تاريخ المغرب غني بغنى لا ندركه لغياب مبادرات التنقيب عنه والتعريف به

 

بقلم : الاستاد سعيد الغنيوي

أنطلق في البداية من ظاهرة أضحت أمرا مسلما به في جميع الأوساط، بما في ذلك الأوساط المعنية بموضوع انتقاده، إلى حد أنها ولت بديهية، بمعنى أنها لا تحتاج لا إلى برهان ولا إلى دليل إثبات. وتتجلى هذه الظاهرة ببساطة في القطيعة الحاصلة بين ما ائتلف نعته بالطبقة السياسية وبين مختلف الفئات الاجتماعية للبلاد
من التجليات العينية لهذه الظاهرة أن عامل الثقة افتقد في السياسة وفي العمل السياسي بصفة عامة من قبل جميع الأوساط الاجتماعية وأن عنصر الاستسلام والانطواء على النفس تسلل إلى الضمائر، مخلخلا الروح الوطنية، فاتحا المجال لانحرافات متعددة، يتفاقم حجمها وتتعاظم حجتها بفعل تداخلها مع أثار العولمة الليبرالية المتوحشة والانفتاح الإعلامي الغير المقرون بسياسة ثقافية محلية موجهة
ومن التجليات الحتمية لهذه الظاهرة كذلك أن مشاكل البلاد تتفاقم على مستويات مختلفة، مادامت البرامج الحكومية المنتهجة والمواقف السياسية المعلنة لا تتلاقى مع الواقع المعاش للمواطنين، ما دامت هذه البرامج والمواقف بعيدة كل البعد عنه بفعل الحاجز الواقف بين مدبريها وبين المجتمع
في مواجهة هذه الظاهرة التي نؤمن بأنها تكتنف في طياتها كل عناصر الانفلات الثقافي والمجتمعي وتحمل في عمقها خطر ارتهان المستقبل، عبرنا عن رفضنا للرضوخ لهذا الواقع. أكثر من ذلك، نعبر عن إيماننا بإمكانية تغيير هذا الواقع وعن عزيمتنا على الإسهام بكل قوانا في بلورة تغيير من هذا النوع
السؤال الذي يطرح نفسه بالطبع هو: كيف ستترجم هذه الأفكار أو بعبارة أخرى، ما هو شكل الحزب القادر على بلورة مثل هذه القناعات وهذه الأفكار إلى الواقع، علما أن أي حزب وعددهم كثير، لم ينجح في هذه المهمة ؟
الجواب على هذا السؤال بسيط ولو أن في طياته تعقيدات. ومضمون هذا الجواب أن الحزب القادر على هذا الانجاز هو الحزب الذي يستطيع أن يفعل تماما عكس ما تقوم به الأحزاب الأخرى على ثلاث مستويات على الأقل
• اعتبار أن أي تغيير لا يمكن أن يستند على الواقع، بل التغيير يعني قبل كل شيء القطيعة مع الواقع
• القناعة بشمولية الأفكار وبأن هذه الشمولية غير ممكنة دون توسيع دائرة المساهمين في بلورة تلك الأفكار ودون الانفتاح على المؤهلين الأكثر من غيرهم لإنتاجها
• الإيمان بأن أهمية الأفكار تكمن فيما سيتمخض عنها من أفعال، مما يقضي بضرورة ربط الأقوال بالتصرف وبالعمل بصفة لصيقة
بعبارة أخرى، الحزب الذي بمقدوره رفع رهان إعادة الاعتبار للعمل السياسي وإعادة الثقة في السياسة هو الحزب الذي سيكون بمقدوره التأسيس على مبدأ التعاقد بين جميع أعضائه، التعاقد حول المبادئ، التعاقد حول التصور، التعاقد حول الأهداف، التعاقد حول طرق العمل
حقا، كل الأحزاب تتوفر على وثائق تعبر بشكل أو بأخر عن نوع من هذه التعاقدات لكن في الواقع لا يعدو يكون هذا التعاقد سوى شكليا، فاسحا المجال في الحقيقة إلى تسابق نحو المسؤوليات بغض النظر عن طبيعة ما اتفق بشأنه. وخير دليل على هذا المعطى أننا لا نرى ولا نسمع في وقت من الأوقات عن المحاسبة كعملية مكملة لمبدأ التعاقد، مما يفسر غياب التداول على المسؤوليات في مقابل تعاظم أحجام الأجهزة القيادية لاستقبال الطموحات الشخصية. مثال أخر يزكي هذا الطرح يتمثل في الانسحابات والاستقالات التي تميز الحقل السياسي الوطني والتي يرجع مصدرها إلى غياب تفاهم مسبق واتفاق مبدئي حول طبيعة التعاقد، حيث إذا حصل مشكل، تباينت المرجعيات، فتفارقت التبريرات والمواقف إلى حد القطيعة.
في الوقت الذي تعيش فيه فئات عريضة من المغاربة على عتبة الفقر حتى لم يعد وجود للطبقة الوسطى المندحرة نحو الأسفل، وفي الوقت الذي تضيع فيه أجيال من الشباب العاطل المكون والمثقف وتهدر هكذا طاقات هائلة، وفي الوقت الذي تنتج مدارسنا الرتابة ويصعب على نظامنا الصحي التكفل بمرضانا ويظل القطاع الإنتاجي هش وضعيف وتنزف ثرواتنا الطبيعية وتتعمق الفوارق الجهوية، في ذلك الوقت وأمام هذه الرهانات والتحديات، نظن أنه لا مجال لإضاعة الوقت أكثر لمباشرة أوراش التنمية.
في الوقت الذي يعرف العالم تحولات عميقة بحثا عن مكامن ازدهار جديدة وتأقلم مع واقع العولمة باعتبارها الخط الإيديولوجي المؤدي إلى تلك الغاية بالنسبة لدول الشمال، وفي الوقت التي انخرطت عدد من دول الجنوب في مشاريع للاستفادة من هذه التحولات ومن ظاهرة إعادة توزيع مراكز الإنتاج، في هذا الوقت وأمام هذه الرهانات والتحديات والسرعة الفائقة التي يسير على وثيرتها العالم، هل لنا أن نضيع الوقت؟
إننا نعتقد راسخين أنه لم يعد هناك مجالا لإضاعة مزيد من الوقت وإلا سنرهن مستقبل الأجيال القادمة بشكل رهيب، كما نعتقد راسخين أن المغرب يتوفر على المؤهلات الكفيلة بمساعدته على رفع كل هذه الرهانات وهذه التحديات وأن المغاربة يتوفرون على طاقات هائلة للانخراط في مشروع من هذا الحجم إذا ما توفرت شروط التعبئة الوطنية الشاملة.
هناك من يقول بأن المغرب بلد فقير. الموضوع يستحق التمعن، الدراسة والتحليل لما نرى كيف تتكون الثروات في حضنه. ولكن، لنفترض أن المغرب حقيقة بلد فقير، فهو كذلك لأنه لا يتوفر لا على بترول ولا على مناجم الماس والذهب والموارد الطبيعية المنتجة للثروة. ولنتساءل كم هي الدول المتقدمة التي تتوفر على موارد من هذا النوع ومع ذلك شقت طريقها نحو التقدم ورفاه مواطنيها متكئة على أكبر الخيرات منحها الله سبحانه وتعالى، خيرات العنصر البشري
وفي هذا المضمار، يمكن الجزم بأن المغرب يتوفر على نوعية خاصة من الموارد البشرية، عصارة تاريخ غني بالتلاقحات الثقافية وبالإبداعات الأدبية وبالانتاجات الفكرية، ترسخت على إثرها القيم الفريدة التي نمتاز بها، تلك القيم الموروثة عن امتزاج الأمازيغي بالعربي بالإفريقي بالأندلسي. من هنا ورثنا قابليتنا على الانفتاح على الغير وطبيعتنا السمحة والمتضامنة والمبدعة
وإذا كان تاريخ المغرب غني بغنى لا ندركه لغياب مبادرات التنقيب عنه والتعريف به، فان التهميش الذي يطال الثقافة المغربية بجميع روافدها “وان كان الجانب الأمازيغي والإفريقي أكثر تهميشا“، من شأنه أن يخلف آثارا وخيمة على الهوية المغربية، وقد أصبحنا ندرك إننا نتحول إلى شرقيين أو غربيين وننسى أننا قبل كل شيء مغاربة
إن تدعيم الشخصية والهوية المغربية، ليس من منطلق القومية العصبية ولكن من زاوية إنتاج الإنسان المتكامل مع نفسه، إن هذا التدعيم يمر بالأساس من إعادة الاعتبار للثقافة المغربية وللمثقفين المغاربة. فرغم تاريخنا الطويل واختلاطنا بعدة حضارات، كيف يمكن أن نقبل أن نكون لا نتوفر على ذاكرة وأن عددا من الانتاجات التي أبدعها أجدادنا تندثر وتضمحل في الوقت الذي تتعبأ الانسانية للحفاظ على الحيوانات والنباتات المهددة بالانقراض؟
كم من عالم ومثقف ومبدع مغربي تتعرض له الكتب المدرسية وكم من انتاجات تفحل بها ؟ إن مدرستنا التي تضطلع مبدئيا بتكوين العنصر المغربي لم تعد تقوم في الواقع بذلك ما دامت محكومة بالتوافق. وحيث أن التوافق لا يمكن أن يحصل إلا على الحد الأدنى الذي يجمع، فان مدرستنا لا تنتج سوى الحد الأدنى من التكوين والتربية. وبالتالي، إذا كنا فعلا نريد مدرسة فاعلة ومنتجة، فيجب فتح مجال التنافس والتقارع في الأفكار وفي البرامج وفي الأوراش بحثا عن الحد الأقصى القادر على تنشئة عنصر بشري من شكل آخر، قادر على التأقلم مع الحداثة مع الحفاظ على هويته ومهيأ للعمل والإنتاج
وإذا كانت التنمية هي الهدف السامي الذي نسعى وراءه، فهي في العمق تعني أننا نتطلع انطلاقا من قيمنا ومن مبادئنا إلى مغرب تسود العدالة الاجتماعية والرفاه، مما يعني أيضا أننا نروم خلق ثروات قابلة للتوزيع لبلوغ العدالة الاجتماعية والرفاه، وحيث أن الخلية الرئيسية لإنتاج تلك الثروة هي المقاولة، فلا مناص من الاهتمام بها في إطار إستراتيجية عملية لتمكينها من الظروف الكفيلة بجعلها حقيقة مركزا لخلق الثروة

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. بدون الية لربط الاقوال بالافعال,والمسؤولية بالمحاسبة,وعدالة اجتماعية,تحت ظل سيادة قانون ملزم وفوق الجميع بلا استثناء,
    تبقى كل الاقوال والافكار والتحاليل الناجعة مؤجلة,الى ان تتوفر الارادة الصادقة والنزيهة للاقلاع بها نحو افاق واعدة,
    فرص كثيرة ضاعت وعقود مضت وبلايين البلايين صرفت بلاجدوى,ونتيجتها, فشل فى التعليم ,الصحة ,العدل,الاحزاب,وهى اعمدة الاقلاع,فكيف يمكن لبناء ان يبنى على اعمدة نخرها وينخرها السوس من جدورها,ومن يراهن على البناء فوقها فهو واهم او احمق,فكيف ستكون السقطة بعد البناء عليها كما هى, اكيدفاجعة كبرى لن تقوم لها قائمة بعدها,
    الطامة الكبرى هى اننا وصلنا للوقت بدل الضائع,وما زلنا حيث نحن لم نقلع بعد الا مظهرا اما جوهرا نتديل صنف المديلين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى