الكاملا .. بائعة تذاكر الباص

عبد اللطيف مجدوب

 

            حافلة أم مدرعة

       حافلة إذا رأيتها من بعيد ، خلتها لا في لونها الشاحب ولا في نوافذها المهشمة أشبه بمدرعة من بقايا الحرب العالمية ؛ ثقوب وتصدعات تؤثث جنباتها وكراسيها التي تترنح بك في كل المنعرجات التي تمر منها قرابة 15كلم .. تستلفت أنظارك وأنت تهم بامتطائها لافتة في ركن علوي قرب السائق “حافلة مجهزة بآلة المراقبة” ، فتعود بك الذاكرة إلى أنها كانت مستغلة أول عهدها ومعها كامل أجهزتها  بمنطقة أوروبية قبل أن تسقط في الأيادي المغربية المولعة بسلع الخوردة وبالتالي تكييفها مع مستعمليها الجدد منزوعة من كل هذه الأكسسورات ، بما فيها قياس درجة الحرارة ، وأزرار التوقف الإضافية المتاحة للمسنين والنساء الحوامل .. وكذا جهاز التلفاز الذي لم يبق منه سوى إطاره الناتئ الذي علاه الصدأ من كل جانب .. علاوة على أكوام من الكابليات بدت عارية تهتز كلما ارتج صوت المحرك .

في مؤخرتها قعدت امرأة في سن الأربعينيات ؛ نشرت في الكرسي المحاذي لها قطع نقود تنفش فيها كلما أرادت “رد الصرف” إلى أحد الركاب .. لا تجشم نفسها عناء اللغط أو النقر على القضيب الحديدي لاستعجال الركاب باقتناء تذاكرهم ؛ تبدو هادئة وخاصرتها عريضة مخشوشنة لا أحد يدري ما إن كانت تحس بها أم ماتت جراء الاهتزازات التي تحدثها عجلات الحافلة وهي تقرع ذهابا وأيابا مئات الحفر والحواجز .. فضلا عن المخاض الذي تتعرض له بفعل الفرامل القوية التي تحدث احتكاكا رهيبا بين المقعد والجالس عليه !

            الكاملا ..

       في محطة ما صعدت قافلة من “تلاميذ” الثانويات ، من بينهم شخص يبدو أنه ضل طريقه إلى وسيلة تنقله ؛ تسلم تذكرته وزمجر في هدوء ” معقول هذا .. جابي بمقعدين .. وأنا واقف ” ، وفي أثره انتفضت في وجهه منفجرة أشبه ببركان بشري شرع يقذف بحممه : ” .. واشْ أنايا .. خدّاما عندْ مّاكْ … إيوا مزْيانْ .. قلّة لحْيا كيدايْيرا .. شي رْهوطْ .. الله انعل  “

تعالت أصوات ؛ اختلط فيها ضجيج الحافلة بموجة الرياح وهي تعوي من خلال الثقوب والمنافذ : ” .. الله يْسامح … آلكاملا شيباسْ .. ” ، وأخرى مستنكرة : ” .. واشْ شَغْلو .. عْلاشْ .. عنْدها الحق .. إلى بغاتْ تاخُدْ حتى عشْرا دْلبلايصْ.. ماشي سوقْ حدْ .. على قْباحا كيدايْرا ..” .

فجأة توقفت الحافلة وصعد أربعة رجال بزي موحد تحسبهم من عمال النظافة : ” .. يا الله … آرا وْرقتكْ .. الورْقا باشْ خلّصْتي  ..؟ .. آجي نْتا لهْنا فينْ ورقْتكْ .. يالله قطّعْ … كيفاشْ معنداكشْ .. أولاشْ .. طالعْ ..؟ ! “

كشف لهم الفرز أن أكثر من نصف الراكبين بدون تذاكر ؛ تورط فيها أشخاص بربطات العنق .. ومحافظ “العمل” .. لكن الإحساس  بالإحراج ليس واردا بينهم ، ما دام هذا الجمع الغفير لا توجد بينه ولو تذكرة واحدة .. وأصروا على عدم النزول رغم التوسلات التي أمطرهم بها المراقبون .. الجميع كان معتادا على هذه المراقبة الناعمة . أخيرا ترجل المراقبون بدلا من هذه الحشود المحتلة .

تابعت الحافلة سُعارها ، والكاملا ؛ بائعة التذاكر لم تفتأ تتهادى في مقعدها منددة جهارا ب ” الصعاليك ، ووْلاد الحرامْ .. وارْجالا الخانزينْ .. والشفّارا .. وزْوا.. “

            النقلة الأخيرة

       انطلقت الحافلة الثامنة ليلا في سفرتها الأخيرة لتجوب أحياء سكنية ؛ محاذية أحيانا لشاطئ البحر بالعاصمة . كانت الكاملا متعجلة ، تعد الدقائق تلو أخرى لتأوي إلى منزلها وتستريح من عناء رؤيتها لأناس ألفوا اغتصاب الحافلة كل يوم .. كانت تعلم أن حلول الليل عليها بالحافلة يعني القلق والخوف والتوجس ، ولأن ركاب الليل في معظمهم مياومون وعملة ومرتزقة وشحاذون ولصوص ، لزمت مقعدها في صمت مطبق وأرخت بطرف من إزارها الرأسي على جبينها المغضن ، والمحفظة الجلدية مكدسة بقطع وأوراق نقدية ؛ متابعة بتسديد حساباتها قبل التاسعة ليلا .. كان العياء قد أخذ بها ، حتى نظراتها لم تقو على إلقائها في وجه الزبناء الركاب الغصبة .

تجاوزت الحافلة خمس محطات قبل أن تلج إلى منطقة منزوية شبه خلاء .. وفي المحطة الموالية توقفت حلى حين غرة ليصعد أربعة شبان ملثمون ؛ يشع في أيديهم بريق لمعان سيوف وسكاكين .. أحدهم حل محل السائق فقاد الحافلة بحذر إلى جانب الرصيف ، بينما الآخر أصدر إعلانا وسط الركاب المذعورين بالتخلي عن كل ممتلكاتهم مهما صغرت قيمتها .. ! في حين تقدم ثالثهم من الكاملا وصفعها على خدها منتزعا منها “حقيبة القبض” .. أما الرابع فقد وقف في المؤخرة يراقب حركات الركاب طالبا من الوقوف القعود إلى الأرض ورفع أيديهم فوق الرؤوس .. كادت أنفاسهم تتقطع وأعينهم ترمق أسنة السكاكين تتوجه إليهم فردا فردا ، وكم منهم من تلقى لكمات دامية على وجهه ، لما علم اللصوص أن لا شيء يحمله سوى مفتاح بال أو بورطابل من سقط المتاع !

     بينما كان اللصوص منهمكين على تجميع مسروقاتهم والتأهب لترك الحافلة ، إذا بدورية أمن تتوقف ؛ تستطلع ما يجري ، لم يكن أمام هؤلاء الجناة من خيار سوى قيادة الحافلة ، في محاولة لدهس كل من يحاول الوقوف في طريقها ، توالت الاتصالات وتعززت الدورية بفريق من الصقور وآخرين في لباس مدني ، وفي لحظة ما تم تطويق كل الطرق والأزقة المفضية إلى الحافلة .

            المواجهة الدرامية

      شرع النقيب يوجه رسائل تحذيرية إلى الجناة : ” .. سلْمو نْفوسْكُوم  … ! راكو مْطوْقينْ .. متْحاولوشْ تْهرْبو .. القرْطاسْ تابعْكومْ..  القرْطاسْ تابعْ.. ” . توقفت الحافلة ، فتوجه أحد الركاب إلى نافذة هناك في محاولة لإيجاد مخرج يرضي “الجميع” : ” .. خلّيوهومْ .. يْمشيوْ .. قبلْ ما يتْصابْ شي واحدْ منّا … آشّافْ .. آشّافْ الله يرحمْ ليكومْ الوال… ” . في هذه الأثناء كانت الكاملا جاثمة في كرسيها تتنصل من حذائها وتترصد اللحظة الفاصلة .. بدت عيناها حمراوين غائرتين ، وشرعت تشمر عن ساعديها في خفاء وخواطر سوداء تتزاحم في رأسها : ” .. ضرْبوني .. وكولْشي ادّاوه لي .. آشْ بْقا لي .. آشْ منْ حياة … أولاد لقْحـ .. ” ، تسللت أصابعها إلى سروالها ثم لبدت قليلا قبل أن تنقض بكامل قواها على عنق أحدهم ، وقد أشهرت سكينها باتجاه حلقومه ، وصرخت هائجة : ” .. والله .. يادينْ أمّو .. ليقرّبْ .. حتّا ندبْحو..” . كان الزبد يتطاير من شدقيها ، ورأس الجاني بين الموت والحياة .

على حين غرة ، سمع لدوي اهتزت له فرائص الركاب ليعاينوا شظايا زجاج الباب الخلفي ، ومن ثم قفز ثلاثة أشخاص بهراواتهم داخل الحافلة ، ثم ما لبث رجال البوليس أن طوقوا الحافلة من كل الجنبات بمسدساتهم في أهبة التسديد .

    ضجت الحافلة بصراخ .. وعويل .. وركل .. ورفس وتدافع .. وخناق .. وزعيق .. وولولة .. وبعد لأي تمكن أفراد قوات التدخل السريع من التحكم في الوضع الأمني . حملت تسريبات الركاب آراء متضاربة عن وجود قتلى وجرحى .

 لكن عقب تحقيقات مكثفة داخل الحافلة ، وفي غبش المصابيح الطرقية ؛ تهللت أوجه المارة وبعض الركاب ممن أخلي سبيلهم فعلت أصوات مدوية جوار الكاملا وهي محمولة على سرير الإسعاف مصابة بكدمة في عينها اليمنى ؛ ترمق إلى جانبها غريمها الذي فارق الحياة بين مخالب يديها :

            ” .. الكاملا .. مكْمولا .. والله إلى مكْمولا.. “

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى