لماذا لا يحبنا هذا الوطن؟

مريم مبرور، صحافية وباحثة في تحليل الخطاب

في قلب خال من الضغائن.. أودعنا الكثير من الحب لوطننا .. أحببناه دون شرط أو قيد، دون أن ننتظر مقابلا لحبنا، أوليس الحب الطاهر هو ذاك الخالي من المصالح؟!

من وطننا جعلنا حبيبا نكن له الولاء، نؤيده ونناصره في كل حين وآن، وبدون حتى أن يطلب منا الدفاع عنه، وجدنا أنفسنا ندافع عنه وعن صورته في كل مقام أتيح لنا فيه ذلك. انهمكنا في تنميق صورته أمام جيرانه ومعارفه، وأنسفنا طاقتنا غير ما مرة في الحجاج مع جار يكن له العداء، كي ندحض فكرة في الأصل نعلم – أحيانا – صحتها، فمن أجل وطننا أطغينا نزعة انتمائنا، ولم نرغب البتة في أن نفسح المجال لعقلنا كي يوازن بين عواطفنا، وبين المنطق.

لنشرف وطننا سهرنا الليالي، وتسابقنا والزمن، كبرنا في غفلة منا ونحن نفكر في مصلحة الوطن، وكما قال محمود درويش “لقد كبرنا دون أن ننتبه، لم يسمح لنا بأن نكبر على مهل”، كبرنا وكلنا أمل في أن نكون الشعلة التي تنير الطريق لوطننا الجريح، وتزيح الضبابية التي تلف مستقبله، قلنا لربما نكون خير خلف يضع قطيعة مع كل الممارسات الشنيعة التي لا تخدم أحدا غير الفساد والمفسدين، ولربما نعي ويتدفق وعينا إلى كل الأقطاب المشكلة لهذا الوطن، فينزاح الجهل، ويعم الوعي، وبالوعي نستطيع حتما أن نكون خير أمة أخرجت للناس .. كنا صغارا وكانت أحلامنا كبيرة .. كنا نحب وطننا بشكل مذهل، ونرغب في خدمته بشكل أكثر إذهالا!

والأكثر من ذلك هو أننا، حتى، عندما تقدم العمر بنا، ظل حبنا لوطننا قائما، بل وقد زاد بعض الشيء، ولم تزعزع حبنا كل تلك الخطابات المنهمكة في إبرازه بصورة مشينة، مع جام علمنا بأن عددا كبيرا من الأفكار المبثوثة عبر تلك الخطابات تقدم حقائقا لا أوهاما.
لكن في ظل كل الذي ذكرناه، يراودنا هذا السؤال بإلحاح كبير: هل أحبنا وطننا مثلما أحببناه؟

من المفترض أن تكون الإجابة بنعم، ذلك أننا أبناؤه المحبين، المخلصين، الخدومين، لماذا لن يحبنا إذن؟ .. كل والد يحب أبناءه، حتى وإن لم يكونوا على الشكل الذي يأمل أن يكونوا عليه، فما بالك إن جانبوا سقف توقعاته أو تجاوزوها فعلا.. وما دمنا أبناء هذا الوطن، فمن واجبه إغداق حبه علينا، والحب يبرز في عدة تجليات أهمها توفير سبل الراحة والطمأنينة للأبناء، لكن لما لا يهتم وطننا لأمرنا؟ لماذا نجد أنفسنا في الساعة الواحدة نتذمر مرات عديدات بسبب تكدر عيشنا في وطن لا نكن له شيئا سوى الحب؟ ولماذا تستمر هذه العلاقة العكسية بيننا وبين هذا الوطن: نحبه، بينما لا يكترث، هو، لأمرنا؟!

هل لوطن أن يجعل من شبابه أجسادا بلا روح؟ تتحرك دون أن تجد أي جدوى للاستمرار في الحياة، لا تهتم لا لماض اندثر، ولا لحاضر يندثر، ولا حتى لمستقبل آيل للاندثار، شباب تحثهم على الأمل، فتجد أفئدتهم لا تحوي متسعا لذلك الأمل، حديثهم كله يأس وبؤس، لا مجال لديهم للاستمرار في الانتظار .. انتظار المجهول.. انتظار ما لا يحدث أبدا.

هذا الوطن الذي أحببناه دوما أذاقنا المر دوما..!
وطن يغتصب فيه الأطفال، تستباح فيه أعراض النساء، تنتهك فيه كرامة الرجال، وتضيع فيه أحلام وآمال الشباب، وطن في غفلة منه تعرض 11 طفلا للاغتصاب من قبل مواطن إسباني، وتم “طحن” محسن بائع السمك، وراح الشقيقان جدوان والحسين ضحية فاجعة جرادة اللذان أطلق عليهما حينها “شهيدي الرغيف الأسود”، وطن يركب مواطنوه القطار ليلاقوا الأحباب والأصحاب أو ليتموا عملا من الأعمال ليجدوا أنفسهم حينها تحت الأنقاب، إنه نفسه الوطن الذي احترقت فيه الطفلة هبة على مرأى من المارة، وهو ذاته الوطن الذي قتل فيه الطفل “عدنان” بعد أن تم هتك عرضه، وفي الفترة ذاتها عُثر على الطفلة “نعيمة” تعاني مصيرا مشابها لمصيره ومصير الكثير الكثير من أطفال هذا الوطن.. أطفال انتهك حقهم في الحياة، دون أي ذنب سوى أنهم وجدوا في وطن لا يرعى حقوقهم، ولا يحفظ لهم الأمان والاستقرار الكافيين… وما هذه الوقائع إلا أمثلة نستطيع بموجبها أن نُقدّر أو نتخيل مقدار حب وطننا لنا والاحترام الذي يقدمه لنا.. باستمرار.
بل وأكثر من ذلك، إنه وطن يتم فيه جعل المواطنين تواقين إلى تتبع الفضائح، والبحث في أعراض الناس، والانسياق خلف التفاهة، وما هي إلا أعراض انبثقت عن سياسة التجهيل والتغفيل الممنهجين من قبل جهات معلومة تظهر للناس انشغالها بقضاياهم، بينما تحيك في الخفاء سيناريوهات شديدة الخطورة، تستهدف من خلالها خلق الحاجة الدائمة والمفرطة لاستهلاك المواد التافهة التي لا دور لها سوى إشغال هؤلاء الناس عن القضايا المصيرية والجوهرية التي ينبغي الالتفات إليها.
وفي الأخير، لا يفوتنا استحضار قصيدة أحمد مطر التي صاغها عن الوطن، والتي نراها واحدة من أكثر القصائد المعبرة عن موضوعنا هذا:
أبي الوطن
أمي الوطن
رائدنا حب الوطن
نموت كي يحيا الوطن
يا سيدي انفلقت حتى لم يعد
للفلق في رأسي وطن
ولم يعد لدى الوطن
من وطن يؤويه في هذا الوطن
أي وطن؟
الوطن المنفي..
أم الوطن؟!
أم الرهين الممتهن؟
أم سجننا المسجون خارج الزمن ؟!
نموت كي يحيا الوطن
كيف يموت ميت ؟
وكيف يحيا من اندفن ؟!
نموت كي يحيا الوطن
كلا .. سلمت للوطن !
خذه .. وأعطني به
صوتاً أسميه الوطن
ثقباً بلا شمع أسميه الوطن
قطرة أحساس أسميها الوطن
كسرة تفكير بلا خوف أسميها الوطن
يا سيدي خذه بلا شيء
فقط
خلصني من هذا الوطن
* * *
أبي الوطن
أمي الوطن
أنت يتيم أبشع اليتم إذن
ابي الوطن
أمي الوطن
لا أمك أحتوتك بالحضن
ولا أبوك حن!
ابي الوطن
أمي الوطن
أبوك ملعون
وملعون أبو هذا الوطن!
* * *
نموت كي يحيا الوطن
يحيا لمن ؟
لابن زنى
يهتكه .. ثم يقاضيه الثمن ؟!
لمن؟
لإثنين وعشرين وباء مزمناً
لمن؟
لإثنين وعشرين لقيطاً
يتهمون الله بالكفر وإشعال الفتن
ويختمون بيته بالشمع
حتى يرعوي عن غيه
ويطلب الغفران من عند الوثن؟!
تف على هذا الوطن!
وألف تف مرة أخرى!
على هذا الوطن
من بعدنا يبقى التراب والعفن
نحن الوطن !
من بعدنا تبقى الدواب والدمن
نحن الوطن !
إن لم يكن بنا كريماً آمناً
ولم يكن محترماً
ولم يكن حُراً
فلا عشنا .. ولا عاش الوطن !
(قصيدة “يسقط الوطن” للشاعر “أحمد مطر”).

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. مخطىء من يعتبر الوطن هو المذنب فالمذنب هم المسؤولون عن تعليمنا فالمدارس صارت تفتقد للتربية الخلقية التي كنا ندرسها ونحن صغار وافتقدت للدروس الدينية المؤثرة التي ترسخ في أنفسها الفضيلة والأخلاق الحميدة ووسائل الإعلام تصدعنا صباح مساء بمسلسلات الانحلال والميوعة وتغرس في أنفسنا حب المال وحب البذخ مما يدفع بالمشاهدين للحصول على الثراء السريع ولو بطرق محرمة..الوطن بريء من أعمالنا وتصرفاتنا وإذا كان بعضنا ينهال بالسب والشتم على الوطن بمجرد أنه لم يصل إلى أهداف مادية فإن هؤلاء المواطنين يعتبرون عاقين للوطن لا فائدة ترجى من ورائهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى