المقاطعة رسالة للفهم

عرف المغرب في السنتين الاخيرتين موجات من الاحتجاجات الاجتماعية ، شكلت في كل تجلياتها مرحلة جديدة من الاحتجاج الشعبي من حيث المكان و من حيث طبيعة المحتجين و الشعار المطلبي ، فحراك الريف  و في تسميته يحدد المكان و من المكان تحدد طبيعة المحتجين ، نجده قد وضع مطالب بناء المستشفيات و الجامعات و توفير مناصب الشغل في صلب النقاش العمومي؛ و تلاه حراك زاكورة الذي حمل مطلب توفير الماء كضرورة آنية ؛ ثم حراك أوطاط الحاج الذي كثف صوت ساكنة المدينة المطالب بتوفير الخدمات الصحية ،  و أخيرا حراك جرادة الذي ركز المطالب السابقة في مطلب عام يشمل كل المطالب السابقة التي رفعتها الحراكات السالفة الذكر و المتمثل في  “البديل الإقتصادي”.
هذه الاحتجاجات رسخت مرحلة جديدة كما اسلفت الذكر تميزت بالاستعمال المكثف للوسائط الاجتماعية بكل انواعها و بسلمية الاحتجاجات الذي كان هما مرهقا للمحتجين ، أدى إلى تحقيق أشكال تنظيمية نوعية ابهرت الجميع.
اليوم انتقل الاحتجاج إلى مرحلة اخرى كذلك و هي فريدة من نوعها شكلا و مضمونا في تاريج الاحتجاج الشعبي بالمغرب، تجسدت في حملة المقاطعة لبعض المنتوجات عبر الفضاء الازرق و الوسائط الاخرى و على راسها الواتساب، و في كل هذه الاحتجاجات و بكل انواعها و بآخر ابداعاتها يحضر القدر الكبير من الغضب و الاحباط و التدمر لدى فئات واسعة إن لم اقل عامة من الشعب المغربي و بالاخص الطبقتين المتوسطة و الفقيرة ، تكثنفه قلق متزايد بشأن الوظائف و الرواتب و توفير لقمة العيش كل حسب موقعه الطبقي ، و يختزله شعور عارم لديهم يتمثل في كونهم خارج دائرة اتخاد القرار الذي يتعلق بهم سياسيا و اقتصاديا و بالتالي حاولوا ابداع هذه الاشكال للاجابة عن سؤالهم المؤرق كيف يكون صوت الشعب مسموعا ؟
و في كل هذه الاحتجاجات لعبت الطبقة المتوسطة دورا محوريا في صياغة اشكاله و مطالبه و التأطير له نظريا و عمليا و العمل على تعميم النقاش حول محتواه في مواقع تواجدها الاجتماعي افتراضيا من خلال الوسائط الاجتماعية أو واقعيا من خلال تواجدها الوظيفي في اماكن العمل و في المقاهي و المنتديات و الحلقات الاجتماعية الاخرى من الاسرة إلى الجيران و الحي، و هي بذلك تحاول الدفاع عن موقعها الذي صار مهددا بفعل تداعيات السياسات الاقتصادية الليبرالية المتوحشة التي قضت على احلامها و تطلعاتها في الرقي الاجتماعي أو ما يطلق عليه الانتقال التصاعدي داخل المنظومة المجتمعية مما جعلهم في وضعية اقرب إلى الطبقة الفقيرة .
كل هذا الوضع المتأزم مرده إلى الراسمالية المتوحشة أو رأسمالية أقلية الاقلية ، التي سبق للقوى الحية في البلاد ان نبهت على خطورتها منذ 1984 أي مند تبني سياسة التقويم الهيكلي و ما تبعتها من سياسات للخوصصة و بعدها سياسات تحرير الاسعار و الاعفاء الضريبي للشركات و المقاولات على حساب دافعي الضرائب من المواطنين إلى لحظة ترسيخ مفهوم غامض و لكنه ممنهج و هو اقتصاد السوق الحر بقواعده المتغيرة حسب المصالح و الظروف و المتمثلة في القواعد الخمس : الملكية المطلقة ، الاحتكار ، العقود ، الافلاس و التنفيد و هي قواعد لا تاتي من الطبيعة و انما تعكس مصالح الاقوى . حيث أن الاختباء وراء شعار السوق الحر اتبث بالملموس أن السيولة المالية المتسارعة و اليومية تخرج من جيوب المواطنين العاديين و تتدفق إلى الطبقة المستفيدة و اقليتها كذلك في شكل أرباح لمقاولاتها الضخمة و أجور مديريها التنفيديين و إلى اصحاب الاسهم.
و أثناء عملية التدفق و ما تنتجه من تراكم للثروة ، و الثروة بدون سلطة سياسية هي ثروة مفقودة ، تمت عملية القفز إلى دائرة السلطة السياسية قصد التحكم في كل الجزئيات حفاظا على الثروة و رغبة في المزيد من التراكم و قصد المزيد من القدرة على التاثير و التحكم في قواعد اللعبة.و هو ما صار باديا للعيان و منذ سنوات من خلال الترخيص لرجال الاعمال و الاثرياء من التوغل في المشهد السياسي عبر التحكم في الاحزاب السياسية و السيطرة عليها من خلال اقصاء الفاعل السياسي الحزبي و تبديله بمول الشكارة، حتى يتحول الحزب و موقعه السياسي إلى منطلق للدفاع عن مصالح هذه الاقلية عبر بوابات السلطة التنفيدية  ( وزراء يدافعون عن مصالح الشركات بدل الدفاع عن مصالح الفقراء) و التشريعية ( الباطرونة ، برلمانيين اثرياء ) و القضائية ( محاكمة النقابيين و المحتجين).
أمام هذا الوضع المتازم ، بدأ الغضب و القلق و التدمر يسفر عن قواعد مجتمعية جديدة و خطيرة ، فالمجتمع لم يعد يعنيه التموقع الفكري و السياسي يمين يسار بل بدأ يرسخ مفاهيم جديد و منطلقات للتفكير جديدة انحصرت في توجهين بارزين اكيد ان تداعيات ترسيخهما ستكون لها عواقب فظيعة و هما من مع المؤسسات و من ضد المؤسسات .
إن الخلاصة التي يمكن الخروج منها تتعلق بأن الديمقراطية التي تروج الآن هي ديمقراطية تناسب عمليا و تكتيكيا و استراتيجيا هذه الاقلية المتنفدة و المستفيدة و هي آلية للمزيد من تراكم الثروة ، و بالتالي أعتقد ان إعادة النظر في ميكانزمات نظامنا الاقتصادي و توجيهه نحو مبدأ العدالة الاجتماعية و الكرامة الانسانية  و الدولة الاجتماعية التي أساسها  المواطنة الحقة التي تعني ليس فقط الانتخاب و دفع الضرائب بل تعني المشاركة الحقيقية في اتخاد القرار و في الاحتجاج إذا كان الاحتجاج ضروريا.
أكيد إذا وضعت نفسك في حالة الاختيار بين العيش في فينيزويلا التي يتزعمها شيوعي مناضل و الدانمارك أو النرويج الراسمالي ، فإنك ستختار الاخيرتين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى