الرأي العام ومنهجية استقطاب الجمهور الإعلامي

*بحث للدكتورة لطيفة نفيل باحثة متخصصة في التواصل والإعلام

إن الاهتمام بموضوع صناعة الرأي العام، يرتبط إلزاما بالدور الريادي الذي تلعبه هذه الصناعة في رسم وتعديل الأوضاع الأساسية، من التي تهم المجتمع كالسياسية، والأوضاع الاجتماعية، والدينية، والثقافية، والصحية، وغيرها من المجالات الحيوية، حيث يتم توجيه المجتمع نحو قضية ما من القضايا الداخلية، أو الخارجية، التي تؤثر فيه سلبا أو إيجابا، وتجعله يتحرك نحو مواجهة هذه القضية قبولا أو رفضا.

إن توحد الرأي العام تجاه قضية معينة ينبثق من درجة التفاعل الشعبي معها، وعمق ذلك التفاعل، ودرجة التماسك الاجتماعي، وتجانس المصالح تجاه تلك القضية، وفاعلية وحيوية قنوات الاتصال بين الرأي العام، ووسائل التأثر والاتصال الجماهيري.
إن مفهوم الاتصال الجماهيري يتمثل في مجموع الوسائل التقنية، والمادية، والإخبارية، والفنية، والأدبية، والعلمية، المؤدية للاتصال الجماعي بالناس بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك ضمن إطار العلمية التثقيفية، والإرشادية، والتوجيهية للمجتمع، لذلك يقوم الاتصال الجماهيري على تنظيم التفاعل بين الناس، وتكريس تجاوبهم وتعاطفهم في الآراء، والمواقف والسلوكات، الشيء الذي يجعل منه ظاهرة خطيرة، وقوة لا يمكن مقاومتها، أو الاستغناء عنها، سواء لدى الحكومات، أو حتى الشعوب.
اكتسبت وسائل الاتصال الجماهيري أهمية كبيرة، وخصوصا الوسائل الإلكترونية، باعتبارها قنوات أساسية للمعلومات، والأخبار، والترفيه، حيث أصبحت برامج التلفزيون على سبيل المثال تعكس قيم المجتمع، وثقافته، (1) وأساليب حياة أفراده، لذلك يمكن اعتبار وسائل الاتصال الجماهيري نافذة نرى من خلالها أنفسنا، والعالم الذي يحيط بنا.
تجدر الإشارة إلى أن النصف الثاني من القرن العشرين، شهد تقنيات اتصال جماهيري تضاءلت أمامها كل الجهود التي تحققت في قرون متعددة سابقة، ولعل أبرز مظهر لتكنولوجيا الاتصال الجماهيري، هو ذلك الاندماج الذي حدث بين ظاهرتي تفجر المعلومات، وثورة الاتصال من خلال استخدام الحواسيب الإلكترونية في تخزين، (2) واسترجاع خلاصة ما أنتجه الفكر البشري، بغض النظر عن المسافة المكانية أو الوقت الزمني، وذلك بفضل استخدام الأقمار الاصطناعية لنقل الأنباء، والبيانات، والصور عبر الدول والقارات بطرق فورية.(3).
ارتبط مفهوم الاتصال الجماهيري بمفهوم الدعاية السياسية ارتباطا وثيقا، وذلك انطلاقا من كون الاستراتيجية التواصلية للدعاية السياسية، تتأسس على الرغبة القوية في إقناع الجماهير بأطروحة رجل السياسة أو المؤسسة السياسية، وتزكيتها سواء بالاعتقاد، أو بالفعل، أو برد الفعل.

لهذا، يجب اختيار الألفاظ والرموز، ومعرفة استثمارها لتحقيق نوع من الانسجام، والتلاؤم بين الهوية والمضمون الإيديولوجي للمؤسسة السياسية، وذلك على أساس أن الهوية السياسية للدولة أو أي مؤسسة سياسية أخرى مثلا، لا يمكن فصلها عن الهوية المعرفية، والفكرية، والحضارية، وهي ذات الهوية التي تستمد منها الدولة تصورها الخاص للقضايا المجتمعية المتنوعة، وتنطلق منها لقراءة الواقع وصياغة تصوراته وبرامجه.

على رغم سمة الحداثة التي يتميز بها هذا الموضوع، يمكن القول إن مفهوم الدعاية السياسية، لا يعتبر مفهوما جديدا لأن له جذورا تاريخية موغلة في القدم تعود إلى أرسطو، وما جاء به من أفكار في كتاباته الخطابية والسياسية، غير أن هذه الدعاية باعتبارها تواصلا سياسيا، ومجالا أكاديميا له أسسه، ومنطلقاته العلمية، والمعرفية الخاصة، وله أنظمته وأنشطته المتعددة تعد ظاهرة حديثة، ظهرت على يد “جوزيف جوبلز” وزير الإعلام في عهد هتلر، ومؤسس فن الدعاية السياسية، بالشكل الذي ساهم بقوة في ترويج الفكر النازي، وساق في ركابه عشرات الملايين من الألمان، ورغم العداء الغربي للنازية ، إلا أن جوبلز يعد مؤسس مدرسة إعلامية، يحتشد ضمن صفوفها كبار صناع القرار في الإدارة الأميركية الحالية، كما ظهر هذا المفهوم سنة 1956 في كتاب “السلوك السياسي” الذي تحدث فيه صاحبه عن مظاهر تبادل التأثيرات بين الحكومات والمواطنين، وعرف في إطاره التواصل السياسي باعتباره بثا لمجموعة من المراسلات المؤثرة، التي تستهدف مظاهر توزيع أو استخدام السلطة داخل المجتمع(4).

يفهم من هذا أن الدعاية السياسية تعتمد خطابات لغوية موجهة إلى الجماهير لإقناعهم، وتعديل سلوكاتهم وأفكارهم بخصوص موضوعات تهم الدولة، أو المؤسسة السياسية، وتوجهاتها السياسية من خلال توظيف أساليب، وطرق بلاغية، وتداولية، وتواصلية لخلق معاني ودلالات تحيل على ظروف مقامية، ومعرفية، وعقلية، ونفسية، واجتماعية، كما تتوسل بتقنيات لسانية وبصرية ومنطقية للوصول إلى الأهداف المنشودة(5).
تجدر الإشارة وفي ذات السياق، إلى أنه ليس ثمة فروقا جوهرية بين الإشهار التجاري والدعاية السياسية، مادامت الوسائل الموظفة فيهما تعتمد على التقنيات والآليات ذاتها، وماداما معا يهدفان إلى توليد سلوكات وردود أفعال لدى المتلقي من خلال بذل كل المجهودات المتاحة.
يمكن القول إن هناك فروقا بين الدعايتين، تتمثل في الفعل المستهدف تحقيقه، حيث يأخذ في الدعاية التجارية بعدا شرائيا بينما يأخذ في الدعاية السياسية بعدا سياسيا، يعتمد بالأساس على مفهومي التأثير والإقناع من خلال استخدام الأفكار النمطية، الشيء الذي يؤدي إلى توليد أو تكريس تصرفات معينة لدى الأفراد والجماعات من خلال إشاعة بعض الأحكام والقيم والأفكار التي تتبناها الدولة أو الجهة السياسية القائمة بالدعاية.

إن الدعاية السياسية تعتبر أكثر تعقيدا من الدعاية التجارية، فإن كانت هذه الأخيرة تقنن وتحدد أهدافها وحاجياتها الموجودة، فإن الدعاية السياسية تدخل ميدان الصراع، وتجد نفسها مجبرة على القيام بعملية الاختيار، والالتقاء بين الحاجات الملحة، والعمل على مصاحبة حاجات أخرى، لدى فئة من المجموعة البشرية المستهدفة بالدعاية، كما تتميز الدعاية السياسية بكون الحاجات التي تراهن عليها تعتبر أقل تحديدا، ومن ثمة فإن استقطاب الناخبين للتصويت على حزب معين، رهين بإقناعهم بقدرته على حل مشاكلهم وتحقيق آمالهم(6).
أما صناعة الرأي العام فتعد من الصناعات الأكثر قدرة على توحيد الصفوف، وخلق رؤيا موحدة تخدم جهة سياسية معينة، حيث يشكل الرأي العام حكما عقليا يصدر عن جمهور تربطه مصالح مشتركة، وشعور بالانتماء إزاء موقف من المواقف، أو تصرف من التصرفات، بما يثير جدلا عقليا يكون حصيلة نقاش حر بين قوى محافظة وأخرى مجددة، وبذلك يكون الرأي العام حينئذ هو رأي تعبر عنه الأغلبية تجاه قضايا معينة، بعد أن تخوض فيه النخب، وطلائع المجتمع، ووسائل الإعلام والدعاية بشكل حر يعكس مناخا ديمقراطيا وتعدديا في العملية الحوارية.
إذا كان الرأي العام يفترض رأيا تعبر عنه الأغلبية في ظل مناخات الحرية الحقيقية إلا أن كينونته، تبرز أهمية إشراك الرأي العام في العملية التواصلية الإعلامية الهادفة إلى التحفيز على المشاركة المكثفة في مسلسل التنمية العامة، من خلال تكوين وتوجيه الرأي العام الذي يخلق الوعي لدى المجتمع بالأفكار التقدمية، أو الرجعية، بحسب اديولوجية المخاطب المرسل، وقدرة المتلقي على الاستيعاب، وهنا نعود إلى الدور الكبير الذي يلعبه الإعلام والاتصال في التأثير الكبير على الشرائح المستهدفة، بهدف تكوين وتوجيه وتأطير الرأي العام (7).
يمكن القول إن الإتصال الجماهيري بالقوة التي منحته إياها تطورات التكنولوجية والاتصالات في الثورة المعلوماتية، يسهم بقوة في تشكيل المواقف، وصنع السياسات، وتوجيه صناع القرار، وتكوين الرأي العام، وقد كان للثورة الهائلة في وسائل الاتصال في عصر التكنولوجية الراقية، والمعلومات، والتفجير الرقمي دور هام في تنوير المفاهيم التي كانت سائدة في الماضي، والتي لا ترى في الإعلام إلا مجرد أداة نقل وتفسير للثورات والسياسات العامة.
لا يخفى على أحد مدى أهمية الدعاية السياسية، في وقت وصلت فيه التكنولوجيا فورة لم يسبق لها مثيل، ومن هنا نرى أن الإعلام والاتصال بوسائله المتعددة من صحافة، وإذاعة، وتلفزيون، يؤثر تأثيراً كبيراً في تكوين وتوجيه الرأي العام، فهو الذي يخلق الوعي لدى المجتمع.
الرأي العام في الأصل مصطلح غربي تم استخدامه من قبل الأنظمة السياسية الغربية “الديمقراطية”، من التي كان لديها ولع كبير بالحديث عن الرأي العام لتؤكد أن حكوماتها تعبر بحق عن رأي الناس لاعن رأيها هي.(8).

وصف “العام” يعني أنه يقوم على أساس قضية معينة، تخضع للنقاش العقلاني، في حين أن مفهوم الحشد الجماهيري يتميز بوحدة التجربة الوجدانية، لكنها قد تكون ظرفية وعشوائية، أو تكون من جهة أخرى موجهة، وغير حرة، أو عقلانية، كما في نماذج “التعبئة السياسية” في النظم السياسية السلطوية.

يصبح السؤال في هذه الحالة متمحورا حول كيفية ضمان استقلال الرأي العام عبر عملية تشكل مدنية ترتبط بنمو الحركات الاجتماعية وفاعليتها، وعبر توظيف ما تقدمه ثورة الاتصالات، والمعلوماتية والاستفادة منها، في فهم ما يجري في السياسات العالمية، وأيضا استكشاف كيف يمكن أن تفلح دولة ما في خلق نوع من “الحشد الجماهيري” لتأييد العمل

العسكري في السياسة الخارجية، كأسلوب للتعامل مع الأزمات، ولزيادة التأييد السياسي، وزيادة فرص الفوز في الانتخابات، هذا على الرغم هذه الإمكانيات الاتصالية الهامة لهذه الدول، في حين يتسم النظام السياسي بالليبرالية، وهي من تحديات فهم كيفية تطور وتشكل الرأي العام بشكل معقد ومركب.(9).

تتعدد التعريفات بتعدد الباحثين والدارسين لظاهرة الرأي العام، ويمكننا إيراد أربع تعريفات منها تعود لباحثين غربيين وتعريفيين لباحثين عربيين:
– يقول “جيمس برايس”: “الرأي العام هو اصطلاح يستخدم للتعبير عن مجموع الآراء، التي يدين بها الناس إزاء المسائل التي تؤثر في مصالحهم العامة والخاصة”.
– يعرفه “ليونارد توب”: “الرأي العام يشير إلى اتجاهات، وأفكار الناس حول
موضوع ما، حينما يكونون أعضاء في نفس الجماعة الاجتماعية”.
– يقول فلويد البورت: “إن الرأي العام تعبير صادر عن مجموعة كبيرة من الناس عما يرونه في مسألة ما، إما من تلقاء أنفسهم أو بناء على دعوة توجه إليهم تعبيرا مؤيدا، أو معارضا لحالة معينة، أو شخص معين، أو اقتراح ذي أهمية جماهيرية، بحيث تكون نسبتهم في العدد من الكثرة، والاستمرار كافية للتأثير على أفعالهم بطريقة مباشرة تجاه الموضوع محل الرأي”.
– أما “جيمس يانج” فيعرفه على الشكل التالي: “الرأي العام هو الحكم الاجتماعي، الذي يعبر عن مجتمع واع بذاته، وذلك بالنسبة لمسألة عامة لها أهميتها، على أن يتم الوصول إلى هذا الحكم الاجتماعي عن طريق مناقشة عامة أساسها العقل والمنطق، وأن يكون لهذا الحكم من الشدة والعمق ما يكفل تأثيره على السياسة العامة”.(10).
لقد عرف “ماكينون” الرأي العام بأنه رأي في موضوع ما، يضمره أشخاص متميزون بالذكاء، وحسن الخلق، ينتشر في المجتمع تدريجيا بين الناس على اختلاف مستوياتهم التعليمية، أما “جيمس براون” فقد لامس بعدا آخر في تعريفه له في كتابه الديمقراطيات الحديثة، حيث رأى فيه اصطلاحا يستخدم للتعبير عن مجموع الآراء التي يدين بها الناس إزاء مسائل تؤثر في مصالحهم العامة.(11).

تناولت المؤلفات العربية ظاهرة الرأي العام، بالنسبة للفكر العربي، من خلال تعريفات متعددة، منها تعريف الدكتور إسماعيل علي مسعد، الذي قال: “الرأي العام هو حصيلة أفكار، ومعتقدات، ومواقف الأفراد والجماعات، إزاء شأن من شؤون تمس النسق الاجتماعي، كأفراد أو منظمات ونظم، والتي يمكن أن يؤثر في تشكيلها من خلال عمليات الاتصال، التي قد تؤثر نسبيا أو كليا في مجريات أمور الجماعة الإنسانية، على النطاق المحلي أو الدولي”، أما المختار التهامي فيعرفه بأنه “الرأي السائد بين أغلبية الشعب الواعي في فترة معينة، بالنسبة لقضية أو أكثر يحتدم فيها الجدل والنقاش، وتمس مصالح هذه الأغلبية أو قيمها الأساسية مسا مباشرا “.(12).
يعرف الدكتور “إسماعيل علي سعد” الرأي العام بأنه “حصيلة أفكار ومعتقدات ومواقف الأفراد والجماعات، إزاء شأن من الشؤون التي تمس النسق الاجتماعي كأفراد أو منظمات ونظم، والتي يمكن أن يؤثر في تشكيلها، من خلال عمليات الاتصال، التي قد تؤثر نسبياً، أو كلياً في مجريات أمور الجماعة الإنسانية، على النطاق المحلي، أو الدولي”.
استقراء للواقع الراهن، يمكن النظر لدراسات الرأي العام من زاويتين، الأولى تسير في اتجاه عودة الاهتمام والتركيز مجددا على الأبعاد السياسية، والفلسفية في دراسات الرأي العام، خاصة تلك المتعلقة بمراحل العملية السياسية من قبيل “المشاركة، والتصويت، وعلاقة السلطة الحاكمة بالرأي العام”.

لقد راجعت هذه الدراسات التفرقة بين خصائص الرأي العام في البلدان المتقدمة وبلدان العالم الثالث، وذلك في إطار مراجعة وإعادة النظر في مقولات عصر التنوير، وذلك فيما يخص عقلانية ورجاحة الرأي العام، والاهتمام بخصائص من قبيل، طغيان الأغلبية، القابلية للاستهواء، وسيطرة النخبة، والثانية تسير في اتجاه تزايد إسهامات علماء السياسة، وعلم النفس والاجتماع خاصة، وذلك على الرغم من أن هذه العلوم كانت لها إسهاماتها الواضحة في بناء نظرية الرأي العام، خلال النصف الأخير من القرن العشرين.(13).

لذلك فدراسات الرأي العام عادت إلى بؤرة اهتمامات هذه العلوم مرة أخرى، وبالتالي أصبحت ظاهرة الرأي العام تستلزم الاستعانة بالعلوم الإنسانية، التي لن تستطيع بدورها تفسير العديد من الظواهر، التي تتناولها دون الرجوع إلى عملية الرأي العام ذاتها.

يمكن فهم “الرأي العام” كمفهوم اجتماعي يعبر عن تشكل اتجاهات التفكير، واتخاذ المواقف والتعبير، وأيضا كمفهوم سياسي يعكس علاقة المجتمع بالدولة، من خلال حصيلة عدد من الباحثين في هذا المجال من الذين تناولوا موضوع الرأي العام من خلال مقاربتين، الأولى تميز مفهوم “الرأي العام” عن المفاهيم المشابهة له، والمتداخلة معه، كالميول السياسية، والاتجاه السياسي، الموقف السياسي، الحكم السياسي، الحشد العام، وكذا بالتمييز بين “الرأي العام” و”الاتجاهات” أو “الميول” و”الفعل السياسي” أو “السلوك”، و”الأحكام”.(14) .
يختلف الرأي العام عن الاتجاه والميل، فحين يكون الأول معلنا ومعبرا عنه، نجد أن الثاني استجابة داخلية مبكرة، فالرأي دليل على وجود الاتجاه أو الميل، لكن العكس ليس حتميا، فالميل لا يشترط أن يتحول إلى رأي يتم الإفصاح عنه، فما يميز الرأي العام عن الرأي الشخصي هو درجة العمق والاستقرار، والتراكم الجمعي، ثم العلانية.

الرأي العام تعبير عن آراء حجم كبير من الأفراد إزاء موقف معين، إما من تلقاء أنفسهم أو بناء على دعوة توجه لهم، تعبيرا مؤيدا أو معارضا لمسألة، أو شخص معين، أو اقتراح ذي أهمية واسعة، بحيث تكون نسبة المؤيدين أو “المعارضين” في عدد ودرجة اقتناعهم، وثباتهم واستمرارهم، كافية لاحتمال ممارسة التأثير على اتخاذ إجراء معين، بطريق مباشر أو غير مباشر، اتجاه الموضوع الذي هم يصدده.(15).
معلوم أن عددا من الباحثين عمدوا إلى توضيح مفهوم “الرأي العام” من خلال تفكيك معنى كلمتي “الرأي” و “العام” المكونة لمصطلح الرأي العام، ولئن اختلف الفلاسفة والمفكرون آنذاك في التعبير عن ألفاظه، إلا أن مصطلحات شبيهة ظلت حاملة لمضمونه ومعانيه، أحدثت إجماعا رغم تعدد المصطلحات المعبرة عنه، كظاهرة شغلت أكثر من علم واختصاص إنساني، علما أن النفوذ الذي يتمتع به الرأي العام حظي باهتمام الساسة والفلاسفة والمفكرين.(16).
عرف “ماكينون” الرأي العام بكونه رأي في موضوع ما يضمره أشخاص متميزون بالذكاء وحسن الخلق، فينتشر في المجتمع تدريجيا بين الناس على اختلاف مستوياتهم التعليمية، أما “جيمس براون” فقد لامس بعدا آخر في تعريفه له في كتابه الديمقراطيات الحديثة، حيث رأى فيه اصطلاحا يستخدم للتعبير عن مجموع الآراء التي يدين بها الناس إزاء مسائل تؤثر في مصالحهم العامة. (17).
إن تعدد توجهات المفكرين والعلماء في التعبير عن مكنون هذه الظاهرة الإنسانية، لا ينفي أن المجمع عليه هو أن الرأي العام يشكل حكما عقليا يصدر عن جمهور تربطه مصالح مشتركة، وشعور بالانتماء إزاء موقف من المواقف، أو تصرف من التصرفات، بما يثير جدلا عقليا يكون حصيلة نقاش حر بين قوى محافظة وأخرى مجددة، فالرأي العام حينئذ هو رأي تعبر عنه الأغلبية تجاه قضايا معينة، بعد أن تخوض فيه النخب وطلائع المجتمع ووسائل الإعلام بشكل حر، بحيث يعكس مناخا ديمقراطيا وتعدديا في العملية الحوارية.

الرأي العام إذا كان يفترض رأيا تعبر عنه الأغلبية، وتجنح إليه في ظل مناخات الحرية الحقيقية، إلا أن كينونته ووجوده لا يلغيان أبدا حقيقة آراء تعبر عنها الأقليات، ولكن قد تحملها الظروف السياسية والاجتماعية على أن تصبح رأيا للأغلبية.(18).

يمكن فهم “الرأي العام” كمفهوم اجتماعي يعبر عن تشكل اتجاهات التفكير واتخاذ المواقف والتعبير، وأيضا كمفهوم سياسي يعكس علاقة المجتمع والدولة من خلال مقاربتين، الأولى تميز مفهوم “الرأي العام” عن المفاهيم المقاربة والمشابهة والمتداخلة مثل، الميول السياسية، والاتجاه السياسي، الموقف السياسي، الحكم السياسي، الحشد العام، وبالتمييز بين “الرأي العام”، و”الاتجاهات أو الميول”، و”الفعل السياسي”، أو السلوك والأحكام، فالرأي العام يختلف عن الاتجاه والميل، وحين يكون الأول معلنا ومعبرا عنه، نجد أن الثاني استجابة داخلية مبكرة.(19).

لذلك فالرأي دليل على وجود الاتجاه أو الميل، ولكن العكس ليس حتميا، فالميل لا يشترط أن يتحول إلى رأي يتم الإفصاح عنه، فما يتميز الرأي العام عن الرأي الشخصي بدرجة العمق والاستقرار، والتراكم الجمعي، ثم العلانية.
وصف “العام” يعني أنه يقوم على أساس قضية معينة تخضع للنقاش العقلاني، في حين أن مفهوم الحشد الجماهيري يتميز بوحدة التجربة الوجدانية، لكنها قد تكون ظرفية وعشوائية، أو تكون موجهة وغير حرة أو عقلانية، كما في نماذج “التعبئة السياسية” في النظم السياسية السلطوية، ويصبح السؤال يتمحور حول كيفية ضمان استقلال الرأي العام، عبر عملية تشكل مدنية ترتبط بنمو الحركات الاجتماعية وفاعليتها، وعبر توظيف ما تقدمه ثورة الاتصالات والمعلوماتية، والاستفادة منها في فهم ما يجري في السياسات العالمية.
إن استكشاف كيف يمكن أمام كل الإمكانات الاتصالية أن تفلح دولة ما في خلق نوع من “الحشد الجماهيري” لتأييد العمل العسكري في السياسة الخارجية كأسلوب للتعامل مع الأزمات، ولزيادة التأييد السياسي، وزيادة فرص الفوز في الانتخابات، يظهر جليا حينما يتسم النظام السياسي بالليبرالية، وهو الأمر الذي يعد من تحديات فهم كيفية تطور وتشكل الرأي العام بشكل معقد ومركب.
يمكن القول هنا إن المعايير التي يمكن من خلالها التمييز بين “العام” و”الخاص” قد غدت أكثر غموضا وهلامية، وأن هناك اتجاها متزايدا نحو “تعميم” الخاص النابع من الحضارة السائدة والمهيمنة، بحيث يكون عاما لجميع الثقافات والمجتمعات الأخرى المتميزة عنها، والمختلفة معها، ويتزامن هذا مع تفكك العمومية، وتشرذم الجماهير لتنوع قنوات الاتصال وتعددها واختلافها، والثاني يسير في إطار كشف العناصر والمكونات الداخلية فيه، فالوحدة التحليلية هي “الأغلبية”، بوصفها المجموع العددي أو الرقمي للأفراد المكونين لهذه الأغلبية التي يمكن قياسها، والتي تمارس الحكم باسم هذه الأغلبية.(20).
هناك تقسيمات داخلية للظاهرة على أساس معايير اجتماعية، واقتصادية، ومتغيرات مثل الريف والحضر، وأيضا حسب الفئات العمرية، وفي إطار هذا التركيب، هناك مفهوم “قادة الرأي العام”، بوصفه إطارا تحليليا متسعا يشمل أولئك الذين في مقدرتهم التأثير في آراء الآخرين، أو تغيير رؤيتهم للقضايا المختلفة، باعتبارها عملية تتكون من عدة مراحل متواصلة، يكمل بعضها البعض الآخر، بحيث تنطلق من المشكلة إلى الاقتراحات، ومن ثمة لإيجاد الحلول، وهي مراحل تتطور من “الرأي”، وتصل إلى القرار السياسي، الذي هو محط اهتمام التحليلات السياسية، باعتباره أرقى أشكال التعبير السياسي الجماهيري.(21).
إن أهم ما يميز الرأي، هو مجموعة من الخصائص، التي من شأنها أن تحكم جوهره، باعتباره جزء من منظومة متكاملة، تبدأ بالمعلومات، وتنتهي بالسلوك، بحيث يشمل “المعلومات والآراء والاتجاهات والقيم والمعتقدات والسلوك”.
يوجد تداخل بين هذه المسميات المختلفة إذا ما تم البحث عن المعنى الدقيق لكلمة الرأي، الذي نقصده في مصطلح الرأي العام، والذي يقصد به عمل من أعمال الإرادة، كما يتميز بارتباطه بالوعي، لأنه أكثر من مجرد انطباع لا يصل إلى مرحلة اليقين، أو الحقيقة الشاملة.
لقد أطلق العالم الأمريكي “ليوكومب” في كتابه علم النفس الاجتماعي، مصطلح “الاتجاهات الجماعية” على الرأي العام، وعلى الرغم من أننا غالبا ما نجد في الرأي علامة في الاتجاه، والرأي العام من غير اتجاه، حيث يتوفر الاستعداد النفسي للاستجابة لسلوك معين، تجاه موقف معين لم يتحدد بعد، شريطة أن يكون ظاهراً، إلا أن هذا الاتجاه له تأثير توجيهي على استجابة الفرد لجميع الموضوعات والمواقف التي تستثيره. (22).
ينقسم الرأي إلى رأي شخصي ورأي خاص، فالرأي الشخصي فهو ذلك الرأي الذي يكونه الفرد لنفسه في موضوع معين، بعد تفكير فيه والمجاهرة به دون أن يخشى شيئاً، أما الرأي الخاص فهو ذاك الجزء من الرأي الشخصي الذي لا يجاهر به الشخص أمام الناس، ولكنه يحتفظ به لنفسه خشية أن يعرض نفسه للخطر، وتظهر أهميته في الانتخابات والاقتراعات السرية.
تشير كلمة “عام”، إلى المسائل والمصالح المشتركة، والشؤون التي يشترك في الاهتمام بها كل أو أغلب الأعضاء البالغين في جماعة أو أمة، وتعرف الموسوعة الفلسفية الرأي العام بأنه “مجموع معين من الأفكار والمفاهيم التي تعبر عن مواقف مجموعة، أو عدة مجموعات اجتماعية إزاء أحداث، أو ظواهر من الحياة الاجتماعية، أو نشاط الطبقات والأفراد”.
يعرفه قاموس” وبستر” الرأي العام بأنه “الرأي المشترك خصوصاً عندما يظهر أنه رأي العامة من الناس”، كما يعرفه معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، بأنه “هو وجهات النظر والشعور السائد بين جمهور معين، في وقت معين إزاء موقف أو مشكلة من المشكلات”، ويعرفه “ليونارد دوب” بأنه “يشير إلى اتجاهات أفراد الشعب إزاء مشكلة ما، في حالة انتمائهم إلى مجموعة اجتماعية واحدة”، ويعرفه “وليم البيج” بأنه “نتاج التفاعل بين جماعات الأفراد الذين يتناولون بالمناقشة قضية، أو موضوعا جدليا تتعارض فيه الآراء أو تتساوى، أما “جون ستور” فيعرفه بأنه: “هو كل ميول ورغبات المجتمع وما ينفر عنه”.(23).

التعريفات السابقة تبين قواعد عامة تحكم الرأي العام وهي أن الرأي العام موقف اختباري يتخذه المرء إزاء قضية مثيرة للجدل كما انه يكون ظاهراً، فشرط الرأي العام هو التعبير عنه ويتصف بالديناميكية والحركة، أي أنه استجابة لمعطيات الحياة المتنوعة، فهو بذلك يختلف عن العقائد التي تتصف بالثبات والاستقرار.
الرأي العام إذن هو نتاج اجتماعي لعملية اتصال متبادل بين العديد من الجماعات والأفراد في المجتمع، ويشترط وجودها اتفاقاً موضوعياً كما يفترض المناقشة العلنية لموضوع الرأي العام يستمد الرأي العام شكله من الإطار الاجتماعي الذي يتحرك بداخله، كما أنه يمثل آراء جمع كبير من الأفراد، وأن هذه الآراء تتصل بالمسائل المختلف عليها وذات الصالح العام، وإن هذه الآراء لا تمارس تأثيراً على سلوك الأفراد والجماعات السياسية الحكومية.(24).
المراجع:
(1) – “مفهوم الاتصال” عن موقع إعلاميات التابع لمركز بحوث علوم الإعلام والاتصال

(2) ” يحيى اليحياوي”: “العولمة ومجتمع الإعلام” تقديم المهدي المنجزة منشورات الزمن الإيداع القانوني 99/217 مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، طبعة فبراير 2001 ، ص 35.

(3) نفس المصدر السابق ص 37.
(4) غي دورندان “الدعاية والدعاية السياسية”، ترجمة رالف رزق الله، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، ص 18، 2002.
(5) نفس المصدر السابق ص 18/19.
(6) غي دورندان “الدعاية والدعاية السياسية”، ترجمة رالف رزق الله، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، ص19، 2002 .
(7)”الإعلام والإسلام السياسي بالمغرب”، دراسة عن “صورة الإسلاميين المغاربة في الصحافة”، عن مركز حرية الإعلام بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ص101.
(8)– الحسيني، هاشم: “الرأي العام مسرح ممثلين”، مجلة الشاهد، عدد 133 أيلول 1996 ص 76، بتصرف لحواس محمود، عن موقع الحوار المتمدن “الرأي العام المفهوم، التكوين، ملاحظات أساسية”، العدد: 1386، 2005/11/22.

(9) ـ قدادرة، باديس: “نظرية الرأي العام””، جامعة عنابة، موقع مراصدي.
(10)- طاش، عبد القادر: ” دور الإعلام في تنوير الرأي العام “، مجلة الفيصل، كانون الأول 1998، ص 6.
(11) ـ الكسيبي، مرسل: “عندما يخدع الجمهور الساسة: أي معنى يحمله الرأي العام؟”، عن موقع العربية، مقال بتاريخ الثلاثاء 28 صفر 1427هـ ، 28 مارس2006م.

(12)- الحمود، بن عبد الرزاق، سليمان: “الرأي العام المفهوم، التكوين، التعريف،الخصائص”، المجلة العربية، شباط 1996، ص 42.
(13) ـ قويسي، عبد الماجد، حامد: “نظرية الرأي العام/ عقل الجماهير بين التشويه السياسي وانتفاضة الوعي”، جامعة القاهرة، مصر، موقع إسلام أونلاين، 13 /06/2004.
(14) ـ قويسي، عبد الماجد، حامد: “نظرية الرأي العام/عقل الجماهير بين التشويه السياسي وانتفاضة الوعي”، عن إسلام أون لاين، http://www.islamonline.net/i3 .
(15) (16) ـ القيّم، كامل: “قياسات الرأي العام … بين المنظور الإعلامي والتوظيف السياسي”، 2010.
dr_alqayim4@yahoo.com .

(17) ـ الكسيبي، مرسل: “عندما يخدع الجمهور الساسة: أي معنى يحمله الرأي العام”، عن موقع العربية، مقال بتاريخ الثلاثاء 28 صفر 1427هـ، 28 مارس2006م.
(18) – موقع جريدة الصباح العراقية، www.alsabaah.com
(19) ـ قويسي، عبد الماجد، حامد: “نظرية الرأي العام عقل الجماهير بين التشويه السياسي وانتفاضة الوعي”، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، مصر، موقع إسلام أونلاين، 13 /06/2004 .
(20) (21) (22) ـ قويسي، عبد الماجد، حامد: “نظرية الرأي العام عقل الجماهير بين التشويه السياسي وانتفاضة الوعي”، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، مصر، موقع إسلام أونلاين، 13 /06/2004 .
(23) ـ سلطان محمد، أنعام: “الإعلام والدعاية وتأثيرهما على الرأي العام”، عن موقع النبأ، العدد رقم 72، بتاريخ تشرين الأول 2004.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى