براءة “العصابة”، عودة الجنرال نزار.. ما الذي يحيكه عسكر الجزائر من جديد؟

ادريس بيكلم : باحث في العلوم السياسية

تتسارع الأحداث في الجارة الجزائر بوثيرة ملفتة، منذ اندلاع الحراك قبل حوالي سنتين، جرت الكثير من المياه تحت جسر العملية السياسية في البلاد، بين تقدم ملحوظ نحو ارساء نظام سياسي منفتح وديمقراطي يقطع مع مخلفات الحقب البائدة، ونكوص يعيد السياسة والديمقراطية في البلاد للمربع الأول، وبين التقدم والعودة او النكوص، يتصارع القديم المتمثل في الجيش ونظام حكمه واركانه وسياساته والجديد المتبلور في شباب الحراك ومختلف القوى الحية في البلاد، التواقة لبناء جزائر ديمقراطية ومجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية، ويرى عدد من المهتمين والمتتبعين ان المتحكم في القرار السياسي والاقتصادي الأمني في الجزائر هو نظام عسكري عتيق و صارم، يسير ويدير الدولة من خلال واجهات مدنية او شبه مدنية (عسكريون/مجاهدون متقاعدون)، كما ان المسلسل الانتخابي في الجزائر سواء الرئاسي او البرلماني او حتى المحلي، تتحكم فيه السلطة بشكل كبير، اد انه واثناء الضغوط والتحولات العالمية التي فرضت على عسكر الجزائر تخفيف القبضة على السلطة السياسية، نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، واجراء انتخابات تشريعية شفافة ، عمد الجيش للانقلاب على نتائجها اثر حصول جبهة الانقاد الاسلامية على اغلبية مقاعد البلديات والبرلمان في انتخابات سنتي 90 و 91، ادى ذلك الى دخول البلاد في عنف دموي لمدة عشر سنوات خلف عشرات الالاف من القتلى فيما باث يعرف بالعشرية السوداء، وكان ذلك ثمن بقاء العسكر في واجهة الأحداث، وبمجيء بوتفليقة لرئاسة الجزائر، بدا ان البلاد بدأت تتخلص تدريجيا من حكم العسكر وإرثه الثقيل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، خاصة وان الخطابات الجماهيرية والحماسية لبوتفليقة وسياسة الوئام المدني (المصالحة الوطنية) التي قادها في بدايات ولايته الأولى، والبرامج الاقتصادية والاجتماعية ومحاربة الفساد التي اعلن عنها، كانت توحي بتوجه نحو بناء دولة مدنية اساسها الحكامة الاقتصادية والانفتاح السياسي والتداول السلمي على السلطة وارجاع العسكر لثكناته وحصر مهامه في الدفاع عن الوطن وصون وحدثه وحدوده وأمنه، وتم حينها تحريك ملفات اقتصادية شابها خروقات كبيرة واختلاسات ضخمة للمال العام، منها اعادة هيكلة عملاق المحروقات و دراع الدولة المالي والديبلوماسي احيانا (صوناطراك)، كشفت هذه الملفات عن اختلالات عميقة واختلاسات ضخمة فاقت الألف مليار دينار جزائري، وتم القاء القبض او ملاحقة شخصيات ورجال اعمال متهمين بنهب المال العام او الحصول على منافع وامتيازات غير مشروعة (قضية بنك وطيران خليفة نمودجا… )، واضطر عدد من قادة العسكر للتواري عن الأنظار او مغادرة البلاد واختيار منفى خارجي هروبا من الملاحقات من طرف بوتفليقة ونظامه الجديد وعلى رأس المغادرين الجنرال القوي ومدبر الانقلاب على نتائج انتخابات التسعينات وعدد من الأحداث المفصلية في تاريخ الجزائر الحديث ، خالد نزار الدي احدث ضجة عارمة وجدل كبير حينما نشر مدكرات تحتوي على عدد من الاسرار والحقائق بخصوص احداث وقضايا عايشها او كان مسؤولا عنها.

اندلاع الحراك الجزائري، يأس من نظام فاشل ومناورات الجيش الداخلية

بعد مغادرة الجنرال خالد نزار للمشهد وفتح ملفات الفساد والاختلاسات ، وتبني سياسة الوئام المدني، و واعلان المصالحة مع الاسلاميين والمعارضين ، وبالنظر لعدد من الاجراءات الأخرى التي اعتمدها بوتفليقة وفريق حكمه، بدا وكأن حقبة جزائرية جديدة تكتب، ومرحلة انتقالية نحو الديمقراطية ترسخ، لكن بعد انقضاء العهدة الأولى والثانية للرئيس ورغبته في ثالثة ورابعة بل وخامسة ولو على كرسي متحرك، تبخرت كل تلك الآمال، واتضح ان بوتفليقة ليس سوى الشجرة التي تخفي غابة الحكام الفعليين للبلاد، فإدا بها نفس الجهة، مع نفس السياسات، فتحرك الشارع الجزائري، بعدما تبين ان دار لقمان مازالت على حالها، والعسكر بوجوه جديدة وارتباطات قديمة من يتحكم ويسير المشهد بتحالف مع شقيق الرئيس السعيد بوتفليقة و عدد من السياسيين (سلال، او يحيى، بلخادم، مقري..).
شهد مربع الحكم في الجزائر مناورات بل مؤامرات كثيرة اقصيت فيها وجوه و أعيدت للواجهة اخرى عسكرية ومدنية، لكن الثابت في العملية دائما هو الحظوة والحضور القوي للجيش بشكل او بآخر في دواليب الدولة والنظام، ومع اندلاع الحراك الجزائري ضيق الخناق على الجهاز الحاكم عسكرا ومدنيين، فكان لابد من اكباش فداء، ومناورات للالتفاف على مطالب “مدنية الدولة ورحيل العسكر عن السلطة، والتداول السلمي على السلطة وانتخابات حرة ونزيهة وصرف مقدرات الجزائر على الجزائر والجزائريين”، والتي تلخص حجم يأس الجزائريين وسخطهم على طغمة حاكمة نهبت البلاد ، ليضطر العسكر بعد تصاعد حدة الحراك وعجزه على تطويقه واسكات جذوته، الى التضحية بواجهة حكمه المدنية الرئيس المقعد بوتفليقة وشقيقه والجنرال توفيق (صانع الرؤساء بعد خالد نزار) والجنرال طرطاق مدير المخابرات، بعد صراع خافت وضاهر احيانا بين اجنحة السلطة، حسم بضغط من الشارع ونتاج متغيرات محلية ودولية للفريق قايد صالح رئيس الاركان ونائب وزير الدفاع.
عمل الجنرال قايد صالح على ادارة المرحلة الانتقالية وتثبيت معادلات جديدة لا تخرج العسكر منها، فزج بمجموعة بوتفليقة التي نعتها والجزائريين” بالعصابة” كما وعدد من المسؤولين ورؤساء الحكومات والوزراء السابقين في السجن، بتهم مختلفة منها التآمر على الدولة وسلامة الوطن او تبديد اموال عمومية.

قايد صالح جنرال ترتيب البيت الداخلي الدي مات في ضروف غامضة

قاد الفريق قايد صالح مرحلة انتقالية مثيرة ومضطربة، وصوب سهامه في كل الاتجاهات، داخليا وخارجيا، من الجزائريين من اعتبره حارس الحراك في وجه العصابة (سعيد بوتفليقة توفيق وطرطاق…) ومنهم من اعتبره واجهة جديدة للعسكر، تسعى للالتفاف بشكل دكي على المطالب الحقيقية للحراك، واصطناع تغيير وهمي وغلق قوس الحراك الجزائري لتثبيت العسكر في الحكم من جديد، لكن يحسب للرجل انه ابعد الجيش عن الصدام مع المحتجين وكرر مقولة ان الجيش للدفاع عن الجزائر والجزائريين، بعد مدة قصيرة يموت الجنرال، ولازالت اسئلة ملابسات و ظروف وطبيعة موته مطروحة لليوم، رغم كل ما قيل عن وفاته بسكتة قلبية مفاجئة. جاء بعده الجنرال الصامت “شنقريحة”، ويستمر المسلسل، ونظمت انتخابات رئاسية فاز فيها المرشح عبد المجيد تبون بالرئاسة، قدم وعودا كثيرة ونثر أحلاما كبيرة للجزائريين، و بعد حوالي عام من تنصيبه طرح مشروع دستور جديد قاطعته شريحة واسعة من الشعب (27 في المائة نسبة التصويت)، ليصاب الرئيس الجديد بفيروس كورونا نقل الى المانيا للعلاج الدي استمر حوالي شهرين، تناسلت اثر ذلك شائعات حول وفاته او قدرته على ادارة البلاد، في غضون ذلك وقبل عودة الرئيس من رحلته العلاجية للبلاد عاد الجنرال قبله.

عودة نزار وبراءة “العصابة”، من يتآمر على من؟

كانت جملة “من يقتل من؟”، تصيب نظام اليامين زروال وعبد العزيز بوتفليقة بغضب شديد، كلما تناولها الاعلام الاجنبي وخاصة الفرنسي، خاصة بعد نشر مدكرات الجنرال الفار العائد حاليا خالد نزار، بما يحتويه هذا السؤال من تشكيك ضمني وصريح في رواية الجزائر الرسمية، حول كثير من أحداث العشرية السوداء التي تنسب دمويتها والقتل فيها للجماعات الاسلامية، واليوم بعد كل هذا السيناريو الدي سبق الحراك السلمي للشعب الجزائري وما تلاه كذلك، يعود نفس السؤال ليطرح بصيغة اخرى، من يتآمر على من؟ خاصة وان هناك تحولات جوهرية طرأت على النظام والدستور الجزائري، ومنها السماح بتكليف الجيش بمهام قتالية في الخارج، وتغيير العقيدة العسكرية وتكريس استعداء المغرب، والتلميح بالحرب كل مرة، وتكريس فزاعة المؤامرة الخارجية والخطر المحدق بالدولة والشعب الجزائري على الحدود الغربية، واستمرار الجيش في حرب الاستنزاف ضد الجماعات الارهابية جنوبا، كلها مؤشرات تؤكد وجود نية تآمر جديد على مستقبل الشعب الجزائري ومطلبه في اقامة دولة مدنية عصرية، تعترف وتحترم حقوق الانسان كما هي متعارف عليها دوليا، وتخضع للقانون وللتداول السلمي للسلطة.
عودة الجنرال خالد نزار بكل تقله وارثه والجدل المثار حوله وحول مسؤوليته في دماء الالاف من الجزائريين بل ودماء الرئيس “محمد بوضياف” المقرب من المغرب والدي عينه خالد نزار والعسكر رئيسا للمجلس الاعلى للدولة عقب الغاء المسار الانتخابي سنة 1992، -حسب ما صرح به نجل الرئيس المغتال-، يعود للجزائر التي غادرها بعدما اشتد عليه الخناق، ايام بعد ذلك تبرئ المحكمة العسكرية العصابة ( السعيد بوتفليقة الجنرال توفيق وطرطاق)، كما وصفهم بذلك الجنرال قايد صالح، من كل التهم المنسوبة اليهم.
مؤكد ان المؤامرات التي حيكت لاحتواء الحراك، لم تكن تستهدف الحراك لوحده، بل ان جزء منها نتاج صراع الاجنحة في مربع السلطة، حسم لطرف في بداية الحراك، وما فعله قايد صالح “بالعصابة” كان مجرد حسم للشوط الأول من هذا الصراع ، انتهى مفعوله بمجرد مجيء شنقريحة وتبون، واليوم يسدد جزء من الحساب لمعسكر صالح ويعود متآمرو “العصابة” الى الساحة ابرياء، وسيصبح قايد صالح ومعسكره فيما بعد هم المتآمرون بحكم المنتصر حاليا في اللعبة.

تقلبات المشهد من سيحسم الموقف؟

هكذا يبدو المشهد اليوم، رئيس مريض او في فترة نقاهة، وعودة للحرس القديم وتبرئة رجالات حكم الرئيس بوتفليقة الدي اطاح بعهدته الخامسة الشعب الجزائري، فما الذي يجري بالضبط؟، هل نحن امام عودة وجوه النظام القديم للواجهة؟، ام امام مصالحة جديدة املتها ضروف اقليمية متغيرة على النظام الحاكم في المرادية؟
يرى متتبعون ان فرضيتا عودة الوجوه القديمة للحكم في الجزائر، وكذا مصالحة جديدة املتها ظروف ومتغيرات اقليمية جديدة كلها اقرب للواقع، بالنضر لكون العسكر بالأساس هو من يمسك بتلابيب السلطة وان كانت الواجهة مزينة برئيس مدني جديد ومنتخب، غير ان القرار السياسي والأمني والاقتصادي مازال في يد نفس الجهات القديمة، كما ان العسكر لا يفرط في اعمدته القديمة واركانه السابقة بقدر ما يتم استبعادهم حتى تستكين الأمور وترتب الشروط من جديد لإعادتهم بشكل او بآخر لمواقعهم القديمة او لشغل اخرى جديدة، كما ان تطورات ملف الصحراء اغضبت الجزائر كثيرا، وحسم المغرب لأزمة معبر الگرگرات، اثر في مصداقية دعايات البوليساريو ومن ورائها الحاضنة الجزائر وجيشها، والتحولات الجيوسياسية والاقتصادية في المنطقة وافريقيا عموما التي بدأت تميل فعلا للمغرب، حشر الجزائر ونضامها في الزاوية، ويهدد مصالحها الاقتصادية والسياسية، مقابل تراجع عائدات النفط والغاز بسبب تراجع الاسعار دوليا وتأثيرات جائحة كورونا على الاقتصاد والمواطن الجزائري، والتوجه العالمي والداخلي للتقليص من الاعتماد على النفط والمحروقات بالأساس في الاقتصاد الجزائري والقطع مع الريع النفطي في البلاد، وسعي الدولة لتنويع انشطتها الاقتصادية والبحث عن اسواق جديدة خاصة في افريقيا، ستصطدم بالتأكيد مع الفاعلين الجدد والاقوياء في الساحة الافريقية اقتصاديا وسياسيا ومن بينهم المغرب، وهي كلها عوامل ستساهم في زيادة حدة استعداء المغرب والتضخيم من فزاعة العدو الخارجي، ما سيتيح لجماعة السعيد بوتفليقة والجنرال خالد نزار الاندماج من جديد في مخططات الحاكمين الجدد، من خلال تقديم تجاربهم في التسيير والتآمر وهندسة السياسات بما يتوافق مع التوجهات الجديد للعسكر الجزائري في الحكم، وبذلك ستكون ثورة الشعب الجزائري على نظام بوتفليقة والحرس القديم امام المحك.

ما رأيك؟
المجموع 6 آراء
0

هل أعجبك الموضوع !

+ = Verify Human or Spambot ?

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. عودة نزار (الكزار ) والتوفيق (التوفيق) الى الجزاءر بعد الحكم عليهما باكثر من 20 سنة سجنا.هاهم المجرمون عادا رسميا معززين و مكرمين من طرف عصابة مافيا كبرنات الذل والعار في جارة السوء.وبدون اي محاكمة تذكر. وهم يخططون لإدخال الجزاءر في عشرية سوداء اخرى و التحذير من إعادة الحراك جديد الذي يرعب النظام العسكري الدكتاتوري. ما هذه المهزلة وهذه الغباوة .لقد أصبحتم أضحوكة العالم بدون منازع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
close button
إغلاق