جدلية الأدبي والفني.. دراسات في العلاقة بين الكتابة الأدبية وصناعة الفنون
بقلم: المصطفى البغدادي
لم يكن الأدب يوما بمعزل عن باقي الحقول المعرفية الأخرى، بل نجده في اتصال دائم بالفلسفة والعلوم وغيرهما، كما نجده يصنف ضمن الفنون لكون الأحاسيس والمشاعر تطغى على الإنتاجات الأدبيّة بصفة عامة. إذا كان نيتشه Nietzscheيعتبر أن لا وجود للجسد خارج لغة تعبر عنه ويعبر هو بدوره عنها، فإن الفنّ لا يمكن تحققه إلا من خلال قوالب لغوية تندرج ضمن الأصناف الأدبية المتعارف عليها ولطالما شكلت العلاقة بين الأدب والفنّ مادة غنّية من حيث تضارب تعريفات وتصنيفات هذين المفهومين، لكن مما لا شكّ فيه أنّهما كانا ومازالا في اتّصال دائم يصل حد التّماهي في الغالب الأعمّ.
في بحثا الموسوم ب ” جدلية الأدبي والفني: دراسة تطبيقية “، سنحاول الوقوف على الارتباط حد التّماهي بين الأدب، باعتباره رافدا أساسيا في الصناعة الفنّية والثّقافية بشتّى تلاوينها، والفنّ بكونه امتدادا للممارسات الأدبية التي قد لا تضع في كثير من الأحيان إمكانية ترجمتها لأعمال فنّية تروم الإمتاع وتنسلخ عن التصنيفات ” الإسمنتية ” التي تحول بين القصة والرواية والشعر… سنحاول أيضا تبيان ما مدى قدرة المسرح والسينما على أن ينهلا من الأشكال الأدبية جميعها إلى أن يتوفر لهذه الفنون متخصصون يكتبون مباشرة مسرحيات مستقلة وسيناريوهات أفلام لا تستلهم أحداثها من الإنتاجات الأدبية.
إن المسرحيّ، كما هو الحال بالنسبة للسينمائي، يرى في كل الأعمال الأدبية مادّة خاما يمكن ترجمتها لنصوص وعروض فرجوية تمنح الحياة لشخصيات متخيّلة، شخصيّات ظلّت حبيسة دفّتي المؤلّفات لتعطيها مساحات من التحقّق ولو افتراضيا. إن الصّناعة الفنّية أو الهندسة الفنّيةL’ingénierie artistique ، حسب الدكتور عبد الباقي بلفقيه، تتطلب قدرا كبيرا من المهنية la professionnalisation وإتقان فن الترجمة الفنية la traduction artistique، إذ بغياب تكوين أساس على هذا المستوى سيجعلنا أمام نصوص لا علاقة لها بالنّصوص الأدبية الأصليّة. وإذا كانت الوساطة الثّقافية تعنى بتجسير العلاقة بين المادّة الفنّية، سواء أكانت رسما أو نحثا أو قصيدة شعرية، وجمهور عريض من فئات المجتمع وكذا استنباث الثقافة وتقريبها من هذه الفئات، فإن مفهوم الوسيط هنا غاية في الأهمّية، بل إن دوره محوري إلى درجة يمكن اعتباره فيها مبدعا “جديدا ” بعيدا عن سلطة الكاتب والنصّ الأصلي. بناء عليه، سنحاول الإجابة عن سؤال ما مدى كون الصّناعة الفنّية التي تشتغل على نصوص أدبيّة Textes littéraires نوعا من الإبداع أم أنّها تبقى تحت رحمة وسلطة الكاتب والنصّ ؟ وهل يستطيع النصّ المترجم le texte/le spectacle produit (المنتوج الفنّي) أن يستقلّ بذاته على مستوى الإمتاع والإقناع ؟ أم أنّه سيحتاج للنصّ ” الأب ” كي يجد لنفسه مكانا بين الإنتاجات والصناعات الإبداعية.
من منظور مدرسة فرانكفورت، خصوصا مع رائدها تيودور أدورنو Theodor W. Adorno ، نجد أنّ الصّناعة الثّقافية أو الفنّية تحيل إلى مفهوم تسليع الفنّ وجعله مادّة تبادليّة حسب الحاجات التي يمليها الطّلب المتزايد على الصّناعات الثّقافية، خصوصا في الوقت الرّاهن الموسوم بالانتشار الواسع للصّورة بجميع أنواعها من رسم وكاريكاتور وفيديو وعروض فرجوية، وبتأثيرها الفعّال في صناعة وتوجيه الرّاي العام.
لمَّا كان المسرح أب الفنون، كان لِزاما عليه تصوير حياة النّاس بكل تفاصيلها الدّقيقة، فكانت بذلك المسارِح اليونانية والرّومانية ملتقى مقدّسا تجتمع فيه وعليه النّاس ليروا حياتهم اليوميّة في قالب درامي وفنّي بهي. عروض تتعدّى جانب الإمتاع والفرجة لتصير أداة لتنمية وتوعية الفرد والمجتمع بمشاكلهما وهمومها والتحدّيات التّي قد تعترضهما. في هذا السّياق، يأتي مؤلّف ” حدائق تًزهر ليلا “، كتاب جماعي أشرف الأستاذ الدّكتور عبد المجيد شكير على تنسيق موادّه والتّقديم له. مسرحيات يحضر فيها ” الإمتاع le plaisir ” بشكل كبير في جميع فصولها؛ ذلك أنّها تنضب من معين الواقع المعيش، مجسّدة بشخصيّات تعيش بيننا وفينا مشكّلة بذلك أعمالا أصيلة Authentiques توفّرت فيها جميع عناصر المسرحيّات النّاجحة والمتميّزة من نصّ وحبكة وشخصيّات ولغة وأسلوب وزمكان وُظّفوا أحسنَ توظِيف.
في هذا العمل الأدبي والفنّي، اشتغل الأستاذ والمخرج المسرحي عبد المجيد شكير وفريق العمل المتميّز على ترجمة/تحويل نصوص أدبية إلى نصوص مسرحية تنهل من النصوص الأدبية الأصلية. عمل اجتمع فيه حب واتقان الزجل و الرواية والشعر لتكون بذلك أرضا خصبة ساهمت في إنتاج نصوص مسرحية وعروض فرجوية. محاولات حاور فيها مبدعون شباب تتلبّسُهُم حالة مسرحية فريدة ترى في كلّ الأنواع الأدبية مادّة خام يمكن تحويلها لعرض مسرحي يعطي مساحَة وجودية لشخصيات ممكنَةِ التحقّقِ على خشبة المسرح. كل هذا يستشفُّه القارئ وهو يغوص بين ثنايا مسرحيات تجسّد في عمومها الواقع المعيش وذلك من خلال تجارب عديدة وعبر حوارات المعيش اليومي للشخصيات. صناعة إبداعية شكلت في مجموعها عروض مسرحية يزرع فيها مبدعون “الحياة ” في شخصيّات لم تراوح دفّتي الرّواية والقصيدة الشّعريّة. أعمال امتدت فيها جسور الاتّصال بين هندسة فنّية (النصوص المسرحية) والنصوص الأدبية الأصلية التي استلهمت منها الموضوعات المسرحية لأنّ الفنّ يحيى داخل الكتابة السّردية والشعرية لكونه جزءا لا ينفصل عن جميع الأجناس الأدبية.
جدير بالذّكر أنّ مسرحيات ” حدائق تزهر ليلا ” هي باكورة ورشة للكتابة الدراميّة موضوعها مسرحة الأدب المغربي وتقديمه على شكل عروض فرجوية. يقع الكتاب في 153 صفحة، قدّم له منسّق الكتاب الجماعي الدّكتور عبد المجيد شكير، مهندس فلسفة جمعية ومسرح أبعاد. ويضمّ هذا المؤلّف الجماعي أربع مسرحيّات لأربعة مبدعين انخرطوا في تجربة فريدة ونوعيّة بروح تتنفّس المسرح وتعيشه.
” فراشات عائدة ” هي أولى المسرحيات التي تضمّنها الكتاب الجماعي، عن قصائد للشاعر عبد الكريم الطّبال التي استطاع من خلالها أحمد السيباع أن يتخيّل موجودات أضافت لقصائد عبد الكريم الطّبال ما لم يكن موجودا. حسب الطّبال، ينطلق الإبداع عندما نطلق العنان لخيالنا مستشهدا على ذلك بالمدينة الفاضلة التي لطالما حلم بها أفلاطون والتي شكّل الخيال أحد أعمدتها.
المسرحيّة الثانية مقتبسة من رواية للكاتبة ليلى أبو زيد معنونة بِ ” رُجوعٌ إلى الطفولة “. حاول عادل الضريسي ترجمة هذا العمل إلى مسرحية تحت عنوان ” أسوار الجب…” التي قدّمت لها الكاتبة نفسُها معلّقة : ” (…) وجاء القرن العشرين ليكون قرن الاقتباس بامتياز، فيه تحوّلت لائحة طويلة من الرّوايات العالمية المشهورة إلى أعمال سينمائية ومسرحيّة ضخمة.” وتضيف ذات الرّوائية أيضا : ” (…) ، وإلى أن يتوفّر للمسرح ما يكفيه من المتخصّصين في الكتابة المسرحية الأصيلة، سيبقى أبو الفنون ينهل من الأدب”.
المسرحية الثالثة عنونها المسرحي الواعد جمال عبد النّاصر الفزازي بِ ” الأبواب “، التي اشتغل فيها على المجموعة القصصية ” خمس رقصات في اليوم ” للكاتبة فاطمة الزهراء الرغيوي. النص المسرحي، حسب ذات الكاتبة، هو انتاج إبداعي مهما نهَل من النص الأصليّ لأنّ معالم النص قد تختفي عندما تتمُّ محاورته و الاشتغال عليه إضافة أو حذفا، كما تعتبر الكاتبة أنّ النّص الأدبي يكبر عندما تتمّ محاورته وترجتمه. تقول الرغيوي معلّقة على مسرحيّة ” الأبواب ” : ” الحقيقة، أنّني وقد اطّلعت على النصّ المسرحيّ لعبد النّاصر الفيزازي، وجدتني بداية أحاول البحث عن نصوص أو على الأقلّ، آثار من نصوص خمس رقصات في اليوم، ثمّ إذ تبيّن لي أنّني إذ كنت أفعل ، كنت أفوّت أمرا شديد الأهمية بالنّسبة لي كقارئة: متعة التّلقّي. لذا قرّرت أن أقرأ مسرحية الأبواب كنصّ منفصل عمّا كتبته.” أن يبدع جمال الفيزازي على إبداع الكاتبة فاطمة الزهراء الرغيوي يعني أن يخلق حوارات تتخلّص من المتن السّردي المثقل بالحكي والوصف والتّفاصيل الدقيقة للقصّة. يضيف جمال الفيزازي مبرزا بعض المعيقات عند الاقتباس من المجموعة القصصية قائلا: ” (…) في البدء، لم يكن يعنيني فهم مصطلح الاقتباس وإبدالاته كالمغربة والاستنبات أو التعريب أو المسرحة، بل مباشرة إنجاز تحويل نصوص أدبية قصصية إلى نصّ أدبي مسرحي في مقام محدد ” التوطين الثقافي ” وفي زمن محدّد والتّواصل مع الكاتبة فاطمة الزهراء الرغيوي عند الإقتضاء. وقد اعترضتني في تحقيق هذا المنجز الأدبي/ الفنّي بعض الصّعوبات والمشاكل الموضوعية منها:
أوّلا: لعل تحويل مجموعة قصصية إلى نص مسرحي أصعب من الاقتباس من رواية ذات حكاية موحدة. وقد وجدتني هنا أمام حكايات قصصية متباينة (14 قصة) وكلّ اقتباس هو تشويه للقصص ذاتها، إذ من المتعذر اقتباس كل قصة في مسرحية قصيرة لأنّ الهدف من المشروع وهو انتاج نص مسرحي بحكاية واحدة. اذن كيف يمكن تحويل الوفرة الحكائية إلى وحدة حكائية؟
ثانيّا: بعد قراءة كل المجموعات القصصية للكاتبة وبالأخص هذا الكتاب تبين لي أنّ التّيمة الأساسيّة المهيمنة تتمحور حول المرأة /تحرّشا أو تعنيفا أو اغتصابا حاضرة بقوة في قصة (خمس رقصات في اليوم) وهو نفس عنوان المجموعة.
هكذا انطلق جمال الفزازي في تحويل القصة الى مسرحية، الشّيء الذي استدعى توظيف شخصيات من قصص أخرى لنفس المجموعة تتقاطع معها في إعادة إنتاج التّيمة وإن كان بأساليب مختلفة. كان لابدّ أيضا من استدعاء فضاء جديد ومن ذلك تخيّل الكاتب فضاء غرفة الانتظار بالمصحّة النّفسية، فضاء يسّر لكلّ شخصية سرد ما عايشته سواء في الشّارع أو المنزل أو المرقص أو المحكمة.
إذا كانت الترجمة خيانة للنص الأصلي، فإنّ عمليّة الاقتباس عملية نبيلة ومن أهمّ علاماتها الانتقال من السّرد إلى شكل حواري يفترض في إعداده أن يأخد بعين الاعتبار العرض المسرحي، وبالتّالي وجود مشاهد ومتفرج مفترض. وإذا كانت الأزمنة والأمكنة تتغير هي الأخرى عند محاورة النصّ الأصلي، حسب ذات الكاتب، فهذا يستدعي إشارات وإضاءات تزيح جزءا كبيرا من النص، الشّيء الذي يفسّر الحضور الكبير لهذه الأخيرة في النص المسرحي ” الأبواب “. يضيف جمال : ” (…) من الصعوبات التي واجهتني هو تقديري لوجود كاتبة النّصوص “على قيد الحياة” أي أنّها تشكّل رقيبا رمزيا حتّى وإن كانت فاطمة الزهراء الرغيوي تقدّر جيّدا حرّية التّعبير وإكراهات الاقتباس، فحين تختار مؤلّفاا لكاتب ميّت تكون أكثر تحرّرا من تبعات عديدة وتبقى على صلة فقط بدار النّشر التي قد لا يهمّها سوى الرّبح ولو بإعادة قتل الكاتب الأصليّ (…) “.
أما المسرحية الرّابعة والأخيرة ، فقد اختار لها عبدُ الفتّاح عشيق عنوان ” كيد السكات” بلغة العامّية المغربية، للزّجّال رضوان أفندي و التّي جعل المقتبس (عبدُ الفتّاح عشيق ) الحياة تدبُّ في شخوصها المعطي والعربي ونجمة. يقول أفندي : ” (…) ولئن زعمت التّعرّف على كيد السكات زجليا بوصفي كاتبه، إلا أني لم أتعرّف عليه مسرحياكمجرّد صدى لمتن زجلي أو كفرع من أصل، وإنّما هو منتوج درامي يقدّم نفسه كأصل في ذاته، دون التّفريط في لغة لا تخلو من شاعريّة “. إنّ تحرّر عبد الفتّاح عشيق من القوالب النّمطية التي تكتنف الممارسات الإبداعية شكلا ومضمونا، أسهم في إبداع نص بعربيّة مغربية يمتح من واقع المجتمع وهمومه.
الاقتباس L’emprunt:
معلوم أنّ الاقتباس من النّاحية الاصطلاحية يعني نقل نصوص لمؤلفين أو مبدعين إلى لغة أخرى أو إلى نفس اللغة، مع تغيير في جنس النص الأصلي. في المسرح مثلا، خلّد التّاريخ ترجمات شهيرة لروّاد الأدب العالمي ككوميديا سيرانو دي بيرجوراك Cyrano de Bergerac، لكاتبها Edmond Rostand والتي اسلهمت أحداثها من سيرة ذاتية، بالإضافة لعديد من المسرحيّات التي ترجمت عن مؤلفات كلّ من توفيق الحكيم وأمير الشّعراء أحمد شوقي في اقتباسات همّت الكثير من مؤلّفات خالدة ك ” كليبترا” و ” مجنون ليلى ” وغيرهما.
إنّ استنبات المسرح في السّياق العربي La plantation du théâtre dans le paysage arabe تم عبر الاقتباس والترجمة أو التقليد مع محاولات المخرجين ملاءمة النصوص لتنسجم مع الطّابع الاجتماعي والثّقافي للمجتمعات العربية. في ” حدائق تزهر ليلا “، الاقتباس هو العنوان العريض الذي يطبع توليفة مسرحيات المؤلف الجماعي. اقتباس حاول معه الكتّاب نسج خيال على خيال والتفكير في أمكنة وأحداث جديدة منسوجة في حبكة فريدة تشدّ القارئ والمتفرج على حد سواء. وعليه، فإنّ ترجمة هذه النصوص الأدبيّة إلى عروض مسرحية تنمّ عن قدرة كبيرة على التخيّل الذي يمكن اعتباره عصب الإبداع وجوهره وحجر الزّاوية التي مناصّ منه في عملية الخلق والإبداع.
تقول الرّوائية ليلى أبو زيد معلّقة على اقتباس عادل اضريسي من روايتها ” رجوع إلى الطّفولة ” : ” (…) وقد وجدت وأنا أقرأ الاقتباس أنّ مكوّنات الكتابة الأولى من أسلوب وسرد وصياغة وتسلسل زمني، غابت ولم يتبقّ إلاّ القصّة كأساس أزيح عنه البناء الأول وأقيم مكانه بناء آخر دخل فيه الانتقاء والحذف والتعديل والتّغيير (…) “. إنّها الصّناعة الإبداعية، هكذا نصير أمام موت الكاتبL’éffacement de l’auteur على حدّ تعبير رولان بارت Roland Barthes ، حيث يختفي اسم الكاتب ليتربّع المقتبس على هندسة عرض فرجوي تنمحي فيه الحروف والكلمات تاركة المجال للأصوات والحركات, عروض تتحوّل فيها الشخصيات إلى أشخاص يتفاعلون وقضايا تأرق بال العديد منّا ليتحوّل بذلك النّص المتخيّل إلى عرض واقعي له امتداد في المجتمع وانشغالاته اليومية.
الاقتباس والصّناعة الإبداعيّةet l’industrie créative L’emprunt:
إنّ النّبش في سوسيولوجيا الكتابة بعيد وزمن الاستعمار يحيلنا إلى جدليّة الغالب والمغلوب Dominant/Dominé، وهذا على الأرجح ما يفسّر بعض التّرجمات التي همّت مسرحيّات موليير Molière وشيكسبير Shakespeare، فثقافة المستعمر تستأسد دائما وتكون محطّ التّرجمات والاقتباسات. في ” حدائق تزهر ليلا “، لسؤال الاقتباس جواب وحيد هو عدم توفّر كتابات مسرحيّة وكتّاب مسرحيّين متخصّصين في هذا المجال، ليبقى بذلك الأدب بشتّى أجناسه المورد الأساس في الكتابة المسرحيّة.
يعتبر الأستاذ الجامعي توفيق رشد ” الرّواية والفلسفة والموسيقى والشعر والسّياسة مجالات لا يمكن الفصل بينها إلاّ في المؤسسات التربويّة المتخلّفة التي تؤسس وتُكَرّس القطيعة بين أشكال التعبير وبذلك تحكم على نفسها بالتّقوقع والهجانة ” . ويرى ذات المتخصّص في فلسفة الفنّ أنّ القارئ يتحول من مؤرّخ إلى أخصّائي نفساني وعالم اجتماع وهو يقرأ نصّا في صفحة واحدة. إنّه سحر الأدب عندما يمنح القارئ جواز سفر نحو عوالم بعيدة يكون الخيال مفتاحها وحجر الأساس في التّفرّد وإبداع موجودات على ما هو كائن.
جدير بالذكر أن تحويل الرّواية أو القصّة القصيرة أ غيرهما إلى مشاهد وعروض أو أفلام ليس بالأمر الهيّن، بل إنّ الأمر يستدعي توظيف مهارات وآليات تقنية ليتوفّر في النّصّ المسرحيّ أو الفيلم السّينمائي مقوّمات العرض النّاجح. وفيما يلي بعض نماذج الأدب العالمي التي تم تحويلها لعروض فنّية تضاهي، بل قد تفوق النّصوص الأصليّة جماليّة وروعة:
أولا : رواية أرض النّفاق، للكاتب المصري يوسف السّباعي، رواية تحكي أحداثها قصص عطّار يبيع الأخلاق. صدر المؤلّف لأوّل مرة سنة 1949 وصنّف ضمن الأعمال الأدبيّة الاجتماعية التي تغوص في عمق الجانب القيمي للمجتمع المصري وعبره المجتمع الإنساني الذي يرزح تحت رحمة النّفاق والكسل والضّغينة والقلق المستمرّ ليتمّ تحويلها بعد ذلك لفيلم سنة 1968 على يد المخرج المصري فطين عبد الوهّاب وبطولة فؤاد المهندس وسميحة أيّوب، تمّ توالت العروض المسرحية التي اقتبست أحداثها من نفس الرّواية.
ثانيا : ” أوراق اللافندر “، وهي رواية للكاتبة الإيطالية روزيتا تراميزو، قام بتحويلها إلى مسرحية المخرج السينمائي والمسرحي، الإيطالي الشّهير فرانكو زفيريلي Franco Zeffirelli. مسرحيّة استطاع من خلالها Zeffirelli أن يبدع في إخراج عرض فرجوي يوازي جماليّة النصّ الرّوائي الأصليّ.
الصناعات الإبداعية أو ما يصطلح عليه بالاقتصاد الإبداعي l’économie créative، من الصناعات الحديثة الّتي تمثّل 3 في المائة من النّاتج المحلّي العالمي وتشغّل أزيد من 32 مليون شخص عبر العالم. بدأ هذا القطاع يأخد حيّزا كبيرا من الاهتمام خصوصا وأنّ تقرير اليونسكو Unesco الصّادر في 2011 أكّد أنّ الصّناعة الإبداعية من أسرع القطاعات تطوّرا مسجّلة نموّا يفوق الضّعف بين عامي 2002 و2011.
الوساطة الثقافية والفنّيّة La médiation culturelle et artistique:
شغل مفهوم الوساطة الثقافية والفنّية حييّزا كبيرا ضمن الأدبيات التّنظيرية للممارسات الثقافية بصفة عامّة ممّا أسفر عن ظهور تعاونات Collaborations في السنوات الأخيرة بين مختلف الأشكال الإبداعية كالاعتماد على الموسيقى وتوظيفها في العروض المسرحية أو الانتاجات السّينمائية. ضمن هذا الانشغال، يمكن تصنيف ” مسرحيات تزهر ليلا ” نوعا من الأعمال التي تندرج ضمن الوساطة الثقافية. وعليه، فإنّ الكتّاب المسرحيّين لعبوا دور صلة الوصلIntermédiaires بين النّصوص الأدبية الأصلية وجمهور مفترض، قارئا كان أو متفرجا، وبذلك تصير نوعا من أشكال التّجديد في التّعاطي مع الأدب المغربي وفتلا في تجسير العلاقة بينه وبين مختلف الفنون. في كتابه ” الوساطة الثقافية “، يبيّن نسيم أبو درار Nassim Aboudrar كيف أن هذه العلاقة ، نقصد هنا تقريب الأدب إلى الجمهور، يندرج ضمن الأسئلة الجوهرية التي تسائل دور الوسيط الفنّي والثّقافي :
” (…) Quel point commun entre la visite guidée d’une exposition d’art contemporain, un atelier d’initiation à la musique organisée au cours d’un festival et un ciné-club de quartier? Le médiateur culturel. Son rôle ? La transmission. Sa raison d’être ? Permettre au plus grand nombre d’avoir accès à l’art. (…) ”
على سبيل الخثم،…
إنّ المتأمّل في تاريخ الأدب يجده في تفاعل مستمرّ مع جميع الأشكال الفنّية، وليس أدلّ على هذه العلاقة أكثر من العدد الكبير من المؤلّفات التي اقتبست منها موضوعات مسرحيّات وسيناريوهات أفلام خالدة.
تبقى مسرحيات ” حدائق تزهر ليلا ” نموذج المؤلّف الذي اشتغل على الأدب بروح فنّية وجمالية وبلمسة شاعرية تفتّقت عنها نصوص مسرحيّة ومشاريع عروض فرجويّة ترى في المسرح وسيلة لاستنباث مساحات من الإبداع والخلق. مشاريع إبداعية ومغامرات جعلت من تجسير العلاقة بين الأدب والفنّ هذفا تحقّق بكل احترافية وبإشراف أكاديمي تخصّصي أطّره المخرج والأكاديمي المغربي د. عبد المجيد شكير. يمكننا القول بأنّ الإشكالات التي قد تعترض تحويل النّصوص الأدبية إلى موادّ فنّية، أو تلك التي قد تنتج أعمالا دون المستوى، يكون مردّها في الغالب إما لغياب التّخصّص والتّكوين الأكاديمي في مجال الفنون أو لقصور في اللّمسة الإبداعية للمترجم ومحاور النصّ الأدبي.
لابدّ من الاعتراف بأنّ الصّناعة الإبداعية تبقى تجربة حديثة على الساحة المغربية، لكنّها بدأت تنال حظّها من الاهتمام كرافعة للثّقافة أوّلا، وكوسيلة لتلببية الحاجيات المتزايدة على السّوق الثقافية من أفلام وموسيقى وعروض مسرحية في مرحلة ثانية. لكن يبقى سؤال ” الأدبي والفنّي ” حاضرا يفتح الباب على مصراعيه للعمل على نصوص أخرى لكتّاب ومبدعين آخرين ينتظرون دورهم في محاورة نصوصهم وترجمتها لفنون وعروض.
*المصطفى البغدادي، طالب باحث في الهندسة الثقافية والفنّية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن امسيك بالدار البيضاء.