ليلة على متن خطوط الشمال والجنوب

 

 

            تسميات ناقلات المسافرين

 

يغمرنا الإحساس بالدهشة ، ونحن نحملق في تسميات بعض ناقلات المسافرين ؛ تستعد للولوج إلى المحطات الطرقية أو من خلال عملية ركوب المسافرين والإقلاع ؛ تسميات توحي بأننا إزاء أقمار اصطناعية أو مركبات فضائية على وشك معانقة الفضاء ؛ “سريع الشمال” ؛ “نقل الشهاب ” ؛ ” خطوط الشمال والجنوب ” ؛ ” نقل الأسد السريع ” … كلها أسامي تركز على “السرعة” كمعيار في جودة خدمات الأسفار والتنقلات ، وكأن قانون هذه ” المركبات ” يحتكم إلى السرعة والوصول في أزمنة قياسية حتى ولو انتهت بأصحابها إلى الهلاك !

 

هل ليل المغرب كنهاره ؟!

 

       “سريع الشمال والجنوب” ؛ حافلة كانت رابضة بإحدى زوايا محطة وجدة الطرقية ، والليل شرع يدق خيامه في الأفق البعيد ، فيما كانت حركة دائبة وسط المسافرين وهم يهمّون بصعود الحافلة أو توضيب حقائبهم أو حشر أكياس تحت كراسيهم … أخذت حدة اللغط تستعر بين “الكورتيا” ؛ يقذفون بإعلاناتهم عنان السماء : ” … زيدْ … مراكش .. فاس .. مكناس …اس آجي فاين غادي … ياالله قطّاعْ..” ، في حين كان احْميدة من الجهة الخلفية يتفاوض بإماءة رأس أو طرطقة لسان “تس … تس ” أمام أشخاص يبدو أنهم يرغبون في الدفع بشحنات “التراباندو” إلى صناديق الحافلة مقابل مبالغ زهيدة .

وفي لحظة ما رفع احْميدة هاتفه إلى أذنه : ” … اشْكون … إيه سّي بوركبا الشاف ديالنا … الله ياودي .. لا حاشا .. نعام … واخّا .. راني جايب معايا صندوق … شي وحدين وصّاوني بحالْ وجهاكْ .. واخّا جوج يطرو ..”

صعد الحافلة وضغط على بوقها إيذانا بالإقلاع ومغادرة المحطة . شقت طريقها بحذر وسط جموع من الكورتيا يصفعون جنباتها في صراخ ” … آحميدة … آحميدة القراع …اعطينا رزقنا .. آلقراع .. دابا تعاود ترجع .. ديالاش 100 دهـ ل 5 دالناس .. مصباح واحنا .. نبارحو …” . أشعل سيجارته وجعل يتفحص بنظرات مريبة وجوه الركاب عبر المرآة ، وكأن هناك خللا ما في الحسابات بين من لم يدفع وبين آخرين لم تتحرر ذمتهم بعد ، حتى إذا استكمل مراجعته التفت إلى بديعة إلى جواره مرسلة ساقيها فوق غطاء المحرك .. ولّع لها السيجارة ثم أطفأ الأضواء ضاغطا على دواسة السرعة .

كان الليل دامسا والخشخشة بين المسافرين بدأت تقل ليسكن الجميع إلى هواتفهم على أنغام تصدح وتترنح لها رأس بديعة ” … آهيا … أفايناك آخويا .. فايناك زيد قرّب .. لعشرا بلا بيك خسارا… آفايناك أفايناك آخويا .. فايناك ” .

هاتف يصرخ ” واخّا … راني نتسنّاكْ … واشْ جبتي الأمانا ” ؛ وآخر يتلقى رسالة ” .. shof 3andak ta3tiha li kaddam annas ” ؛ وأخرى استفاقت على صوت مزمجر ” …عنداك لدين مّاكْ ماتجيبيش التنفيحا .. راني هادي يوماين وانا مقطوع ياالله تلاحي ..” .

فجأة يخف صوت المحرك وتنخفض سرعة الحافلة ، لتتوقف وفي أثرها يصعد الشّاف موحا ليلقي نظرة روتينية إلى الداخل قبل أن ينزل محدقا بنظرات ساخطة ، لكن احْميدة عوض له الحساب بعلبة كارطون في حجم قارورة سيدي علي … فتهلل وجهه .

استأنفت الحافلة طريقها باتجاه تازة عبر تاوريرت ، وفي غضون ساعة وبعد أن أخذ الكرى يداعب جفونهم ، فوجئ الركاب بوابل من الحجارة أتت رشقاتها على النوافذ الزجاجية ، كما أصابت الواقية الأمامية حتى كادت أن تفقد توازن احميدة وهو يحاول جاهدا أن يتبين جادة الطريق وسط حواجز من القش والحجارة ؛ كفخ لاصطياد الضحايا من قبل عصابات ، يقال إنها من الأفارقة تأوي تلك الأحراش وتنشط ليلا … احتد اللغط وسط الركاب وقد انبطحوا بالجنبات مذعورين ، ونساء يولولن أو يصرخن طلبا للنجاة .. إلا أن أحدا لم يكن ليكترث لهن بمن فيهم احميدة الذي ضاعف من سرعة الحافلة لتجاوز المنطقة ، مخافة أن تصير الحافلة بمن فيها صيدا ثمينا بأيدي هؤلاء قطاع الطرق !

 

            قريبا من فاس

 

لقد هجر النوم أجفانهم ، وعادت إليهم بعض السكينة بعد أن لاحت لهم أضواء تازة تشع من بعيد .

وفي توقف اضطراري بتازة ، أخذ احميدة وجمهرة من الركاب يعاينون الأضرار التي لحقت بالحافلة … حاولوا الاستعاضة بقطع الكارطون بدلا من الألواح الزجاجية التي تهشمت أطرافها . ومن تازة إلى فاس ، عبرت الحافلة نحوا من خمس نقط مراقبة رجال الدرك ، كل حاجز يفردونه بأوراق مالية مع سخرة .

كانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحا ، عندما أخذت بعض العربات اليدوية تغادر جحورها وزواياها المظلمة بنواحي باب فتوح واجنانات القرود ؛ تحث سيرها باتجاه الطريق الرئيس ، أو لعلها كانت تحاول أن ترابض هناك بعيدة عن أعين بعضها . توقفت الحافلة وشرع بعض الركاب يتأهبون للنزول وإيداع أكياسهم ورزمهم بالعربات ، وما هي إلا لحظات وبعد أن توارت العربات خلف الأبنية المظلمة إذا بجماعة مسلحة بالهراوات والسيوف تقتفي أثرها لتنقض على السلع ، وتدور في أعقابها معركة عنيفة بين أفراد عصابات ومرتزقة تشتغل لجهات ؛ قيل إن بعضها مقرّبة من المخزن وتنشط تحت مظلته !

 

قريبا من مكناس

 

غادرت حافلة احميدة فاس مخلفة وراءها حربا ضروسا في أزقة ودروب حالكة ، لكن وقائعها التراجيدية لم تنته بعد ، فما أن قاربت على مشارف مكناس حتى طلبت بديعة من احميدة بغنج واضح وهي تلوك علكة وعيناها متورمتان ، وآثار دموع السهر باد على محياها : ” … عافاكْ آخويا احميدة ..وقفْلي هنا … باشْ …نـ”

– احميدة مداعبا سيجارة بين شفتيه الغليظتين : ” … راكي ما زالا .. ما ..”

– ” ياكْ خلّصتك فالّاول … واشْ عشر لاف ريالْ ماشي افلوسْ ؟”

– ” … فلوس .. ولكن متنسايش راكي ادّايّا معاك القرقوبي 800 باكية .. واحسْبي ..”

– ” آحميدة … ياكْ اعطيتكْ ….”

– ” .. زيديني 10 الاف ريالْ اخرى ..قدّامنا اجدارميا … تمشي فيها بخمس سنينْ ديال الحبس …”

استلت من حزامها ورقتين من فئة 200 دهـ وقذفت بها إلى المقود منفجرة في وجهه : ” .. الله ينعال ليتيق … واخّا آحميدة .. اعقلْ عليها ..”

كان المكان مقفرا ، ترجلت وأخذت تجيل بصرها في العتمة ، فقط رياح تعبث بأشجار الصفصاف ، لكن ما إن خطت قليلا حتى نادت : ” … عبد النبي … عبد النبي … !وعلى إثره ظهرت سيارة وهي تختال وسط الأشجار وتتحرك باتجاهها . خرج عبد النبي فاستقبلته بوابل من الشتائم ” … أفايناكْ .. لدينْ مّاكْ .. كنتي ناعسْ … خلّيتيني معا احميدة ولد القـ .. إدير فياّ ما بغا .. الله يحراق ..”

احميدة يقطن مكناس ، وقد دأب على أن يعوضه الملياني في استكمال الرحلة إلى مراكش ، لكن عطلا ما حل بالمحرك مما أجبر المسافرين على انتظار الساعات الطوال على أمل إصلاحه ، ولم يكن أحد منهم يجرؤ على استبدال الحافلة ، مخافة تعرضه لمساومات جديدة أو سقوطه بأيدي الجدارميا الذين تعج بهم الطرقات بحثا عن صيد ثمين ! .. كل الأنظار كانت تتابع بصبر نافذ عملية فك قطع غيار المحرك والبحث عن مصدر الخلل .. ولا أحد منهم خطر بباله ولو للحظة قصيرة ابتعاده عن الحافلة أو بالأحرى “سلعته” الثمينة التي يعتاش عليها . فقط كانت المكالمات تنهال على هواتفهم متسائلة وباحثة تارة ومستعجلة أو مستغربة تارة أخرى . حولوا الحافلة إلى خيمة مفتوحة للمداومة خاصة بالأكل والشرب أو النوم المصاحب للشخير الحاد .

ما إن اقترب المغيب حتى تهللت الوجوه الشاحبة بعد أن أداروا المحرك من جديد .. وجعل ينفث بسخامه ، ومنبه الحافلة على أشده يطن في الآذان باستئناف الرحلة السندبادية … لكن قبل الإقلاع توقفت دورية للشرطة ، فتوجه إليها الملياني شاهرا ورقة 50 دهـ في وجه أحد أفرادها وهو يكاد ينفجر : ” … من الصبح … من الصبح عادْ دابا والو … ولا بغا يدير أمارش .. راكو شايفين الحالة .. دابا نخلفوها …”

 

  مراكش في الانتظار

 

كان الملياني يزبد ويرغي ضاغطا على دواسة السرعة ، غير مبال بالرياح التي كانت تصفع وجوها عبر نوافذ مهشمة ، لم يتبقّ من ألواحها سوى قطع ناتئة تحدث مع سرعة الرياح عويلا لا يطاق ، تحولت معه الحافلة إلى موكب جنائزي مهيب ومخيف . في تلك الأثناء دار حديث على الموبايل بين اثنين أحدهما بمراكش :

– ” شوف آولد العطّاويا .. راها القضية حامضا .. دابا الكار منينْ دار آمبان … ما كاين حتى شي برغوت غادي يتعرّض لينا فالمحطة …”

– ” .. اشْحال من واحد سوّال على الكارْ … باغيين يكشطوه ..”

– ” .. أودابا كيفاشْ … راها التّنفيحا هادي … راها 2 كلغ ديال الدهب ..”

– ” .. خصْنا … شي بلاصا بعيدا … شوفْا هدار معا السويهلا … آجي معاه فالهوندا وتلاقاوني فالنخلة … جواياه خمسا داصْباحْ ”

ومع اقتراب الملياني من مشارف مراكش ، ركّب ولد العطّاويّا نمرة وأخذ في الإصغاء بكامل الاهتمام : ” … آه … آشْكون … أنت ولد العطّاويا … لا غير النعاسْ … واشْ انتا متأكد … 2 كلغ .. راكْ عارافْ الشّافْ واعر .. إلى مشاتْ حتى صدْقات خاويا ” ، بمجرد أن أنهى مكالمته تحول إلى نمرة أخرى وجعل ينتظر :” .. آلو السويهلا … واحاد الفاياج ألّا … قريب غير هنا فالنخلة .. غادي نمشي معاك .. ما تْعطّلش .. ياالله ”

كانت الحافلة تقترب من منطقة النخلة في سفوح قمم أكايمدن التي ما زالت تحتفظ بوشاح أبيض لندف ثلوج بقيت عالقة هناك لأكثر من بضعة أشهر . سادت خشخشة وسط الركاب ، أحدهم البهجوي كان يستل أكياسا خفيفة من الجنبات وتحت المقاعد لتجميعها في كيس بلاستيكي ضخم ، ثم أشار إلى الملياني بالتوقف عند النخلة .

– الملياني متوجها إلى البهجوي صاحب الكيس ” … شوف آخويا .. راها ما زالا باقْيا عنداك شي احْسيبا ..”

– يرد عليه البهجوي ” .. كيفاش راني اعْطيت لحميدة …”

– ” …باقا عنداكْ 7 الاف ريال .. تعْطيها دابا ولا حتى اندخلو مراكش ..؟ !”

– ” … والله ما بْقينا عارفين معا من كاينين …هدي تشفّارت .. الله ينعلها خدما …” ، قالها مشيرا إلى ورقات ثلاث وملحا على الملياني بتسلمها ..

ترجل البهجوي من الحافلة ويداه ماسكتان بالكيس ، أخذ يمشط بنظراته المكان ، ومن خلال شجيرات وأبنية واطئة كانت بعض كتل الظلام لا زالت تغشاها ، وفجأة لاحت له عن بعد عربة الهوندا وهي تنتحي جانبا قبل أن ينزل منها ولد العطاويا صحبة السويهلا ؛ يخطوان بحذر إلى البهجوي تحاضنوا وتصافحوا قبل أن ينحشروا جميعهم داخل الهوندا والكيس عند أرجلهم .

انطلقت الهوندا في اتجاه مراكش المدينة ؛ وما هي إلا دقائق معدودة وبينما كانت تهم باجتياز منعطف قريب من أدغال نخل يابس إذا بها وجها لوجه مع حاجز طرقي مسنن ، ولرؤيته ثارت ثائرة ولد العطاويا :

” … كيفاش … عادْ دابا دزْنا … ما كان حتى واحد … آدْوي آلسويهلا … ..؟ ! ” ، لكن البهجوي وبخفة أخذ مكان السويهلا وضغط بقوة على دواسة السرعة ، يريد اجتياز الحاجز .. أثناءها حاول ولد العطاويا أن يقفز إلا أن البهجوي كان قد عالجه بضربة سكين على مستوى بطنه ، فيما أخذت الهوندا تترنح بعد أن أصيبت إحدى عجلاتها بسنان الحاجز . حاولا معا قذف الهوندا بالحجارة وهما يستقلان دراجة رباعية الدفع ؛ لم يقو البهجوي على ضبط توازن الهوندا فارتطمت بحافة الطريق ليجدا نفسيهما معا مطوقين براكبي الدراجة وقد صوبا إليهما سنان سيفيهما … كان البهجوي مصابا في فخذه اليسرى فيما بدا السويهلا مغمى عليه غير مبد أية حركة .

أمسكا بالكيس وأودعوه بينهما على متن الدراجة بعد أن تجردا من ملابس الدرك . قفلوا عائدين بينما كان هناك صوت ما زال يحتد بهاتف أحدهما : ” … زوْلوا لكسْوا …زولو … زوْلوا لكسْوا … ! عنْداكو… لكسْوا واشْ ماعرفينشْ آشنو هيا الكسوا ديال لمخزن ؟! .. راها هي كولشي … بها خدّامين وكاناكلو الخبز …”

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى