يد تسقي و يد تجني.. من رمال الصحراء للمروج الخضراء

هبة بريس ـ ياسين الضميري

بمناسبة الذكرى الرابعة بعد الأربعين لذكرى المسيرة الخضراء، خاطب الملك محمد السادس العالم بخطاب سيظل موشوما في الذاكرة، وجه من خلاله رسائل واضحة و صريحة للعالم بصفة عامة و لإفربقيا بشكل أخص حيث أكد بأن الصحراء المغربية تشكل بوابة المغرب نحو إفريقيا جنوب الصحراء.

العاهل المغربي قال في خطابه: “لقد جعلنا قارتنا، منذ اعتلائنا العرش، في صلب سياستنا الخارجية، فقمنا بالعديد من الزيارات لمختلف دولها، وتم التوقيع على حوالي ألف اتفاقية تشمل كل مجالات التعاون، وقد كان لذلك أثر ملموس على مستوى مكانة المغرب الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية داخل القارة”.

وشدد جلالته في ذات الخطاب على التزام المغرب ببناء إفريقيا، قائلا: “وإننا عازمون على جعل المغرب فاعلا أساسيا في بناء إفريقيا المستقبل، و نطمح للرفع من مستوى المبادلات التجارية ومن الاستثمارات المغربية في القارة، وإطلاق مرحلة جديدة عمادها المنفعة المشتركة، و يتوقف تحقيق هذه الأهداف على وفاء المغرب بالتزاماته وعلى مواصلة ترسيخ حضوره في إفريقيا”.

هذا الخطاب سبقه خطاب عودة المغرب لمنظمة الاتحاد الإفريقي حين قال الملك محمد السادس: “أفريقيا هي بيتي وقد حان وقت العودة، ما يهمنا هو تقدم القارة وخدمة المواطن الإفريقي، فالمغرب لم ينهج يوما سياسة تقديم الأموال، وإنما اختار وضع خبرته وتجربته رهن إشارة إخواننا الأفارقة، لأننا نؤمن بأن المال لا يدوم، وأن المعرفة باقية لا تزول، وهي التي تنفع الشعوب”.

و أضاف الجالس على العرش أمام رؤساء و قادة دول إفريقيا: “في إطار المشاريع التي تهدف إلى الرفع من المردودية الفلاحية، وضمان الأمن الغذائي والتنمية القروية، فقد أقام المغرب وحدات لإنتاج الأسمدة بالشراكة مع عدد من دول إفريقيا، وستعود هذه المشاريع بالنفع على القارة بأكملها”.

و زاد الملك قائلا: “كما نعلم جميعا، فلا الغاز ولا البترول بإمكانه تلبية الحاجيات الغذائية الأساسية، أليس الأمن الغذائي أكبر تحد تواجهه القارة الإفريقية؟ وهذا هو جوهر المبادرة من أجل تكييف الفلاحة الإفريقية مع التغيرات المناخية، التي تعرف بمبادرة “Triple A”، التي أطلقها المغرب بمناسبة قمة المناخ كوب 22”.

و ختم الملك خطابه بعبارة: “إنها مبادرة تمثل جوابا جد ملموس وغير مسبوق، لمواجهة التحديات المشتركة المترتبة عن التغيرات المناخية، فمباشرة بعد إطلاقها، حظيت هذه المبادرة، بدعم قرابة ثلاثين بلدا، وتهدف مبادرة “Triple A” إلى توفير موارد مالية أكبر لتحقيق ملاءمة الفلاحة الأفريقية الصغرى، وستواكب أيضا هيكلة وتسريع المشاريع الفلاحية بالاعتماد على أربعة برامج، وهي التدبير العقلاني للتربة، والتحكم المستدام في المياه المستعملة لأغراض فلاحية، وإدارة المخاطر البيئية ثم التمويل التضامني لحاملي المشاريع الصغرى، وقد شكلت هذه المبادرة أحد المحاور الرئيسية في قمة العمل الإفريقي في مدينة مراكش”.

من هذا المنطلق، يتضح جليا أن المغرب اختار الانفتاح على إفريقيا من خلال مشاطرة تجاربه و خبراته في مجالات شتى مع الأشقاء بالقارة السمراء و خاصة في الشق الفلاحي باعتبار المغرب البلد الأول قاريا في هذا المجال من حيث الخبرة و التميز، فكيف إذن ساهم المغرب في إنقاذ عدد من دول قارة إفريقيا من “المجاعة” و كيف سخر كل ما راكمه من تجارب لتقوية “الأمن الغذائي” بالقارة التي تفخر بريادة المملكة و بمنجزاتها تحت القيادة الرشيدة لعاهل البلاد الملك محمد السادس؟

المثال نسوقه من دولة الكوت ديفوار الشقيقة، مشروع مغربي نموذجي ساهم في تحويل جنوب هذا البلد الصحراوي القاحل لجنة خضراء، فكرة مستلهمة من المملكة المغربية و مبادرة و دعم أولي مغربي لشباب من جنوب ساحل العاج كان حلمهم هجرة وطنهم نحو القارة العجوز قبل أن يتغير واقع الحال و يصبحوا بدعم من المغرب أرباب مقاولات تدر عليهم و على منطقتهم و وطنهم خيرات و منافع عديدة…

هنا الكوت ديفوار، هاته الدولة التي تقع في غرب إفريقيا، الوصول إلى هذا البلد تطلب منا قطع مسافة تقارب الخمسة ألاف كيلومتر جوا عبر رحلة مباشرة من الدار البيضاء لأبيدجان عاصمة ساحل العاج في رحلة استغرقت أربع ساعات و نصف من الطيران قبل حط الرحال بمطار فيليكس هوفويت بوانيي الشهير الذي سمي على أول رئيس للبلاد بعد استقلالها و الذي ظل في الحكم من سنة 1960 إلى حدود سنة 1993.

الكوت ديفوار أو ساحل العاج، هذا البلد الجميل الذي تحده غانا من الشرق، وغينيا وليبيريا من الغرب ومالي وبوركينا فاسو من الشمال، و يطل من الجنوب على خليج غينيا والمحيط الأطلسي، عاصمته الفعلية هي مدينة أبيدجان التي توجد بالجهة الجنوبية قرب الساحل ومن أهم منشأتها بواكي وجاجنوا، رغم أن “ياموسوكرو” تظل بحكم القانون هي العاصمة الإدارية للبلاد، وتعود تسميتها إلى أن التجار الإفريقين كانوا يجمعون أنياب الفيلة ويعرضونها للبيع في أكوام على سواحلها فأخدت إسمها من تجارة العاج، يتميز هذا البلد بتنوعه الديني رغم أن غالبية الشعب الإيفواري مسلمون و قد وصله الإسلام من الشمال عن طريق التجار.

أرض ساحل العاج تتكون من سهول ساحلية تغطي ثلث مساحتها و تمتد بجوار شواطئها، وتربة السهول خصبة تنمو فيها الغابات، وبعد السهول ترتفع الأرض تدريجيا نحو الغرب، و في هذه المنطقة هضبة كرانيتية تغطي في القسم الشمالي منها بحدائق السافانا، وتشق أنهار عديدة ساحل العاج من الشمال إلى الجنوب.

أما مناخ هذا البلد فمختلف نوعا ما عن باقي دول إفريقيا، حيث أن الساحل شبه استوائي تزيد حرارته ورطوبته، ويشهد الجنوب فصلان ماطران يفصل بينهما فصلان جافان، ويسود الشمال مناخ مداري أقل مطرا وحرارة من الجنوب.

منذ القدم اعتمد اقتصاد الكوت ديفوار على قطاعي الفلاحة و الزراعة حيث يعمل معظم سكان البلاد ويسكنون القرى الصغيرة، لكن في السنوات الأخيرة بدأت أفواج من الشباب تهجر الضواحي نحو المدن الكبرى بحثا عن تحسين ظروف الحياة مما جعل نسبة الزراعة في الناتج القومي تتقلص تدريجيا رغم أنها تظل في صدارة اقتصاد البلد.

الزراعة حرفة السكان الأساسية، وقد تخصص القسم الشمالي من البلاد في إنتاج الغلات الزراعية الغذائية مثل الأرز والذرة والموز، بينما ينتج القسم الجنوبي المطاط والكاكاو والبن، وساحل العاج الثالثة في إنتاج البن والخامسة في إنتاج الأناناس والموز بالعالم، كما تتميز أيضا بزراعة القطن وقصب السكر، وتشكل الأخشاب ثروة عظيمة تسهم بخمس صادراتها وتنتج القصدير والحديد والمنغنيز والذهب والماس من مناجم ساحل العاج.

اعتمد دخل البلاد قبل عام 1960م بشكل شبه كلي على تصدير البن والكاكاو، ومنذ ذلك الحين أصبحت جمهورية ساحل العاج تصدر مجموعة كبيرة ومتنوعة من البضائع، إذ يعد زيت النخيل حاليا مصدرا أساسيا لدخل البلاد، كما أن الموز والأناناس والمطاط منتجات مهمة أيضا، ويقوم الفلاحون هناك بزراعة نبات يدعى “المنيهوت” والذرة الشامية والأرز والبطاطس.

و بالرغم من تنوع البضائع المنتجة للتصدير فلا يزال اقتصاد جمهورية ساحل العاج يعتمد إلى حد كبير على تصدير البن والكاكاو، كما تتركز الزراعة في وسط البلاد حيث الأنهار والسدود، وقد توسعت الزراعة في السنوات الماضية وخاصة مساحة الأراضي السقوية، فبعد أن كانت نحو 3 ملايين هـكتار سنة 1965، صارت اليوم 8 ملايين هكتار ونصف.

و رغم أن اقتصاد الكوت ديفوار يعتمد بنسبة كبيرة على الزراعة، غير أن عدد المواشي بهذا البلد يبقى ضعيفا جدا حسب الأرقام التي استقيناها من وزارة الزراعة و التنمية الريفية الإيفوارية باعتبار أن عدد الأبقار لا يتعدى 800 ألف رأس، والأغنام والماعز مليونين و نصف المليون، فيما يقارب عدد الخنازير 400 ألف، في حين تبلغ الثروة السمكية ما مجموعه 100 ألف طن.

التزود بمثل هاته المعلومات كان أمرا ضروريا قبل شد الرحال لمقاطعة “ياموسوكرو” التي يتكلم غالبية سكانها الفرنسية بطلاقة، من مطار فيليكس هوفويت بواني بأبيدجان وجدنا “ياكوبا” مرافقنا في هاته الرحلة بانتظارنا في سيارته لتنطلق رحلتنا الشاقة نحو قرية تدعى “كامي” تبعد عن العاصمة بأكثر من 300 كيلومتر.

الطريق لهاته القرية ليس بالأمر اليسير في ظل هشاشة البنية التحتية لبعض المناطق التي اضطرت السيارة لعبورها، غير أن الاستمتاع بمنظر الغابات و الأنهار و أشجار السافانا و البراري و بعض الحيوانات البرية جعلنا ننسى كل المشاق في انتظار الوصول ل”كامي” هناك حيث ينتظرنا “مامادو”.

“أنتم محظوظون لأنكم في بلد إسمه المغرب، فعلا إنه بلد عظيم و شعب رائع، من حقكم أن تفتخروا بوطنكم و ملككم” ، عبارة استقبلنا بها الشاب “مامادو ديوماندي” الإيفواري الأصل و الذي أمضى بضع سنوات بالمغرب كانت كافية ليغير نظرته للحياة و ليؤسس اللبنة الأولى لمشروعه الفلاحي الواعد ضواحي مقاطعة ياموسوكرو الإيفوارية.

في الجنوب الغربي من مقاطعة ياموسوكرو التي شهدت ولادة أعظم رئيس في تاريخ البلاد تتربع قرية “كامي” التي كانت قبل سنوات مجرد قرية مهجورة بعدما غادرها غالبية الشباب للمدن الكبيرة بحثا عن سبل عيش أرحب خاصة في ظل اشتداد الجفاف و قلة فرص الشغل بالزراعة التي لم تعد كافية حتى لعيش سكان المنطقة المقدر عددهم بحوالي سبعة ألاف نسمة.

“مامادو” واحد من هؤلاء الشباب، كان كل صباح يستفيق و عيناه ترقب جود و عطاء السماء، ضاقت به السبل و لم يجد غير الهجرة ليس من قريته فحسب كغالبية الأقران و إنما من البلاد ككل فكانت الوجهة نحو المغرب، ذاك البلد الذي لطالما سمع عنه في نشرات الأخبار و تناقلت مواضيعه جلسات الرفاق في مقهى صغيرة هناك تدعى “ليزاميكال” حيث يجتمع غالبية سكان القرية لمشاهدة مباريات الدوري الإنجليزي الذي يحظى بنسب متابعة قياسية تفوق الدوري المحلي.

غادر مامادو بلاد العاج و ترك الأهل و الأصحاب خلفه و جابه المخاطر و الصعاب ليصل لمدينة الرباط صيف سنة 2012، يحكي هذا الشاب الذي بالكاد بلغ سنته التاسعة و العشرون: “وجدت المغرب مختلفا تماما عن بلدي، مختلف في كل شيء، شعبه، تقاليده، عقلية مواطنيه، بنيته التحتية و حتى مطبخه، لكنني لم أجد صعوبة في الاندماج خاصة أنني أتقن الحديث بالفرنسية و بدأت تعلم الدارجة المغربية”، قبل أن يبتسم قائلا بالدارجة: “مرحبا بيك هنا خويا”.

بعد أشهر أمضاها بين شوارع الرباط جرب خلالها عديد المهن كبيع الإكسسوارات و غسل السيارات، تعرف “مامادو” بالصدفة على أحد الفلاحين الكبار بمنطقة الغرب و بالضبط بضواحي مدينة القنيطرة ليقترح عليه الاشتغال بضيعته الفلاحية و هو الأمر الذي قبله الشاب الإيفواري الضخم البنية دون أدنى تفكير.

تعرف مامادو خلال مقامه بضيعة “با الحاج” كما يحرص على تسميته على أخر مستجدات عالم الفلاحة و الزراعة خاصة أن الضيعة التي كان يشتغل بها متخصصة في الزراعة الإيكولوجية باعتماد تقنية السقي بالتنقيط و هي التقنية التي لم يكن “مامادو” يعرف عنها شيئا مما جعل فضوله و شغفه في التعلم يدفعه لمعرفة أدق تفاصيلها لدرجة صار من بين أمهر فلاحي الضيعة في ظرف زمني قصير.

و لأن “مامادو” الذي تربى وسط أسرة محافظة بالكوت ديفوار كان متشبعا بتعاليم الدين الإسلامي لم يكن يترك وقت العمل سوى للصلاة و العبادة و هو ما جعل مشغله يضع كامل ثقته فيه، ليجالسه ذات مساء و يقترح عليه فكرة لم يكن البتة يضعها في ثنايا مخيلته الصغيرة: “نتا دبا تعلمتي هاد التقنية الجديدة علاش ماتديرهاش في الكوت ديفوار و هكذا تستافد نتا و تعاون شباب أخرين و حتى بلادك، و أنا مستعد نعاونك حتى تبدا ايلا كنتي باغي تخدم و تطور راسك”.

بهاته الكلمات خاطبني “با الحاج” يقول مامادو ، قبل أن يواصل الحكي: “لقد شجعني على وقف مغامرة الهجرة نحو أوروبا و أعطاني حافزا للعودة لبلدي و نقل التجربة إليه كما دعمني ماديا و معنويا لبداية مشروعي الفلاحي الجديد و هو إنشاء قرية إيكولوجية تعتمد على تقنيات بديلة في الزراعة البيئية و العضوية مع اعتماد تقنية السقي بالتنقيط للحفاظ على الفرشة المائية و مواجهة مخاطر ندرة و شح المياه ببلدي”.

“ودعت المغرب الذي منحني الأمل في الحياة بعدما ولجته كائنا محطما يائسا و عدت لبلدي شخصا أخر مفعما بالحيوية و الرغبة الجادة”، يتوقف مامادو عن الحكي قبل أن يرتشف القليل من “الكيدجينو” الشهير هنا و الذي يتم تحضيره باعتماد مرق الدجاج و مستخلص من مزيج الخضر و بعض الأعشاب الطبية و معه مشروب “بيساب” المستخلص من عصارة زهرة تدعى “الكركديه” المجففة و هي نبتة شهيرة بالكوت ديفوار.

عاد مامادو لقرية “كامي” بمقاطعة ياموسكورو بالكوت ديفوار و أسس جمعية تدعى “الحلم الممكن” و جمع ثلة من شباب المنطقة حيث حرص على تكوينهم و تلقينهم أبجديات الزراعة الإيكولوجية و أهدافها و تقنياتها و هو الأمر الذي لقي تجاوبا كبيرا من طرف غالبية سكان المنطقة الذين أعجبوا بالفكرة التي استلهمها إبن قريتهم من بلد إسمه “المغرب” يعتبرونه مرجعا و قدوة.

في فترة وجيزة استطاعت الجمعية الحديثة العهد بتمويل كامل و شامل من مالك الضيعة المغربية أن تصنع لنفسها مكانا بالقرية و تصبح حديث الساكنة هناك، قبل أن توقع اتفاقا مع مسؤولي المنطقة يقضي بمنحهم مساحة معينة من الأراضي المخصصة للزراعة في ملكية الدولة و معها قرض مالي لتمويل مشاريع موازية اقترحها أعضاء الجمعية تصب في ذات الاتجاه، لتنطلق الأشغال على قدم و ساق قصد تحويل الأرض الممنوحة لقرية إيكولوجية بلمسة مغربية كان أول أهدافها تحقيق أمن غذائي لسكان خمس قرى مجاورة بأقل تكلفة و هو الأمر الذي تمكن مامادو و أبناء قريته من تحقيقه في ظرف وجيز لتكبر أحلامهم و يصبح هدفهم بعد ذلك تنويع الزراعات لتشمل بعض الخضر و الفواكه و التمور التي لا توجد بالكوت ديفوار، هاته المنتجات الفلاحية التي تم جلب بذورها خصيصا من المغرب.

يستفيق “مامادو” كل صباح ليؤدي صلاة الصبح جماعة مع سكان القرية بمسجد المنطقة قبل أن يتوجه للضيعة الإيكولوجية التي يشرف على تدبير أمورها، هاته القرية تشغل اليوم عددا من الأشخاص غالبيتهم من الشباب الذين كانوا بالأمس القريب يفكرون في هجرة بلادهم نحو دول الشمال.

يحرص هذا الشاب الذي يناديه أصدقاءه المقربون ب”مادو” على مراقبة سير أشغال الضيعة عن قرب حيث ينزع عنه قبعة “الباطرون” و يختفي وسط الضيعة الشاسعة بين المزارعين يتفحص نمو النباتات و يزيل الأعشاب الضارة و يراقب نضج المحصول و بين الفينة و الأخرى يجمع ثلة من الشباب المستخدمين ليروي لهم قصص المغرب الذي أعاد له الأمل في الحياة.

يقول مامادو حين سألناه عن علاقته بالمستخدمين في الضيعة النموذجية: “أعتبرهم إخوتي، نضحك تارة و نختلف تارة أخرى، لكن في نهاية المطاف نقوم بتغليب المصلحة العليا، كل من ستجده هنا يحس أنه فرد من العائلة الكبيرة، أتعامل مع الجميع بمنطق أنهم يشتغلون معي وليس أنهم يشتغلون عندي”.

ساهمت الضيعة الإيكولوجية التي تديرها جمعية “الحلم الممكن” في توفير مناصب شغل قارة لشباب المنطقة و ضمان مدخول مهم لهم، فضلا على تحسين سبل العيش و توفير غذاء ذو جودة عالية و صحي لساكنة المنطقة بالإضافة للمحافظة على الثروة المائية التي كانت تشكل تحديا كبيرا ليس فقط لقرية “كامي” و لكن لكل دولة الكوت ديفوار كما باقي دول القارة الإفريقية التي تجمعنا.

“مامادو” و في حديثه لنا أكد بأن حلمه لم يعد يقتصر على ضواحي قريته الصغيرة فقط، بل تقدم بملف خاص للوزارة الوصية ببلده من أجل دعمه في تحقيق مشاريع مماثلة بعدد من مناطق البلاد خاصة أن تكلفة الإنتاج أضحت أقل و المردودية أكبر و الجودة أفضل بفعل استعمال تقنيتي الزراعة البيئية الإيكولوجية و السقي بالتنقيط اللتان تعتبران تجربتان حديثتا العهد بدولة ساحل العاج تم استيرادهما و استنساخهما من المغرب الذي يعتبر بلدا رائدا في مثل هاته التقنيات الفلاحية بالقارة السمراء.

كما استغلت جمعية “الحلم الممكن” مناسبة الدورة الرابعة للمعرض الدولي للفلاحة و الموارد الحيوانية بأبيدجان المعروف اختصارا ب “سارا” و الذي تنظمه وزارة الزراعة والتنمية الريفية بالكوت ديفوار بالتعاون مع وزارة الثروة الحيوانية والسمكية و وزارة المياه والغابات و وزارة السلامة والبيئة والتنمية المستدامة الإيفوارية للتعريف بتجربتها المتفردة و هو ما لاقى إقبالا و إشادة كبيرتين في أفق تعميم التجربة حتى تستفيد منها باقي مناطق البلاد.

و لقيت جمعية مامادو و رفاقه خلال فعاليات المعرض دعما مغربيا كبيرا خاصة في ظل العلاقات الثنائية الطيبة بين البلدين و انفتاح المغرب على القارة السمراء عبر إغنائها بتجربته و خبرته الطويلة و هو ما حث عليه عاهل البلاد سلفا خاصة في ظل الاتفاقيات التي جرى توقيعها خلال زيارة صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلى الكوت ديفوار ضمن جولته الإفريقية السابقة و التي وصلت إلى 26 اتفاقية همت 5 منها القطاع الفلاحي.

كما أن السيد عزيز أخنوش بصفته كوزير للفلاحة و الصيد البحري و التنمية القروية و المياه و الغابات خلال فعاليات نفس الملتقى الذي حضرته جمعية “الحلم الممكن” قد أكد أن المغرب على استعداد دائم لوضع تجاربه وخبراته البارزة في المجال الفلاحي رهن إشارة البلدان الإفريقية الشقيقة والصديقة و أن النهوض بالتعاون جنوب جنوب في مختلف المجالات، بما فيها قطاع الفلاحة، يشكل “خيارا استراتيجيا” بالنسبة للمملكة، وذلك وفقا لتوجيهات الملك محمد السادس.

توظف ضيعة “الحلم الممكن” حاليا حوالي 30 في المئة من السكان النشيطين بالقرية، و تساهم في إنتاج كميات مهمة من الخضر و الفواكه التي توجه أساسا للاستهلاك المحلي، بينما يخطط مهندسو الضيعة لكسب رهان تصدير جزء من الإنتاج لخارج البلد و ذلك قصد تنويع مصادر الدخل و المساهمة في جلب العملة الصعبة لبلدهم.

وقع مسؤولو الضيعة اتفاقيات عدة للتعاون المشترك مع إحدى أكبر شركات نقل البضائع بالكوت ديفوار و هي التي تتكلف بنقل و توزيع منتجات الضيعة لأسواق الجملة بعدد من مقاطعات البلاد، كما تم توقيع اتفاقيات أخرى تسهم من خلالها جمعية “الحلم الممكن” في إحداث تعاونية وطنية متخصصة في تغليف المنتجات الفلاحية المعدة للاستهلاك.

كما نالت الجمعية المسيرة للضيعة شهادات و جوائز عدة فيما يتعلق بمؤشرات الجودة و “البيو بروداكت”، بالإضافة لكونها أضحت من بين الجمعيات المواطنة و النشيطة بعدما قرر أعضاؤها توجيه جزء من الأرباح لدعم تمدرس الأطفال و مساعدة الأسر المعوزة و الأرامل و الأيتام و القيام بأنشطة موازية كتنظيم دوريات في كرة القدم.

يقول مامادو: “قد تبدو كل هاته الأمور جد عادية في بلد كالمغرب، لكن لا تدرون وقعها في بلدي، هنا كل شيء له آثر، فمنح الشباب و الأطفال بارقة أمل نحو غد أفضل و منحهم فرصة التعبير عن مواهبهم أمر عظيم لا يمكن للجميع القيام به هنا”.

و يواصل بحماس منقطع النظير: “تغيرت أمور عديدة بفعل المداخيل التي نجنيها من الضيعة، مداخيل تكبر كل يوم ومعها تكبر أحلامنا في جعل الكوت ديفوار ذات يوم رائدة كالمغرب، لقد ساهمنا بفكرة استقيناها من المملكة الشقيقة في وقف نزيف الهجرة و منحنا الفرصة لشباب المنطقة للمساهمة في تنمية وطنهم و نهضته، إفريقيا للأفارقة و ثرواتها يجب أن تستغل لتقدمها و ازدهار شعوبها خاصة أن الرأسمال الحقيقي للقارة هو سكانها كما قال الملك محمد السادس”.

كل هاته المؤشرات الإيجابية دفعت “مامادو” و جمعيته للإيمان المطلق بأن “الحلم فعلا ممكن” لاستلهام تجربة المغرب الرائدة و المتفردة و نقلها لبلاد تلتمس أولى خطواتها في درب التنمية، مما يجعل المغرب و بحق “نموذجا” يستحق أن نفخر به و نرفع رؤوسنا عاليا بمجرد ذكر إسمه كما قال “مامادو” الذي بات اليوم يعتبر نفسه مغربيا بعد أن علمه هذا البلد أن “الحلم ممكن” و أن المستحيل ليس له مكان في أوطاننا إذا كانت خلفه أطنان من الرغبة و الإرادة التي تكسر كل العراقيل و الصعوبات بحثا عن تحقيق الحلم و الهدف المنشود…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى