أزمات اجتماعية .. من أهم مخلفات الكورونا في إيطاليا

بقلم : عبد اللطيف الباز

بعد مائة يوم على هبوب عاصفة الوباء الصامتة، ومع بداية العودة التدريجية إلى نمط جديد من الحياة الاجتماعية والاقتصادية المفتوحة على أسئلة كثيرة، تقف إيطاليا مرة أخرى على أبواب مرحلة حاسمة تتلبّد سماؤها بالأشباح نفسها التي لم تفارق مسيرتها منذ أكثر من 7 عقود: اقتصاد منهك بعد 10 سنوات متتالية من الركود يرزح اليوم على شفا الانهيار تحت وطأة الصدمة الأخيرة، ومشهد سياسي في أقصى درجات التوتّر والتشرذم، وجريمة منظّمة عادت بكل شراستها تصطاد في المياه الاجتماعية والسياسية العكرة، وتنخر أعمق في أجهزة الدولة ومؤسساتها.

لكن ما يقلق أركان الدولة الإيطالية بشكل خاص اليوم تقارير الأجهزة الأمنية التي تشير إلى أن البلاد سائرة في حقل من الألغام الاجتماعية التي قد تنفجر في أي لحظة: مئات الحوادث الإجرامية الصغيرة التي نادراً ما تتناقلها وسائل الإعلام، وشبكة واسعة من التنظيمات المحليّة المتطرفة التي تستغلّ الغضب المتراكم بفعل الأزمة الاقتصادية المتمادية والفساد السياسي المستشري، ومعلومات موثّقة عن اتصالات مكثّفة وتنسيق حثيث للحركات الفاشيّة الإيطالية مع شبكة عالمية للمجموعات النازيّة واليمينية المتطرفة.

هذه التقارير التي سُرّبت إلى بعض وسائل الإعلام تتزامن مع النشاط غير المسبوق لحركات الفاشيين والنازيين الجدد الذين يخرجون يومياً إلى الشوارع في مظاهرات غالباً ما تصطدم مع الشرطة، وتتعرّض بعنف للصحافيين، وترفع شعارات معادية للهجرة والإسلام والبابا فرنسيس الذي يعده اليمين المتطرف الإيطالي من ألدّ أعدائه بسبب موقفه المتعاطف مع المهاجرين.

ويرى محللون أن هذه التحركات تهدف بشكل أساسي في هذه المرحلة إلى النيل من هيبة الدولة وزعزعة الثقة بمؤسساتها، فيما تحاول النهوض من أزمة «كوفيد-19» وتداعياتها، بينما النظام السياسي يغرق في ضياع أزمة هويّة عميقة بعد أن تفتّتت وتحلّلت جميع الأحزاب التي قام عليها منذ منتصف القرن الماضي.

ويذكّر هؤلاء بنتائج الدراسة التي وضعها مركز البحوث الاجتماعية التابع للمصرف المركزي، والتي أشارت إلى أن «حال اليأس التي تملّكت شريحة واسعة من الإيطاليين جعلتهم فريسة سهلة للمافيات المحلّية، وأرضاً خصبة للحركات المتطرفة والعنيفة».

ويوم السبت الماضي، شهدت روما أعنف هذه التحركات، عندما خرج الآلاف من الفاشيين والنازّيين الجدد إلى شوارع وسط المدينة، وعاثوا فيها خراباً، واصطدموا بعنف مع قوات مكافحة الشغب، ما دفع رئيسة البلدية، فيرجينيا راجي، إلى وصفهم بالوحوش. وكان عدد من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب قد تلقّوا في الأيام الأخيرة تهديدات بالقتل، تحمل صوراً لهتلر وشعارات نازية وعبارات مثل «إلى المحرقة».

وما يزيد من قلق المراقبين أن هذه التحركات التي ترتفع وتيرتها باطراد منذ سنوات تتزامن اليوم مع الصعود القوي لحزب «الرابطة» اليميني المتطرف الأوسع شعبية حالياً في إيطاليا، ومع ارتفاع شعبية حزب الفاشيين الجدد «إخوان إيطاليا» الذي تفيد الاستطلاعات الأخيرة بأنه يحظى بنسبة تأييد تتجاوز 16 في المائة، وأيضاً مع تكاثر التنظيمات المحلية التي ترفع شعارات الحقبة الفاشيّة مطلع القرن الماضي.

ويذكّر المحللون بما شهدته فرنسا العام الماضي من مظاهرات احتجاجية عنيفة على يد «السترات الصفر»، والدمار الذي خلّفته في العاصمة باريس، وما عاشته ألمانيا منتصف العام الماضي من تحركات اليمين المتطرف ضد سياسة الهجرة للمستشارة أنجيلا ميركل التي أدّت إلى اغتيال العضو البارز في «الحزب الديمقراطي المسيحي» فالتر لوبكيه، وإحراق معبد يهودي أوقع 11 قتيلاً.

ويلمّح خبراء الأجهزة الأمنية الإيطالية إلى أن ما يحصل اليوم في إيطاليا وبعض البلدان الأوروبية ليس منفصلاً عن الأجواء التي تعيشها الولايات المتحدة منذ وصول الإدارة الجديدة إلى البيت الأبيض، ومع التطورات الأخيرة التي يشهدها المجتمع الأميركي على وقع مبادرات الرئيس دونالد ترمب وتعليقاته.

ويخشى مراقبون من أن تستغلّ هذه الحركات الصعوبات التي تواجه الحكومات الأوروبية في المرحلة الثانية من العودة التدريجية إلى الحياة الطبيعية، وتدفع باتجاه إطلاق يد من يستخدمون العنف الكلامي والجسدي لتوجيه الجموع نحو حلول للأزمة خارج مؤسسات الدولة.

ويذكّر محللون بأن هذا هو السيناريو الذي وضعه المنظّر الأميركي اليميني المتطرف ستيف بانون لتحويل الاحتجاجات الشعبية إلى قنابل موقوتة جاهزة للتفجير في الوقت المناسب لإسقاط الحكومات التي تدافع عن المشروع الأوروبي. وتجدر الإشارة إلى أن بانون كان يردّد دائماً أن إيطاليا هي «رأس حربة النهضة الجديدة» في أوروبا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى