الـمستضعفون في الأرض

حراس الأمن الخاص، المنظفات، المستخدمون المؤقتون، المياومون… تتعدد المهن والحرف ويبقى الواقع واحدا، البعض يقهره الزمان وقلة حيلة اليد، والبعض الآخر يقهره بني جلدته، ممن يعيثون في الأرض فسادا ولا يرقبون في المستضعفين اعترافا بالحقوق ولا التزاما بالعقود، ولا تضامنا ولا شفقة إنسانية، ولا احتراما للمواثيق والقوانين الزجرية…

يقال بأن العدالة عمياء، فهي لا تنظر إلى أحوال المتقاضين ومكانتهم في المجتمع، وإنما إلى الحجج التي بحوزتهم، ولا ترى الحقائق إلا بمنظور الوثائق والإثباتات، وهذا ما حدا بالبعض إلى لَيّ الوقائع والتحايل على القوانين كي يبدو ما يقومون به موافقا للإجراءات والقرارات الجاري بها العمل، مستغلين بذلك قصور القانون وتعدد ثغراته وكذا حاجة الضعفاء، واختلال العرض والطلب، وارتفاع نسبة البطالة … ليبقى السؤال معلقا، كيف السبيل لتطبيق القانون وضمان الحقوق والحريات في عالم ظاهره استثمار وباطنه استغلال؟

المستخدَمون …

يبقى الاستغلال وهضم الحقوق واستعباد الطبقة الكادحة، وانتهاز فرصة عدم وصول صراخها و أنينها للجهات المسؤولة عن حمايتها، والإبداع في طمس الحجج التي تخول لها المطالبة بحقوقها، من أبشع ما يميز الأشخاص المعنويين والذاتيين المستغلِّين البارعين في التحايل على القانون.

الصراع الأزلي بين الخير والشر، وبين تطبيق القانون والتحايل عليه، يرخي بظلاله على الأجير والمستخدم البسيط، الذي يلفحه حر البطالة والغلاء المعيشي، ولا يغنيه عنه الظل ذي الثلاث شعب الذي يوفره له صاحب العمل، والمتمثل في غياب الظروف الإنسانية للعمل، وفي عقد الشغل المجحف والمفخخ، والتباين الحاصل بين المبلغ المتعاقد عليه، وما يتم استلامه فعليا، وعادة ما يكون أقل مما هو مدون ببيان الأجرة الذي يوقعه المستخدم مكرها في نهاية كل شهر مقرا بتوصله بجميع مستحقاته.

بعض الشركات تعتمد على مكاتب التشغيل أو التدبير المفوض للخدمات، حتى تتنصل من مسؤوليتها تجاه هذه الطبقة الشغيلة، وتدفع بها في حضن شركات مغمورة لا تلبث حتى تعلن إفلاسها، أو تفرض عليهم عقود شغل محدودة المدة يتم تجديدها بغرض حرمانهم من مستحقات نهاية الخدمة. بالإضافة إلى سعيها للقضاء على العمل النقابي الجاد ومحاربة كل أنشطته أو إفراغها من مضمونها، بهدف تحقيق الاستغلال البشع لطاقاتهم دون احترام لحقوقهم وتمتيعهم بما يخوله لهم قانون الشغل، كل هذا وغيره يرضخ له الأجير خوفا من فقدان عمله، نظرا لعدم كفاية أدلته لنيل جميع مستحقاته أمام القضاء.

الحِرَفيون …

غير بعيد عن غياهب الشركات وعالمهم المظلم تجاه الطبقة الكادحة، فسوق الشغل الحر في عالم الحرف والمقاولات الذاتية والتجارة الحرة.. يعمد أصحابه إلى تشغيل مساعدين لهم ومياومين لا تربطهم بهم أية عقود تضمن الاستفادة من الحقوق التي يضمنها لهم القانون، وقد يصبح قوت يومهم رهين مزاجية أرباب العمل أو نتيجة لاختلال العرض والطلب أو لظروفهم الصحية، وهذا ما يُعد تجسيدا حقيقيا للاستعباد، ناهيك عن الحوادث والمخاطر التي تحدق بهم، وغالبا ما يقعون ضحية لها في غياب التأمين عن المخاطر، مما يجعل عملهم في هذه الظروف كالصيد في عالم البراري.

واقع مزري تزيده الأجرة الزهيدة بؤسا وقساوة، والتي لاتعدو أن تكون دُرَيهمات معدودة بصفة غير منتظمة، تلقي بهم تحت عتبة الفقر المدقع، مع غياب التغطية الصحية وتعويضات المعاش التي يفترض أن يتمتعوا بها خلال فترة التقاعد عن العمل لتغنيهم عن التسول في الشوارع و الأزقة، وعن التشرد و اجترار آلام المرض والعوز الذي سيلقي بهم حتما في دور العجزة التي لن تكون ملاذا آمنا لهم ولا لغيرهم، وقد يجدوا أنفسهم مرة آخرى تحت رحمة قساوة الأرصفة والحدائق العامة المهجورة …

إذا كان هذا حال المستضعفين في الأرض، فلن يكون حال أبنائهم أفضل منهم، فالهدر المدرسي وتشغيل الأطفال والإدمان وتعاطي المخدرات والسرقة والسطو المسلح وتجارة الممنوعات … كلها ظواهر ستكون الحضن الغادر لهذه الفئة.

صناعة الفقر …

يجب أن تكون غاية القانون هو حماية الضعفاء بالأساس وضمان حقوق الجميع، فالقانون كما يقال يجب أن يكون كالموت الذي لا يستثني أحدا.

إن التقاعس في تطبيق القانون وفي مراقبة ظروف الشغل، وتهرب المستثمرين وأصحاب المشاريع من الامتثال لنصوصه طمعا في مضاعفة الأرباح … كلها عوامل تساعد في تعزيز صناعة الفقر وإعادة إنتاجه بغزارة، وتساهم في تكدس الثروة لدى الأغنياء، والتي في الغالب يتم تبديدها في الكماليات والسفريات خارج أرض الوطن، أو في تمويل دراسة الأبناء بالخارج، أو اقتناء عقارات بدول أجنبية، رغبة في تلبية نزوات التباهي كثقافة شعبية لازالت تسيطر على البعض والتي لا تجني منها الدولة سوى تصدير للعملة الصعبة وتفاقم العجز التجاري. في الوقت الذي نستغرب فيه عدم وجود أسمائهم ضمن المتبرعين للجمعيات الخيرية أو الداعمين للمبادرات التضامنية النبيلة، أسوة بأغنياء بقية دول العالم تجاه فقرائهم، وذلك لتحقيق التلاحم بين مختلف فئات المجتمع، والمساهمة في تخفيف معانات الفئات الهشة.

إن تأثير الأزمة الاقتصادية أرخى بظلاله على عائدات المهاجرين بالخارج المعيلين لعائلاتهم بأرض الوطن، فلم تعد الهجرة حلا من الحلول السحرية للهروب من بَراثِن الفقر. وهذا ما جعل الدولة تتحمل مسؤولية التنمية البشرية وتقديم المساعدات للمعوزين، أو تخصيص أسواق للقرب لفائدة الباعة المتجولين الذين اختاروا احتلال شوارع مراكز المدن لممارسة نشاطاتهم …ومعظم هذه المجهودات ليست سوى مسكنات للآلام وهروب للأمام.

إزاء هذا الوضع، فقد أصبح لزاما على خبراء الاقتصاد ورجال القانون والسياسة البحث عن السبل الكفيلة للحفاظ على الموازنة بين طبقات المجتمع، بُغْيَة القضاء على الفقر، وتقليص هوة الفوارق الاجتماعية والتفاوت الطبقي، قصد تمكين الفئات الهشة من ضمان حقوقها في الحصول على الأجور والمستحقات القانونية، التي تضمن لها العيش الكريم وتغني الدولة عن هدر الميزانية العامة في مساعدات لا تغني ولاتسمن من جوع، ولا تُغير الواقع المعاش بل تزيد في تكريسه، وغالبا ما تتعرض هذه المساعدات للنهب من طرف الأيادي الخفية قبل وصولها للمعوزين والأرامل والأيتاموالمتضررين…

لذلك فانه يُفترض في المنظومة القانونية أن تكون هي تلك المظلة التي يحتمي بها الضعيف من غطرسة الطغاة، ومن جور شبكة المفسدين، بينما يشكل تخليق جهاز العدالة ذلك الملاذ الآمن والدرع الواقي من تجاوزات المتسلطين التواقين لقانون الغاب لكي يأكل القوي الضعيف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى