المغرب إسبانيا .. أزمة تصعيد ” باردة “

*صورة تعبيرية

ع اللطيف بركة : هبة بريس

طفت على سطح الاحداث، مؤخرا، بين المغرب والجارة إسبانيا أزمة تصعيد ” باردة” تمثلت في تصريحات متبادلة ، كانت بدايتها موقف مدريد من الاعتراف الامريكي بمغربية الصحراء، وتلاها إستدعاء السفير المغربي بمدريد من أجل تقديم استفسار عن تصريحات رئيس الحكومة المغربية بخصوص قضية ” سبتة ومليلية ” المحتلتين .

وشكل التصريح الذي أدلت به وزيرة الخارجية الإسبانية تعليقاً على الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، والذي ذكرت فيه بموقف بلدها من النزاع حول الصحراء، وأن الملف لم يحدث فيه أي تغيير، وأنه لا يزال يخضع للمحددات التفاوضية نفسها التي رسمها مجلس الأمن.

وهناك حدث آخر، لم تعرف بعد أبعاده بين البلدين، وهو تأجيل الزيارة للوفد الاسباني للمغرب الى غاية شهر فبراير من السنة القادمة، بعدما كان رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، سيحضر لإجتماع اللجنة العليا المشتركة للبلدين في السابع عشر من دجنبر الجاري ، مهما أن ما تسرب حول أوراق اللقاء المشترك هو ورود أن المغرب طالب بإدراج ملف المدينتين المحتلتين ضمن جدول أعمال اللقاء .

وسواء كانت هذه المعطيات صحيحة أم لا، فالثابت أن رئيس الحكومة المغربية، سعد الدين العثماني، قد أدلى بتصريح ذكر فيه أن المغرب سيفتح ملف وضع المدينتين مع إسبانيا بعد أن ينهي قضيته ذات الأولوية (الصحراء).

وزارة الخارجية الإسبانية تعاملت بجد مع تصريح سعد الدين العثماني، لكن مهتمين بالعلاقات بين البلدين ، يرون أن الادارة الاسبانية قد تسرعت في مواقفها ، بل أن مدريد لم تعطي أي انطباع للعلاقة التي سبق الاعتراف بها من طرف إسبانيا انها ” متميزة” فقد ألغى مجلس الشيوخ الاسباني مطلب لهيئات مدنية ب ” سبتة و مليلية ” بخصوص الرفع من شأن اللغتين ” العربية والامازيغية ” لساكنة المدينتين ، ما يشير أن تشدد إسبانيا في مواقفها لن يفيد في حل النزاع حول الاراضي المغربية المحتلة والتي تعززها وثائق تاريخية .

فتصريح العثماني حول وضعية المدينتين المحتلتين، هو أن هذا الاخير قد استعادة الفكرة ذاتها التي سبق للملك الراحل الحسن الثاني أن أدلى بها في سياق الضغط على إسبانيا، حينما اقترح خلية مشتركة مغربية إسبانية للتفكير في وضع المدينتين، فاستعملت إسبانيا كلمة “سيادة وسلامة أراضيها” في اللحظة التي يستجمع فيها المغرب كل أنفاسه، ويبذل كل جهوده من أجل الطي النهائي لملف وحدته الترابية (سيادته على الصحراء).

ومن خلال مجريات ” الازمة الباردة ” بين البلدين ، فقد إستعملت الرباط ورقة أخرى للضغط على إسبانيا، هي ورقة الهجرة، بعد أن أدلى وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج ” ناصر بوريطة ” ، أن المغرب يرفض القيام بدور “دركي الهجرة” لحماية الحدود الأوروبية، معتبرا أن تدبير ملف الهجرة غير الشرعية هو مسؤولية دول المنشأ ودول الوصول، ولا ينبغي وضع ثقل الهجرة كله على بلدان العبور.

وبالرغم من أن تصريحات بوريطة هي رسالة تحمل في طياتها مطلب الرباط الى شركاءه الأوروبيين الذين تميل مقاربتهم إلى تحميل المغرب مسؤولية صد الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، إلا أن إسبانيا تلقفت الرسالة بشكل سريع وأعادت بعث رسالة مقابلة، إذ نشرت وزارة العمل والهجرة والضمان الاجتماعي الإسبانية، الثلاثاء الماضي، معطيات مهمة عن المهاجرين المغاربة بإسبانيا، وأنهم في صدارة ترتيب العمال الأجانب (من خارج التكتل الأوروبي)، وأن أكثر من 800 ألف مغربي يقيمون بشكل غير قانوني بها.

تفسير هذه الديناميات لا يمكن قراءته فقط من خلال الموقف من الصحراء، فقضية الصحراء بالنسبة إلى إسبانيا هي مجرد ورقة تتمسك بها للإبقاء على احتلالها لسبتة ومليلية والجزر الجعفرية، وهي تدرك أن الخطوة الثانية بعد إنهاء المغرب لملف الصحراء هو تحرير المدينتين، وأن معطيات التاريخ والجغرافيا والسياسة ومبادئ القانون الدولي كلها في صالح المغرب، وأنها لن تستطيع أن تصمد في مواجهة مطالب المغرب باسترجاع المدينتين، ولذلك تنظر لأي تقدم يحرزه المغرب في ملف وحدته الترابية بقليل من الود.

المغرب على الأقل في المرحلة الراهنة لا يطمح أن يفتح ملف المدينتين، فهو يدرك أنه لا يمكن فتح جبهتين في وقت واحد، لكنه، في الآن ذاته يدرك أن التحدي الذي سيواجهه لتحقيق طموحه بإنهاء ملف الصحراء، ليس هو الجزائر التي تعاني من أزمة اقتصادية وسياسية خانقة، وتوجد في وضع إقليمي ضعيف بسبب تغير الموقف الموريتاني، وميله للتنسيق مع المغرب، وإنما التحدي هو إسبانيا، التي تملك أوراق ضغط مهمة يمكن أن تستعملها ضد المغرب، للإبقاء على وضعها المحتل للمدينتين.

والحقيقة أن استراتيجية المغرب لإضعاف أوراق اعتماد إسبانيا لم تبدأ مع الإعلان الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه، وإنما بدأت مبكراً مع تربع الملك محمد السادس على العرش، وبلورته لاستراتيجية تنمية شمال المغرب، وبناء الميناء المتوسطي، الذي حاصر مدينة سبتة، وقضى بشكل نهائي على وضعها الاقتصادي والتجاري، لتساعده بعد ذلك جائحة كورونا في الإنهاء الكلي لتهريب السلع من المدينتين سبتة ومليلية إلى الداخل المغربي، حتى أصبحتا عبئاً ثقيلاً على الحكومة المركزية في مدريد.

لقد نجحت استراتيجية المغرب في خلق وإنضاج مبررات التخلي الإسباني عن المدينتين، ثم جاءت اللحظة التي يستعمل فيها هذه الورقة، ومعها أوراق أخرى أكثر قوة مثل ورقة الهجرة، حتى يدفع إسبانيا إلى أن تساند طموحه في إنهاء ملف الصحراء، أو على الأقل تبقى في الحياد ولا تضطر لمعاندة سياسته.

إسبانيا التي تفهم جيداً لغة المغرب وحساباته، توجد اليوم في وضع غير محسود عليه، لأنها من جهة تدرك أن دعمها لسياسة المغرب لإنهاء ملف النزاع حول الصحراء بالطريقة المغربية، يعني أنها تساعده في وضع الحبل على عنقها، حتى تتنازل له عن سبتة ومليلية، ولأنها من جهة ثانية لا تستطيع أن تتحمل خروج المغرب من دائرة المسؤولية في قضية الهجرة، لأن الخطر الذي تشعر به أوروبا برمتها تتحمله إسبانيا لوحدها، لأن الجغرافيا تحكم بأنها هي بلد الوصول الأول ضمن دول أوروبا.

من المستبعد جداً أن تظل لغة التوتر هي السائدة بين الطرفين، فالاتفاق الذي أبرم بين المغرب وأمريكا، وحجم الاستثمارات الأمريكية التي ستبذل في اتجاه إفريقيا عبر المغرب، يعني الكثير بالنسبة إليها، ويعني من بين ما يعنيه أن هذه النزاعات التي كانت تنتمي إلى زمن الحرب البادرة، تتجه السياسات الدولية اليوم إلى إنهائها نظراً لكلفتها وتأثيرها على استقرار المنطقة وعلى حركية التجارة بها، ولذلك ما ينتظر هو أن يعزف إيقاع واحد بين الطرفين، بعد أن يتم ضبط الميزان على أرضية مصالح مشتركة، توقن فيها إسبانيا أن المغرب لن يخرج ورقة المدينتين، ولن يكون جادا في استعمال ورقة الهجرة ضدها، وأنه لم يلجأ مرة أخرى إلى تغليب كفة فرنسا، وإضعاف شراكته لإسبانيا .

ومن المرجح أن الرباط ومدريد، أمامها وقت زمني جيد من أجل تعزيز العلاقات في كافة المجالات، بعد الطفرة النوعية والنجاح التي حققه البلدين في مواجهة ” الارهاب” وتنمية المبادلات التجارية بين البلدين، بل أن الدولتين أمامها أهم المشاريع في القرن الحالي، وهو مشروع ” الربط القاري” بين أوروبا وافريقيا، وتداعياته الاقتصادية ستكون كبيرة جدا، خصوصا أن مشروع ” طريق الحرير” للصين الشعبية يراهن على هذا المشروع التاريخي بين إسبانيا والمغرب، فلغة الاقتصاد أصبحت الاكثر واقعية للتقارب بين الحكومات والشعوب .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى