مداغ.. منير القادري بودشيش يبرز دور القيم الأخلاقية في معالجة الازمات

الأزمات المتعددة والمتتالية التي يعاني منها العالم المعاصر، والحلول التي يمكن ان تقدمها القيم الأخلاقية لهذه المشاكل، وبيان أهمية التربية على القيم الأخلاقية وتنزيلها على أرض الواقع، إضافة الى إبراز دورها المحوري في البناء الحضاري للأمم، وكذا علاقتها بالتنمية وبتحقيق الأمن الروحي، محاور تناولها الدكتور منير القادري خلال مداخلته، السبت 5 فبراير الجاري، في الليلة الرقمية التسعين ضمن فعاليات ليالي الوصال الرقمية التي تنظمها مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بتعاون مع مؤسسة الجمال.

ويذكر أن الليلة الرقمية 90 تفاعلت مع الحادث المفجع المتمثل في وفاة الطفل ريان اورام، الذي وافته المنية بعد سقوطه في بئر، وبهذه المناسبة المحزنة، تقدمت مؤسسة الملتقى ومشيخة الطريقة القادرية البودشيشية بأحر التعازي الى أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، و لوالدي الفقيد ولكافة الشعب المغربي، والى كل من اهتم وتعاطف مع الطفل ريان في جميع أنحاء المعمور، مع التنويه بالعناية الخاصة لجلالته الذي أعطى تعليماته السامية قصد اتخاذ الإجراءات اللازمة، وبذل أقصى الجهود لإنقاذ حياة الفقيد، وكذا عطفه على أسرته.

وأشار الدكتور منير القادري في مستهل كلمته إلى أن عالمنا اليوم يواجه مآزقَ خطيرةٍ في كافّة النّواحي الحياتيّة مما يُنذر بمزيد من الكوارث والمنازعات والتناحرات القاتلة لا قدر الله، وتابع أن كلّ ذلك يقع في غياب ملفت لأيّ حديث عن المبادئ الأخلاقيّة و الاحتكام إليها للحد من أثار هذه الأزمات.

وأكد أن ضعف القيم الأخلاقيّة يشكلّ العنصر الأهمّ من بين عناصر التأزيم العالميّ، وأنّ الجانب القيميّ المُنْهار في زمن العولمة المتوحشة والغزو الحضاري أفقد الأممَ والمجتمعاتِ توازنها سواء في علاقاتها الداخلية أو الخارجية، وحَّدَّ من كل فرص التلاقح والتلاقي الثقافي والحضاري.

ودعا الى التّفكير الجادّ في البدائل القيميّة والمراجعات الجريئة في اتّجاه المناحي البنّاءة للحضارة الإنسانية، مشددا على أنه لا يمكن لمجتمع أن ينهض ويتقدم إلا في إطار منظومة القيم المجتمعية، موردا مقولة المفكر والمؤرخ البريطاني لأرنولد توينبي التي تلخص دراساته الحضاريّة “الحضارات لا تموت قتلاً، وإنّما تموت انتحارًا” ، وفسر القادري مقولته بأنها تأكيدا منه على أنّ الانهيار الحضاريّ يحصل على أثر العجز الأخلاقيّ والدينيّ.

وأوضح أن مشروع بناء الإنسان الصالح في نفسه المصلح في مجتمعه وتهذيبه من الداخل وحده الكفيل بتحقيق مقاصد الاستخلاف وعمارة الأرض، وأضاف أن من بديهيّات مضامين ديننا أن نعتبر الأخلاق والقيم أساسَ صعود الحضارات أو سقوطها.

ونبه الى أنه لا تقدم اقتصادي ولا مادي، إلا بالاهتمام بالرأسمال المعنوي -الروحي واللامادي للأمم، وذلك في تكامل مع سائر مقومات الحياة الأخرى الفكرية، الاقتصادية، والاجتماعية وغيرها، خاصة في ظل ما صار يتطلبه هذا العصر من ضرورة تخليق الحياة العامة بعدما اكتوى العالم بنار الأفكار الداعية إلى فصل القيم عن الممارسة السياسية والاقتصادية والثقافية.

واعتبر أن الدرس الأخلاقي الإسلامي لا يمكنه أن يصبح درسًا جادًّا قادرًا على التأثير في حياتنا اليوميّة وحياة من حولنا، مالم يحظى بشيء من الاهتمام والتركيز مما يحظى به الدّرس الفقهي، وأردف شارحا أن المطلوب هو أن تتداخل المسألة الأخلاقيّة مع إشكاليات المعرفة الفقهية ومقتضيات العيش والواقع، وأن يتحوّل هذا الحقلُ سؤالاً ملحًّا عصريًّا حسبَ تعبير الفيلسوف المغربيّ الدّكتور طه عبدالرّحمن في كتابه الهامّ “سؤال الأخلاق”.

وتساءل القادري مستغربا كيف يُمكننا أن نعرض قيمنا الروحية والأخلاقية هذه على العالم ونحن لا نزال متردّدين في التعبير عن أهمّيّتها و مدى تأثيرها وان كانت متقدّمة على الفقه أو لاحقة به، لافتا في معرض إجابته الى أنّ الفقه هو أساس لِتحقيق مقاصد الشرع وإتمام مكارم الأخلاق.

و بين أن الفلسفة الحقيقيّة للحضارة والدولة في الفكر الإسلاميّ ترجع إلى بسط العدالة، ونشر القيم، وتوطيد الأخلاق في النفوس، مستشهدا بالحديث الشريف”انما بعثت لأتَمّمَ مكارم الأخلاق”، وقال “فأيُّ قيمة لحضارة إسلاميّة لا يكون جوهرها: أخلاقيّ المضمون، وقيميَّ المحتوى، وربّانيَّ المقصد انها عمليّة مراجعة للذات هدفها صياغة الموادّ القيميّة الإسلاميّة بطريقة منهجيّة لتُعْتَبر أساس السلوك الإنسانيّ الفردي والاجتماعيّ الشامل، وتطويرها، والكشف عن مقاصدها، وتفسيرها تفسيرًا عصريًّا، وإعادة صياغة مسائلها وتنظيمها من جديد؛ من منطلق المسائل المعاصرة؛ وطبيعة متطلّبات الزمان والمكان”.

وقدم مثالا للجهود العالمية للبحث عن أرضية أخلاقية للمعاملات المالية في ظل الأزمات الهيكلية التي عانى منها الاقتصاد العالمي وتعرضه للأزمة الاقتصادية العالمية، من خلال مسارعة كبريات المصارف التقليدية العالمية إلى تبني نموذج مالي ومصرفي أخلاقي متمثل في المالية الإسلامية وعيا منها انه الحل الامثل للخروج من أزمة القيم في مجال المال والأعمال، نظرا لأسسه الأخلاقية و محدودية المخاطر فيه.

وشدد على ضرورة أن يدرك الجميع وفي مختلف المادين أننا جميعا معنيون بالتطبيق العملي لتلك القيم، وان الإبداع في إنتاج الخطاب القيمي الذي قد لا يراوح مستوى الكلام إلى التمثل الأخلاقي لا يضمن للقيم فاعليتها المنشودة في المجتمع.

وأكد أن الإنسان مطالب بتنمية ما جبلت عليه نفسه من الخصال الحميدة، والأخلاق الفاضلة، وأن مسئوليته في الحفاظ عليها تعظم بقدر ما يتيسر له التخلق بها، كما أنه مطالب بمجاهدة نفسه لاكتساب ما ليست مجبولة عليه من الطباع الكريمة، والتخلي عما يكون ميلها إليه شديدا من الأخلاق الذميمة.

ونوه الى أن المفهوم الواسع للأخلاق يستوعب تكاليف الدين كلها، سواء منها ما اتصل بعلاقة العبد مع الخالق أو علاقته مع غيره من المخلوقات وأنه يشمل الأخلاق الحسنة كلها سواء منها ما طبعت عليه النفس وقهرت على الاتصاف به، أو ما أمر به الشرع مما يشق عليها التحلي به ولا يصير لها خلقا إلا بعد طول مجاهدة، موردا مقولة الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) “إن الأخلاق الحسنة تارة تكون بالطبع والفطرة وتارة تكون باعتياد الأفعال الجميلة، وتارة بمشاهدة أرباب الفعال الجميلة ومصاحبتهم وهم قرناء الخير وإخوان الصلاح، إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعا” ، وكذا مقولة ابن خلدون في كتابه (شفاء السائل لتهذيب المسائل)، على كون “الباطن” الذي يشتغل به الصوفي قبل غيره هو “أصل الاستقامة ومنبع الصلاح والفساد لجميع الأعمال”.

وأكد أن الفكر الصوفي الذي يمثل الإسلام المعتدل و قيمه الروحية والاخلاقية هو دعوة للإنسان كي يعيش حياة سوية مطمئنة مع نفسه ومع محيطه الإنساني القريب والبعيد ومع الوجود بأكمله، من خلال الإقبال على طلب التربية الروحية الأخلاقية التي تعمل الطرق الصوفية الأصيلة و العلماء العاملين على تجديد مناهجها وجعلها ملائمة لروح وفكر العصر، و مقتضيات الحياة داخل الوطن وخارجه، وتحقيق مواطنة صالحة صادقة و تنمية بشرية و عمرانية مستدامة.

وأضاف أن علماء المغرب حرصوا على تنزيل العلوم الشرعية على أرض الواقع وتحويلها إلى مواقف عملية حية، لا مجرد عقائد وتصورات ومفاهيم وقواعد نظرية مجردة، مع حرصهم على أخذ هذا العلم من أفواه الرجال والتحقق من نجاعته عن طريق التربية والممارسة العملية؛ بالعلم والعمل إقرارا بأهمية وفائدة “النموذج التربوي” المتمثل في الشيخ المربي، الذي يعد تنزيلا حيا للعلم على أرض الواقع ، مستشهدا بقوله تعالى : (الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) (سورة الفرقان الآية59) و قوله عزوجل: ( اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ) (سورة لقمان الآية 15 ).

واختتم مداخلته بالتأكيد على أن الأمن الروحي المنشود من لدن جل الأمم، لا يتأتى إلا في ظل مقاربة صوفية للأخلاق، مقاربة تنشد الازدهار ومواصلة البناء والإنتاج والاسهام في نشر إسلام الرحمة و السلم والسلام، وتحقيق الأمن و الأمان، و خدمة قضايا الإنسان، معتبرا أن “هذا هو الاساس و المنطلق الذي يصبوا المغرب إلى تحقيقه بإذن الله من نهضة و تنمية بشرية وإقتصادية وصناعية، شبانا نساءا و رجالا مجندين وراء قائد الأمة جلالة الملك محمد السادس نصره الله و أيده”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى