة ترتيب البيت الغنائي .. هذا البيت الذي أصبح في أمسّ الحاجة إلى الترميم والصيانة والترتيب الذي يعيد له رونقه وجماله.

بين القديم والجديد

دعوتنا هذه لا تعني باي حال إدارة الظهر لما طرأ على حياتنا من تطور حضاري وتغيير وحداثة على كل صعيد، فنتشبث بالماضي مطالبين بأن تبقى الأغنية أسيرة له ورهينة عنده، فهي ليست دعوة إلى الانغلاق أو اتخاذ ماضي الأغنية ملجأ للسلامة الفنية العامة، وإنما هي دعوة صريحة لإصلاح شأن الأغنية المغربية وإعادة هويتها الوطنية والتراثية بالابتعاد بها عن التشويه والتغريب .

فالجمع بين الأصالة والمعاصرة في طبيعة الأغنية العربية الحديثة ضرورة فنية وحاجة حضارية ماسة تحفظ لنا شخصيتنا وهويتنا ومكانتنا في عصر العولمة واختلاط الثقافات والفنون.

لا بد من المحافظة على طابع تمغربيت لأغانينا، ولا ننسى أن للأغنية تأثيرا كبيرا على مجتمعاتنا، وبخاصة الأجيال العربية الجديدة المعرضة أكثر من غيرها لمد الحضارة الغربية الذي يحيط بنا من كل جانب.. ولنتذكر هذا القول المأثور ونحن نعرض لحال الأغنية المغربية “مَن أشهر سيفا في وجه الماضي، أطلق عليه المستقبلُ رصاصة”.

لدينا المواهب والطاقات والقدرات والكفاأت لإعادة الأغنية المغربية إلى سابق ازدهارها وتألقها، ولا ينقصنا في عالمنا إلا قناعة واتفاق على إعادة النظر في الوضع الغنائي برمته من أجل الحفاظ على الهوية الأصيلة للأغنية من جهة، والارتقاء بها لحنا وكلمة وأداء من جهة ثانية، حتى يعود لها مجدها الفني الذي صنعه الرواد من شعراء وموسيقيين ومُطربين كبار ما زلنا نعتد بهم ونستذكرُ جهودهم الفنية التي ارتقت ولا شك بالمستوى الغنائي كما ارتقت بمشاعرنا وأذواقنا وثقافتنا أيضا.

لا بد من إستراتيجية فنية ننطلق من خلال ما ترسمه لنا من رؤية وأهداف إلى آفاق جديدة لصناعة الأغنية بما يضيف لها من وهج وإبداع وبما ينتشلها من وضع هابط تعاني فيه من فقدان وزنها الفني، حتى لو استدعى ذلك عقد ملتقى فني للبحث في أزمة الغناء وسبل الارتقاء بالأغنية المغربية الحالية.

ودون ذلك، ستبقى الأغنية المغربية بلا هوية حضارية تميزها وبلا سمات فنية نابعة من بيئتنا وغير بعيدة عن قيمنا ومُثلنا وعاداتنا الاجتماعية، ومعبّرة عن أفراحنا وأحزاننا وأحلامنا الخاصة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى