وداعا أيها الرجل العظيم

لقد تلقيت بحزن كبير خبر وفاة الحاج محمد الفيلالي رحمة الله عليه.
وبهذه المناسبة الأليمة، فإنني أصالة عن نفسي ونيابة عن باقي أسرتي، أقدم لافراد عائلاتكم، أصدق عبارات التعازي والمواساة القلبية، راجين من العلي القدير أن يلهمكم الصبر والسلوان في هذا المصاب الجلل ويشمل الفقيد بالمغفرة والرضوان ويسكنه فسيح جناته.
“وإنا لله وإنا إليه راجعون”.
” يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية وادخلي في عبادي وادخلي في جنتي”. صدق الله العظيم.

لا يمكنني ان أترحم عن الهالك دون التحدث عن شخصيته المتميزة ومشواره الحافل بالمعطيات والمنجزات. أبدأ باللحظات الأخيرة من حياته قبل الرجوع الى تاريخ حياته مند صغره وحسب ما أعرفه عنه شخصيا وحسب ما رواه بنفسه قيد حياته.
ذات يوم كنت في حاجة لمقطورة يجرها الجرار فطلبت من الحاج محمد الفلالي رحمه الله إن كان ممكنًا ان أستعملهما لنصف يوم أو يوم. قال لي : “لا داعي لطلب الإذن بل تصرف دون استشارتي”. ومرة أخرى وهي آخر مكالمة بيني وبينه طلب مني أن يسقي ضيعته المجاورة لضيغتي من ماء بئر تم حفره من طرفي. وقبل هذا بشهور زارني بمقر سكناي ” بتافرطا “حيث توضأ وصلى وأكلنا جميعًا خبزة فوقها كرة من الزبدة الطازجة وشربنا معها الشاي. يوما من الأيام اتصل بي هاتفيًا وحذرني من شخص ترعى غنمه وغنمي بداخل ضيعته المغروسة بشجر المشمش التي يزورها باستمرار. مرة أخرى اشتكى لي من الغنم التي لا تحترم حرمة ضيعته وكلما زارها وجد بها قطيعا من الغنم في ملكية أحد أهل القرية. أبوه المرحوم الحاج امحمد بلباسه التقليدي المعروف كان قدوة ومن أعيان ساكنة جرسيف ورائد على مستوى جل القطاعات. وكانت اكثر النزاعات والمشادات والتقاتل تحل على يده بفضل شخصيته المؤثرة والتي يحترمها حتى أصحاب السلطة ويمتثل اليها حتى من طرف أو خلف المعتدى عليه بالضرب أو القتل. نجد في أبيه الحاكم والحكيم والقاضي والمحامي والمرشد والمساعد والسند الذي لا استغناء عنه إطلاقًا.
صداقته لا مثيل لها بينه وبين المرحوم القايد زكاغ.كان رجل الكرم والمساعدة وداره كالزاوية يلج إليها كل شخص دون استثناء كضيف أو كطالب المساعدة أو المساندة والنجدة. كان يطفي رحمه الله كل نار تشب هنا وهناك بين القبائل وبين الناس واحترام أهل السلطة له استمر طول حياته. فلما مات سار الابن محمد رحمه الله على منوال أبيه الذي أحسن تربيته وإخوانه وأخواته دون استثناء.

وألخص حياة هذا الرجل كما يلي:

-على المستوى الثقافي:

كان رحمه الله من حفظة القرآن الكريم بجرسيف في عصر كان فيه أغلب الناس رحلا بدوا لهم خيام وأغنام وإبل. وبعد ذلك انتقل الى فاس الى مسجد القرويين المكسو بالحصائر يسمى بالبيت المظلم من طرف الفرنسيين خشية من تلقينهم مبادئ الوطنية والوعي ومعارضة المعمرين الذين استولوا على تراب المملكة الشريفة. توظف الرجل بالحراسة العامة في التعليم سنة 1960. لكن سرعان ما غير مسار حياته لانه كان يفضل المهن الحرة فساعده ابوه الحاج أمحمد رحمه الله الذي لقنه كيفية النجاح في القطاع الفلاحي لان الحاج أمحمد كان من رواد الفلاحة التقليدية والعصرية. فهو أول من غرس شجرة الزيتون بنواحي جرسيف. وأتذكر عصارة الزيتون التقليدية التي دخلت اليها وهي مظلمة وبداخلها بغلة تقوم بالدوران لحجرة كبيرة الحجم تكسر الحبوب وتعصرها حتى يخرج منها زيت طازج لذيذ منعش وصحي.

-على المستوى السياسي:

انخرط في المجلس البلدي لمدينة جرسيف وكان برلمانيًا في فترة عرف المغرب خلالها محاولات انقلاب على النظام الملكي( سنة 1971).خالط المقاومين المرموقين المعارضين المتشددين للإحتلال الفرنسي ويتذكر سي مبارك ادراوي القاضي بجرسيف المحنك والذي كان اقوى من علماء فاس آنذاك.ولن ينسى الزعيم علال بن عبد الله ولد قبيلة حموسة بجرسيف.
شخصيته قوية اذ واجه بها رجال السلطة والقضاء من البطش والشطط في استعمال السلطة، مما تسبب له دخول السجن لفترة قصيرة.
وما لا يعرفه البعض هو ان هذا الرجل رحمه الله قد أنقذني وأخي محمد القاضي حاليا مما لا تحمد عقباه لما كان برلمانيًا وكانت الأوضاع السياسية في المغرب تعرف محاولات انقلاب عسكري على الملكية الشريفة سنتا 1970 و 1971. مات من كان على وشك أن يورطنا في ما حدث للمغرب
ظلما وعدوانا خلال تلك الفترة المرعبة بوشاية كاذبة كادت ان تعصف بنا لولا الدفاع القوي عنا من طرف البرلماني والذي أتى أكله واستجاب له رئيس الدائرة الترابية لمدينة جرسيف آنذاك. فأخلي سبيلنا وعانقنا الحرية بكل سعادة وفرحة لا مثيل لهما.

-على المستوى الاجتماعي:

بفضل عمله الشاق وحنكته وحبه للتراب نجح في تبوؤ مرتبة اجتماعية جد محترمة. الضيعات التي أصبحت في ملكيته مكنته من العيش الرغيد وجعلته من أعيان البلد عن جدارة واستحقاق. فتخلى عن السياسة تاركًا المجال لأخيه عبد النبي الذي ترك بصمته في عالم السياسة وحقق الكثير من الإنجازات على كل المستويات.

-على المستوى الفلاحي:

كان رحمه الله يحب الفلاحة ويشرف بنفسه على كل كبيرة وصغيرة ولن تحلو له الحياة والسعادة الا وهو داخل أراضيه الفلاحية يخالط الخماس والأجير والحارس والجار فيشرب معهم الشاي ويأكل ما يقدم اليهم بكل تواضع. يعرف أي شخص ينتمي للقرية والناس جميعًا يعرفونه. إنه فلاح يحب الفلاحة حتى النخاع ولن يتوقف قط عن نشاطه الفلاحي الى ان وافته المنية.

-على المستوى الإنساني:

كان رحمه الله يؤازر من أصابته مصيبة. يساعد ماديا ومعنويا المساكين والفقراء ويتواضع الى مستواهم. فبمناسبة الأفراح او التعازي خصاله النادرة تجعل منه واخوانه مرجعًا في الحضور القوي وفي التآزر لكل شخص مات كان ميسورا او فقيرا. أشهد على ان علاقته بعائلة المرحوم ابي الحاج البرنوصي لا مثيل لها منذ عقود خلت. وهي في الحقيقة امتداد لروابط المحبة وحسن الجوار والتعايش بين القبائل والأفراد التي كان بطلها الحاج امحمد رحمه الله. اشهد ان أقرب الناس الى عائلة الفيلالي منها عائلة واحدة هي أسرة الحاج البرنوصي الذي كان لها مخلصا مساعدا مشاركا متقاسما رزقه ينمو رويدًا رويدًا بفضل حكمة وتبصر وخبرة ونصائح الحاج امحمد رحمه الله. واشهد كذلك ان اخي المرحوم حماد قد نجح الى حد كبير في حياته وطقوسه الفلاحية بفضل اختلاطه ومشاركته مع الحاج محمد الفيلالي في المحصولات الزراعية والأغراس والأشجار والأراضي الفلاحية مما يبين ان العلاقة بين الشخصين كانت متينة جدا ومبنية على التقة والمودة والإخلاص.

-على المستوى الاخلاقي:

لن تتغير شخصيته المتواضعة رغم نجاحه في كل قطاع مر به بل بقي كما هو. لا ينفعل الا نادرًا. ويسمح في حقه ان كان أمام متعنت او خفيف الأخلاق. يدافع باستماتة عل كل حق مشروع، له غيرة على مدينته وعلى القطاع الفلاحي بالخصوص. لا يحسد أحدًا ولا ينافقه ولا يكذب عليه. كلما اتيحت له الفرصة وفي كل المنابر ترى الرجل بطالب بتحسين المعيشة والمردودية لساكنة جرسيف والقضاء على الفقر والتهميش وإيجاد فرص الشغل للحد من البطالة.

-على المستوى العائلي:

كان رحمه الله بحكم سنه أكبر إخوته وأخواته هو من يستشار هو من يجمع بينهم.هو من يؤخذ برأيه في غالب الأحيان ولو كان له تخصص في الميدان الفلاحي. تناغم كبير بينهم والتفاف حول بعضهم البعض جعلهم كتلة واحدة بل قوة واجبة الاحترام والتقدير والتشريف لانها تحترم نفسها قبل ان يحترمها الغير. أنجب المرحوم ذريةً صالحة ناجحة بتربية
أصيلة ومؤصلة. والحمد لله ستواصل هذا الذرية العمل الدؤوب على نهج المرحوم الحاج محمد الفيلالي بل ستكون أحسن خلف لأحسن سلف.

-على المستوى الديني:

زار الديار المقدسة عدة مرات كمعمر وكحاج. حافظ دومًا على الطقوس الدينية من أعياد ومواسيم وزيارات وله وجود مستمر بالمساجد خلال الصلوات.

على المستوى الرياضي:

كان رئيسا لنادي كرة القدم وكان يتعاطى لهواية القنص. في هذا السياق كانت لي معه ومع أخي لخضر وأخي بوجمعة عدة خرجات ونزهات صيد الطرائد في جو من المرح والضحك والنكث. وأتذكر جولة قنص بمنطقة الظهرة لثلاثة أيام كانت كلها محطة ترحاب وضيافة رائعة قدمت لنا خلالها مأكولات رفيعة كالمشوي والأرانب والقطا والحبار وغيرها بمعية الطبيب عبد القادر وسي احمد وآخرين.

-على المستوى السياحي:

زار عدة دول وكانت أغلب زياراته داخل أرض الوطن وخارجها تروم المعارض الفلاحية للاطلاع على مستجدات وتقنيات الفلاحة العصرية. فسرعان ما يرجع لوكره الذي يحبه وألفه وترعرع في احضانه.

هذا باختصار شديد مسار الحاج محمد الفيلالي الذي باغته الموت مؤخرا ولن بترك له الوقت كي يودعنا ويودع الدنيا. فالموت يباغت ولا يفرق بين الصغير والكبير ، بين المريض والسليم. حقا الأسباب تختلف والموت واحد. ولا أحد من بني آدم يعرف متى وكيف يموت كما قال الشاعر:

…رَأَيْتُ المَنايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ،
تُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِئْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ.

– وَأَعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ
وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ.

– وَمَنْ هابَ أَسْبابَ المَنايَا يَنَلْنَهُ وَإِنْ يَرْقَ أَسْبابَ السَّماءِ بِسُلَّمِ…

وقال شاعر آخر:

…لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ
فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأيامُ كما شاهدتها دُولٌ
مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ
وهذه الدار لا تُبقي على أحد
ولا يدوم على حالٍ لها شان…

من مبارك السباغي ابن قبيلتكم وقبيلتي هوارة أولاد رحو جرسيف والقريب من عائلتكم عائلة آل الفيلالي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى