درس المقاطعة

إن الفهم الصحيح لمقاطعة المغاربة لمنتجات بعض الشركات، لا يمكن أن يكون صحيحا إلا من خلال  وضعها في السياق الاجتماعي الذي أنتجها وجعل المغاربة يتجاوبون معها ،وذلك بغض النظر عن حيثياتها الشكلية. هذا السياق الموسوم بتصاعد حدة الاحتقان الذي يؤشر عليه توقف الحوار الاجتماعي خاصة منذ الحكومة التي تشكلت بع احتجاجات 20 فبراير وتطور وسائل الاتصال والتواصل بما يمنح تعميم المعلومة وانتقالها بالسرعة القياسية. ولعل ذلك الفهم يجعل هذه المقاطعة حلقة من حلقات المقاومة ضد الضربات المتتالية التي تلقتها وتتلقاها قدرة المغاربة الشرائية بسبب كثير من القرارات الحكومية التي لم تكن على الإطلاق في صالح هذه القدرة، في الوقت الذي لم تتبني فيه هذه الحكومة أي قرار لصالح الشعب، على الأقل من وجهة نظر الشعب. و قد تختلف التحليلات الموضوعية في شكل هذه المقاطعة، خاصة عندما نتحدث عن مقاطعة لا نعرف مصدر انطلاقها، ولكن تلك التحليلات أبدا لن تختلف حول جوهرها . وما يجب الانتباه إليه هو ما بعد المقاطعة في حال استمرار ممارسة الماسكين بزمام الأمور لسياسة صم الآذان والهروب إلى الأمام من خلال توصيف المقاطعين ببعض الأوصاف التحقيرية،  وهو الأمرالذي سيترك الباب مشرعا على كل الاحتمالات بل على أسوإ الاحتمالات . ولعل الطريقة التي تفاعل بها بعض المسؤولين مع هذا الحدث الاجتماعي الكبير، والذي يعد مفصليا في الوعي الشعبي المغربي، ينم عن عدم استيعاب هؤلاء المسؤولين لجسامة الحدث ولا لأهمية انعطاف ذلك الوعي الذي يؤشر عليه .
إن المتتبع لمسار الواقع الاجتماعي المغربي سيكتشف بسرعة أنه ومنذ الربيع العربي مباشرة، أطبقت البورجوازية على كل مفاصل الحكم، ولم يبق هناك صوت للشعب من داخل مؤسسات الدولة، بسبب سطو البورجوازية نفسها على الهيئآت التي كانت تمثل ذلك الصوت من أحزاب ونقابات ومؤسسات المجتمع المدني، وهو الأمر الذي جعل المواطن في مواجهة مباشرة مع الحكومة . فالأحزاب والنقابات التي وصفت حراك الريف بالانفصال أو سكتت عنه في أفضل الأحوال، والتي خرست فيما يخص حراك اجرادة و تبنت مواقف سلبية أو عدمية من أحداث اجتماعية، والتي لاتقل أهمية هي الأخرى، ها هي اليوم تبتلع ألسنتها بخصوص المقاطعة وترتكن إلى الصمت إلا من بعض التصريحات لسياسيين، ولكن كتعبير عن موقف شخصي، كل ذلك يؤشر على أن تلك الأحزاب وتلك النقابات لم تعد فاعلا سياسيا حقيقيا وفقدت كل مصداقية لها في الوجود، وأن الشعب تجاوزها بكثير. إذ لا يمكن تفسير تمرير قانون إصلاح التقاعد المجحف، وتفكيك صندوق المقاصة، وتعويم الدرهم ،وغيرها من الإجراءات التي ظلت مدة طويلة على طاولات الحكومات المتتالية إلا من خلال تخلي الأحزاب والنقابات عن دورها الحقيقي في الدفاع عن حقوق من يفترض فيها تمثيل صوتهم، زد على ذلك، إثقال كاهل الدولة بديون خارجية في فترة الحكومة السابقة تجاوزت السقف المسموح به، حسب ما صرح به بعض العارفين بقضايا الاقتصاد، من دون أن تنبس تلك الأحزاب ببنت شفة . عملية السطو هذه، والتي تسمى باللغة الديبلوماسية عملية الاحتواء بدأت على الأقل منذ أوائل التسعينات من القرن الماضي بشكل هادئ لطالما نبه لها عدد من الغيورين على هذا الوطن.
إن ما يقع اليوم، وما يمكن أن يقع، هو تحصيل حاصل لما أفرزته نتائج الاستحقاقات الأخيرة، والتي تسيدتها نتيجة نسبة المقاطعة المرتفعة، والتي تجاوزت 75 في المائة إذا اعتبرنا كل أشكال المقاطعة سواء من داخل أو خارج الصناديق والتي تعالت أصوات حينها أنه على السياسيين أن يتعاملوا معها، كموقف سياسي بينما انشغل هؤلاء السياسيين بالصراع حول كيفية اقتسام الغنيمة بعيدا كل البعد عن التقييم السياسي لتلك النتائج، وذلك رغم اندلاع أحداث سيدي بيبي مباشرة بعد تلك الاستحقاقات والتي تعتبر كرة الثلج التي لا زالت آخذة في التدحرج .

إن تنامي الإحساس عند المواطن بأنه وحده من يؤدي ضريبة السلم الاجتماعي، وغياب اجهزته التأطيرية السياسية والنقابية الفعلية، يفسر المقاطعة وما سبقها من أحداث اجتماعية، والخلفية الواقعية التي ارتكزت عليها تلك الأحداث. وهو الأمر نفسه الذي يجعلنا غير قادرين على التنؤ بما قد تؤول إليه الأمور. ولا مناص من إرجاع تلك الأحزاب والنقابات لموقعها الطبيعي وهو الأمر الذي لا يبدو أن الحكومة تشتغل عليه.كيف لها أن تفعل وهي بصدد تطبيق عرضها الحكومي في الحوار الاجتماعي من غيرحصول التوافق بينها وبين النقابات، ولعل هذا القرار،لو تم اتخاذه، سيكون آخر لفة من لفات تكفين مصداقيتها المفقودة أصلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى