بالخط الأحمر : الأحزاب المغربية بين التدجين والتهميش

ع اللطيف بركة : هبة بريس

شكل الحديث عن النخب السياسية بالمغرب في مختلف الدراسات الاكاديمية، إلى ضرورة التمييز بين نخب ” مؤهلة ” تعيش التهميش ، ونخب ” صورية ” تحكم وتملك سلطة اتخاذ القرارات الحاسمة وتستأثر بالمراكز الحيوية داخل الدولة، وتوظف الدين والإعلام وبعض الأحزاب وجزءا من فعاليات المجتمع المدني لصالحها ، مقابل نخب لا تحظى بقوة أو سلطة فعلية، توجد خارج مراكز اتخاذ القرارات ، ولا تملك إلا مواقفها، وفي كثير من الأحيان تكون بدورها تحت رحمة النخب الحاكمة التي تفرض عليها واقعا سياسيا ضيقا من حيث إمكانية الاحتجاج أو المناورة.

مما يحد من فرص ترسيخ تصوراتها الإصلاحية داخل المجتمع والدولة، ويجعل من كل الخطوات “الإصلاحية” المتخذة محدودة الأثر ولا ترقى إلى مستوى حاجات وانتظارات الشارع المغربي.

وتشترك النخب السياسية المغربية في مجموعة من الخصائص التي لخصها أحد الباحثين في: التجربة السياسية المشتركة (الخبرة التاريخية، الخبرة الدينية، الخبرة السياسية) ثم التكوين الفكري المشترك (المعتقد الديني، المعتقد السياسي، التكوين العصري)؛ هذا فضلا عن تشابه طرق الحصول على المقاعد السياسية عن طريق (الوراثة، والمال) .

لقد رفعت مختلف النخب السياسية المغربية في مرحلة ما بعد الاستعمار شعارات تهم تعزيز الاستقلال، من خلال بناء وتحديث وتطوير المؤسسات السياسية وإدخال بعض الإصلاحات الاقتصادية والسياسية.

كما تمكنت بعض الاحزاب التي خرجت من رحم الحركة الوطنية ( الاستقلال .الاتحاد الاشتراكي ) من بناء تصور للإنتقال الديمقراطي وبناء الدولة ، غير أن صراعات داخلية بين مكوناتها والقصر ، جعل قطار التنمية يتعثر لعقود بسبب إختلاف وجهات النظر في طريقة البناء والحكم ، ساهم في ذلك نمط النظام العالمي السائد انذاك ” المعسكرين الشرقي والرأسمالي ” وهو ما أدخل المغرب حينها الى إقدام بعض جنرالات العسكر الى محاولة الانقلابات التي فشل منظموها، وما أعقبها من صراعات داخلية داخل الاخزاب في تبني رؤية موحدة نحو المستقبل، مما كشف بعد ذلك عن محدودية هذه الجهود في بناء دولة قوية وتحقيق تنمية شاملة وإقامة نظام ديموقراطي.

فبمجرد ما فشلت الانقلابات وما اعقبها من إحتجاجات قوى سياسية داخلية أو مدعمة نظريا من الخارج، ساد نوع من التحكم في السلطة، وتم الزج بالمعارضين في السجون مثلا ” تازمامارت ” ، لتأتي مرحلة أخرى ظهرت بها نخب جديدة عن طريق خلق أحزاب جديدة، من أجل محاولة الاستمرار في البناء وخلق إنسجام بين ” القصر وتلك الاحزاب” التي شكلت غالبية النخب الحاكمة بصد أي محاولات إصلاحية تقودها البعض مما تبقى من النخب المعارضة، وهو ما أدخل البلاد في مرحلة شد الحبل من جديد إستمر لعقدين من الزمن حتى حدود نهاية التسعينيات من القرن الماضي، إبان خلق ما سمي بالتناوب التوافقي، إبان إعلان الملك الراحل الحسن الثاني عن رغبته في طي صفحة الصراع القديم بين هذه النخب والقصر، وتم الاتفاق على فتح المجال أمام بعض النخب المعارضة السابقة ( عبد الرحمان اليوسفي) وتم تشكيل الحكومة، لكن بقاء الداخلية بقوتها في عهد وزيرها ” إدريس البصري” عثر شيء ما عجلة التحرك، مما جعل بعض النخب تطالب الحسن الثاني برحيل وزيره ” البصري” غير أن هذا المطلب واجهه الملك بنوع من الحكمة في تلك المرحلة، بعدما ” فرمل” صلاحيات وزيره في الداخلية، وحاول أن تتحرك الحكومة بشكل متوازي مع الوزارة ” الأم” ، لتتحرك البلاد من جديد نحو الاصلاحات المؤسساتية وإنعاش الاقتصاد، وبدأ الاشتغال على ملف ” المعارضين” عبر مرحلة ” الانصاف والمصالحة” وهي أهم التجارب التي جنبت النخب المغربية البقاء في دائرة الصراع، وتعويضها عن ما تعرضت له من إنتهاكات لحقوق الانسان أنذاك، فتم خلق تعويض مادي الى كل من أنتهكت حقوقه أو تعويض عائلات المعارضين، وقفز المغرب الى الأمام في إستكمال الاوراش الاصلاحية، وتبني مفهوم حقوق الانسان عبر سن ترسانة من القوانين تجرم التعديب وتفتح الباب لحرية التعبير امام المغاربة .

بعد دخول الالفية الثالثة، إستمر المغرب في عهد الملك محمد السادس، في سياسة الاصلاح ، عبر عدة محاور ” السياسي . الاقتصادي والاجتماعي” مما ساهم في تحسن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأثر ايجابا على أداء النخب السياسية، عبر خلق أحزاب جديدة ” الاصالة والمعاصرة” وتجديد نخب أحزاب قديمة، من أجل خلق هامش أكبر في بلورة أدوارها المفترضة.

و لعل هذا الاصلاح في الاحزاب ، صادف مرحلة جديدة طبعت جل الدول العربية ، فيما سمي ب الحراك الديمقراطي ” انتهى بدستور جديد وبصلاحيات واسعة للنخب الحاكمة سنة 2011 ، غير أن ذلك الحراك إنتهت فصوله بوصول الاسلامويين الى الحكم ، ليشتد الحبل من جديد ويدخل المغاربة في دوامة جديدة لم تنتهي فصولها بعد ، بعدما برزت سمة جديدة لدى النخب السياسية الحاكمة هو ” الضعف في الرؤية وعدم تجدد أفكارها ونخبها مما صعب معه اختراقها، الأمر الذي خلق نوعا من الرتابة في المشهد السياسي وكرس عزوف المواطن عن السياسية، وهو أمر غير صحي ويشكل عاملا يمكن أن يهدد كيان المجتمع والدولة في كل حين.

اعتمدت الكثير من النخب السياسية في استراتيجيتها، هو الاستمرار في الصراع عوض البناء ” المشترك ” وتبين تغليب بعض هذه النخب لمصالحها الخاصة، وثبت في كثير من الأحيان تورطها في فساد مالي وإداري وسياسي، مما أسهم بشكل كبير في خلق فجوة بين السلطة السياسية الحاكمة من جهة وما بين أفراد المجتمع من جهة أخرى، وفرض استمرار الأوضاع السياسية على حالها، الأمر أفقد هذه النخب ثقة الشعب، وولد شعورا بالإحباط في أوساط الشباب، فيما فضلت نخب أخرى الانكفاء على نفسها والانزواء بعيدا.

وهكذا نجحت النخب السياسية الحاكمة في المغرب، إلى حد كبير في تدجين المشهد الحزبي وأصبح البحث عن الكراسي الجديدة، او الحفاظ على الامتيازات، أهم ما يميز أفكار النخب، في حين أن الدولة لازالت تبحث عن الرفع من المشاركة في الانتخابات، عبر الضغط على الاحزاب لفتح الباب لنخب جديدة، لكن طبيعة تلك القوانين الحزبية، عادة ما يتم الالتفاف حولها، وتصبح حجرة عثر امام النخب الشبابية لتقلد المسؤوليات، وهو ما يلاحظ في النقاشات التي طبعت القوانين الانتخابية الجديدة، مما يكشف أن الاصلاح السياسي وانخراط الشباب في السياسة لم يتحقق بعد بالشكل المطلوب.

– أزمة ” كورونا” تفضح ضعف الاحزاب

كشفت جائحة ” كورونا” عن ضعف النخب السياسية التي أفرزتها ” صناديق الاقتراع” ليتبين ان الشارع المغربي من عبروا عن أصواتهم، لم يكن الاختيار في المستوى المطلوب، بعد ان أظهرت أزمة او درس ” كورونا” ان حكومة الظل هي التي تشتغل، عوض الحكومة التي إنتخبها الشعب، فكل المبادرات خرجت من القصر، جاء ذلك على لسان رئيس الحكومة الذي اصبح دوره ناطقا بإسم ” القصر” بل أن وزارات من الحكومة قد دخلت في فضائح تدبيرية مثلا صندوق ” الجائحة” وما اعقبها من قرارات مصيرية كان القصر سباقا لاتخاذها عوض الحكومة المنتخبة.

فالتجربة المغربية، نستخلص منها أن النخب المثقفة التي أسهمت على امتداد التاريخ في إثراء الفكر والإبداع الإنسانيين من بينهم ” عابد الجابري .المهدي المنجرة .عبد الله العروي وغيرهم من المفكرين” قد عانو من التهميش، بينما ساد تحكم أشخاص على المشهد السياسي المغربي، ليس لهم تاريخ او فكر مما ساهم في تحكم السياسي في الثقافي، وسيطرة الدولة على أدوات الفكر والثقافة وقنوات التواصل الجماهيري وتوجيه الرأي العام”.. ونخب هاجرت بفعل ” ضيق الافق في ولوج الاحزاب، وتسلط ” الاعيان” وبطش أصحاب ” المال” وهكذا برزت نخب ” تابعة ” تفتقر الى أخذ المبادرات او تدافع عن مواقف أو مطالب نابعة من الشارع المغربي، وكان لجل هذه العوامل الأثر السلبي على مصداقية ” خطاب” هذه النخب كما أفقدها ذلك ثقة الشارع.

وأمام هذه المعطيات الموضوعية والذاتية التي تؤكد حجم الاختلاف بين الشارع المغربي ونخبه السياسية، تصبح مهمة الإصلاح أمرا صعبا، دون تجديد نخب جديدة بصلاحيات دستورية كبيرة ، وخلق علاقة ” ثقة” بين المواطن المغربي و مختلف الفاعلين والنخب السياسية التي تمثله، للاسهام في نجاح روح الاعتدال والتسامح والحوار ، ومبدأ الشفافية والاعتراف بسيادة القانون، وتفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة، وفتح المجال للأطر في تقلد مسؤوليات التدبير والتفكير، وإشراك الشباب في مسؤوليات الجماعات الترابية محلية او إقليمية أو جهوية، وتطوير المجتمع المدني .

كما يتطلب الإصلاح أيضا إعمال مجموعة من التدابير التي تتوخي تطوير أداء الاقتصاد، بالصورة التي تسمح بالحد من اتساع الفوارق الاجتماعية.

وإذا كان الدور القيادي للنخبة على مستوى الإصلاح والتغيير، ينطوي على أهمية كبرى في مختلف المجتمعات البشرية، فإن هذا الدور يصبح أكثر أهمية وحيوية وملحاحية في المغرب .

إن النخب السياسية المغربية ينبغي عليها أن تراهن على المواطن المغربي، وتستمد منه مشروعيتها وقوتها، كما أن إيمانها بالديموقراطية مبدأ وسلوكا يعد منطلقا لتحقيق تغيير حقيقي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى