عفيفا عاش…شهيدا مات

بقلم الأستاذ حكيم الوردي

وحي القلم 248

في الممات كما في الحياة حصد المشمول بعفو الله ورحمته الأستاذ الحسن مطار تقدير رجال القانون: قضاة ومحامون، وارتقى بما جبل عليه من تمثل عميق لمهمة القاضي المثال، الثاوية سيرته الغابرة في بطون كتب الأولين، العدل الثقة المنزه عن خوارم المروءة، المتوجس خيفة من أن تعلو صورة العدالة التي يجسدها مسحة من شك أو تخدش سمعتها سوء الظنون، إلى أسطورة من أساطير الدعوى العمومية في المدينة المليونية حين استقدم على عجل من تازة في مهمة إصلاحية لم تعد تحتمل التأخير، وكيلا للملك ثم وكيلا عاما قبل أن تتلقفه بمجرد تقاعده التفاتة عميقة من رجل قدير يقدر قيمة الرجال كان آنذاك رئيسا للنيابة العامة ويدمجه في ديوانه خبيرا يستفاد من تجربته الكبيرة في البناء والعطاء.
وسواء أقاضيا جالسا على منصة الحكم أو نائبا فوكيلا ثم وكيلا عاما ظل الحسن مطار وفيا لتقاليد القضاء العريقة، لأعرافه الجليلة والمهيبة التي حاز بها شرعية النيابة عن الامام، مستشعرا خطورة أن تكون مطوقا بمسؤولية إقامة العدل بين البرية، عسى أن تبعث غدا يوم القيامة بيدين مغلولتين فيفكهما عدلك، فما كان إلا أن تماهى حد الفناء مع قيم النزاهة، والتجرد، والاستقامة والجدية، وخدمة الشأن العام، وجعل القضاء المغربي كما أرده له ملك البلاد حقيقة في خدمة المواطنين، …ولاسيما المستضعفين في الأرض أولئك الذين كانوا يلوذون بحماه، ويستصرخونه في وجه الجور المستأسد بسلطة المال أو الجاه…حتى بات مألوفا لدى ساكنة البيضاء أن تسمع تحذيرا أو إرشادا بيقين ( سير ليه عند مطار …)….
وبالفعل فقد كان حفيد العارف بالله سيدي امحمد البهلول دفين امزاب الناشيء بالحي المحمدي بالدارالبيضاء، معقل الوطنية الصادقة، منبت تماغرابيت التي تأبى الضيم، حيث الأمهات يرضعن الأطفال قيم الرجولة التي تتشربها أرواحهم على أهازيج ناس الغيوان، خبيرا بمجتمعه من جميع النواحي السوسيولوجية، متفهما للطبيعة البشرية والعقلية المغربية حد الإدهاش، حيث كثيرا ما أثار استغرابي عندما كنت نائبا له في النيابة العامة الابتدائية أو الاستئناف بحدسه الذي لا يخطئ في الرجال، وبقدرته النبوئية على استشراف آثار القرارات المتخذة وتداعياتها بشكل لا يدعو إلى الاعجاب فقط ولكن إلى الاطمئنان على العدالة، وعلى الحقوق، وعلى القانون، وعلى القضاء….وباختصار كان رحمة الله عليه أمنا قضائيا يمشي ومدونة للأخلاقيات تكتب…ليس بالمعنى الاطلاقي للعدل بمفهومه الإلاهي الذي لا وجود له فوق الأرض ..ولكن بالمعنى الإنساني الفطري أو بالأحرى المنظور الدستوري لوظيفة القاضي الملزم ليس بالتطبيق التقني الجامد للقانون ولكن باستكناه روح العدالة الكامنة وراء سنه بمناسبة تنزيله….وهكذا يكفي أن تكون صاحب حق، وأن تتوجه بإجراءاتك إلى محكمته لتتأكد أن الراحل سيناضل من أجل أن يرجع إليك حقك مهما كان نفوذ خصمك سلطة أو مالا أو وجاهة، …ولا أكثر على ذلك من مثال… ولمن شاء التوسع فليسأل كيف نصر المستضعفين ضحايا مافيا الاستيلاء على عقارات الغير …و لمن أراد ترجمة القضاء في مواجهة الفساد فليقرأ أحكام الاختلاس والرشوة والتبديد التي حرك الدعوى العمومية في وقائعها بشجاعة لا زال صداها يتردد في نفوس العارفين…
كانت الحياة بالنسبة للفقيد كفاحا من أجل العدل، جهادا في نصرة القانون، لا يصدنه شنآن قوم على الانتصاف للمظلوم…حتى وجد نفسه في كثير من الحالات يردد ما قاله الفاروق عمر : يا حق ما تركت لي من صاحب…ولم يكن يبالي طالما يغط في نوم عميق بمجرد أن يتوسد ضمير المرتاح الوسادة…..وفي العمل آلة جبارة لا تلين …كان بالإمكان أن تضبط على إيقاع سير عمله اليومي منبه الساعة…يلتحق على الساعة السابعة والنصف صباحا بمكتبه، يطلع على الوارد من الكتب والصادر من المراسلات، في الثامنة والنصف يتفقد مكاتب الموظفين الذين كانوا يحبونه حبا أبويا يحمسهم على الاجتهاد لمواكبة إيقاعه العالي في تصريف الإجراءات، يحفزهم على توزيع الأشغال على النواب، وجعل السجلات الرقمية مواكبة للسجلات الورقية من حيث التضمين، وتوفير المعلومة للمتقاضين والمحامين، وأثناء تجواله في دهاليز المحكمة كثيرا ما يسمع صراخا لامرأة ثكلى تستنجد به فيهب لنجدتها، ويستفسر عن مآل شكايتها، ويأمر بالتعجيل في إنجازها، بل ويصدر التعليمات بالإنجاز الفوري، فتنهال عليه الدعوات الصادقة الممزوجة بدموع المظلومة التي ما اعتقدت أن وكيلا الملك شخصيا سيسهر على نصرتها….ثم سرعان ما ينتقل إلى مكاتب النواب ليطمئن على أن الجميع حضر في الوقت الرسمي للعمل وإلا فلن يتورع في توجيه استفسار ….وبعد ذلك يلتحق بمكتبه، يستقبل مساطر التقديم التي لا ينبغي أن تتجاوز الشرطة في إحضارها العاشرة صباحا في ظرف مختوم، يفتحه ويعين النواب المكلفين…ثم بعد ذلك يشرع في استقبال المحامين والمتقاضين وكل من له تظلم يريد إيصاله إليه شخصيا…فيستمع ويستفسر ويشرح ويقنع فينشرح الوافد ويحس بالطمأنينة …وبنفس الإيقاع والتركيز الكبيرين يستقبل النواب بعضهم للمخابرة في المساطر والبعض الآخر للمذاكرة في المحاضر والشكايات والمراسلات،… لا يعرف وقتا للاستراحة أو الغذاء مكتفيا ببعض التمور واللوز يقتسمها مع من حضر، حتى إذا شارف توقيت العمل الرسمي على الانتهاء ولم يكن هناك طارئ يقتضي البقاء، حمل ما تبقى من اشغال في حقيبته، وطاف من جديد على المكاتب وربما هبط إلى المعقل للتأكد من إحالة من تقرر إحالته فورا على الجلسات، وما أرجع إلى الشرطة من تعليمات،… وبعدما يلقي نظرة فاحصة على المحكمة يتنفس الصعداء، ويستقل سيارته إيذانا بانتهاء يوم عمل رسمي، لتبدأ المداومة المستمرة مستقبلا عبر هاتفه الذي لم يكن يكف عن الرنين في ساعات متأخرة من الليل العشرات من المكالمات: إشعار بحريق مهول، أو انهيار مبنى أو وفاة سجين وغيرها كثير من الأهوال التي تنأى بحملها راسيات الجبال…ولم يكن يشتكي أو يتأفف، أو يتبجح…ينصت بهدوء، يستفسر بعمق عن التفاصيل، ويؤطر بالقانون…كصمام أمان أو بوليصة تأمين تقيك مخاطر المهنة وشرور الأيام…
ولأنه صاحب إرادة وثابة، ورؤية استراتيجية لما ينبغي أن يكون عليه أداء نيابة عامة في مدينة مليونية، تمكن بسرعة من بلورة برنامج عمل مضبوط، ولوحة قيادة واضحة أسعفته على تدبير الدعوى العمومية باقتدار، فأرجع للمحكمة الزجرية هيبتها ومصداقيتها، وللقانون صوته المسموع، فلمس كل المشتغلين بها أو معها حجم التغيير الجوهري الذي طال إجراءاتها، معليا من مبادئ النزاهة، والشفافية، والانصات للمرتفقين، والاجتهاد المتواصل لتذليل الصعاب للمحامين الذين باتوا مطمئنين على ملفاتهم، منخرطين في مساعدته بالنصح الجميل، والحوار الهادئ الرصين…وبنفس المبادئ والاقتدار أدار النيابة العامة لدى محكمة الاستئناف …
رجل نذر نفسه لخدمة عدالة وطنه، بطهارة في اليد، وشجاعة في القصد وعفة الورعين وزهد العارفين، وعندما أحس أنه أدى واجبه، أشعل فتيل صمته واحترف الظل…غير آسف على ما مضى ولا متحسر على ما ضاع، …
للأمام أحمد حنبل مقولة كان يرددها في وجه مناوئيه: بيننا وبينكم الجنائز…واليوم شهدت مقبرة الشهداء على حجم المحبة والوفاء الذي يحمله المغاربة لقاض من زمن الصدق والرجولة… عفيفا عاش…شهيدا مات….
أسكن الله الأستاذ حسن مطار فسيح الجنان… وألهمنا في فقدانه الصبر والسلوان.

تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على WhatsApp

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. انا لله وانا اليه راجعون عرفته كان رجلا نزيها ومعقول اتيحت لي الفرصة ان اعمل معه عن قرب في اللجنة الوطنية للامتحانات كان يراسها ، رحمة الله عليه وعلى ابائنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق