مسك الختام : ريان في ميتة يشتهيها الأحياء

حين يدعو لريان كل الأئمة في الصلوات، مثلما يدعو له البابوات والحاخامات، وحين يشغل ريان بال الملوك والرؤساء وزعماء الحكومات، وحين تتوافد وسائل الإعلام من كل فج عميق لنقل تفاصيل الرواية، وحين يعزي كل العالم في روح ريان برسائل الأسف والندم والحزن والحسرة، وتكون روح ريان قد حفزت هرمونات الإنسانية في الخواطر والأفئدة، حينها تدرك أن ريان هذا طفلا معجزة ربانية وهبه الله عمرا قصيرا لكن بهيبة ومحبة خالدة اجتاحت العالمين، وريان الذي كان قبل الثلاثاء الأسود لسقوطه نسيا منسيا، بلا نياشين ولا مناصب وبلا ثروة ولا سلطة ولا حظوة ولا جاه، في دوار لا يظهر حتى على الخريطة، غير تجربة في الحياة قوامها 60 شهرا من الغلو في البراءة، والتطرف في العفوية، والإيمان بالسذاجة، والجري بين الفجاج بلا نهاية، في قبيلة منسية مقصية هناك خلف الجبل…
حينها تجف الدموع وتنحبس، ويخجل الحزن وينسحب، فقد صارت ميتة ريان اشتهاءا للأحياء، بل باتت الموت رمزا للحياة، إنها الحالة التي تعلو فيها الموت على الحياة، بل تصير الحياة مجرد باب أو فصل أو مبحث أو فقرة من كتاب الموت.
فمن هذا الذي جعلت روحه العالم يستوي في صف واحد كما يستوي المصلون في رحاب الحرم الشريف؟ ويرددون أدعية النجاة مثل ترانيم رهبان الأديرة؟ من هذا الذي شدت روحه أنظار كل سكان العالم؟…من هذا الذي ظل حيا ميتا فينا وبيننا خمسة أيام تباعا ختمها بخلود في القلوب؟…
وحده الصغير ريان ابن دوار إمغران بشفشاون الوديعة الهادئة الجميلة المسالمة المقاومة فعلها، وحده الصغير ريان استسهلت روحه الموت فجعلت منها مجدا، فما جدوى حياة تُصرف أيامها في ما لا فائدة منه؟ ولماذا سيخلف ريان الموعد ولا يركب قطار الموت المزين بكل هذه البطولة وتلك الأبهة وذلك الشرف، مادام الموت محتوما في نهاية الأمر؟
يا ريان لم ندرك أنك بُعثت بيننا أصغر رسول بلا وحي، تُعلمنا كيف نحفر الآبار لنستسقي منها دون أن نسقط فيها؟ وكيف نستخرج منها مصدر الحياة دون أن نفقد الحياة؟ وكيف نضع صون صغارنا على قائمة جداول أعمالنا؟ وكيف نساوي بين إنسان السهول ونظيره في الجبال وثالثهما في الصحراء، وبين إنسان المدن و إنسان البوادي، وبين سكان المغرب الظاهر وسكان المغرب الخفي المخفي؟ حتى إذا رحلت أدركنا متأخرين أنه يضع سره في أصغر خلقه…
قدمت لنا أوسع حكمة وصغت لنا أكبر درس من سقطتك الغادرة، لتوصينا قبل رحيلك أن لا تحفروا الوطن بفوضى حتى لا تسقطوا في ما حفرتم، ولا تكفروا بالإنسانية فتنتقون الناس كما تنتقي المراهقة ثيابها، ولا تقولوا ما لا تفعلون فليس هناك ما يجبركم على ذلك غير تضخم غُدة الكذب والنفاق لديكم، واعلموا أن وراء هذه الجبال وبينها قوم يستحقون منكم إنصافا لا إقصاءا…
فكيف أزفك يا ريان إلى مثواك وأنت عصي على الدفن؟ كيف أنساك و أتفاداك وأنت تلاحقني تشعرني بقسط مني في الجريرة؟ كيف أنعيك وبماذا أرثيك وقد فلتت مني اللغة وتمردت قواعدها نصرة لروحك؟…
فاهنأ بموتك المجيد ودع لنا حياة الشقاء، فثمة سر بينك وبين الله أن جعل مرورك في هذه الدنيا عابرا، لكنه منحك معه خلودا، فالأعمار لا تقاس بتراكم السنوات…

مقالات ذات صلة

‫6 تعليقات

  1. و هل من مقدور العالم ان ينسي أسرة المرحوم ريان من الالم التي تحس به .طبعا لا. نقطة نهاية.

  2. اولا اقول لكاتب هذه المقالة انت من انصف الطفل ريان ورثاه بكلمات تقشعر لها الابدان وتجعل ايعيننا تدمع من جديد وتتحسر على طفل سمعنا انينه من بعيد وفارقنا وهو شهيد . تغمده الله برحمة وجنة مع الخالدين .

  3. احسن ماقرأة على الطفل ريان وأهل قريتة أبية المناضلة التي تقاوم التهميش والعزلة كباقي دواوير اخرى في المناطق الشمالية
    ريان هوا الطفل الذي أظهر لنا المعدن المفقود في هذا العصر عند البشرية أجمع
    وفي أخر أود أنأشير إلى أن المجتمع الجبلى سيبقى دائما محافضز وخير دليل أم وأب ريان رحمه لله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى