نحو دولة منقذة

عصام خربوش

 

ارتبطت الدولة وواقع بداياتها الأولى بتاريخ اليونان، التي أفرزت طبيعتها الجغرافية دويلات فوق جزرها الآمنة، فبينما احتاجت الامبراطورية الرومانية إلى سلطة القانون لبسط هيمنتها على مناطق متفرقة من العالم، اصطدم اليونانيون في مجتمعاتهم الصغيرة بتحديات تفرض عليهم تنظيم حياتهم الجماعية، والعيش داخل كيان سمي في الفكر السياسي دولة المدينة.

وستتخذ الدولة بعد ذلك أشكالا عديدة حسب حجمها من حيث المساحة وعدد السكان، الدين، اللغة، العرق… لكن هناك ما يشبه إجماع فقهاء القانون الإداري والمتخصصين في تدبير الشأن العام حول تطورها عبر ثلاثة مستويات : الدولة الحارسة الدولة المتدخلة الدولة المتخلية وإذا كان المقام لا يتسع هنا أمام الخوض في كل تلك المراحل والمستويات، فلأنه مخصص بالدرجة الأولى لتناول ظاهرة حديثة، وهي الدولة المنقذة المطالبة بالتدخل مجددا كي تحمي المجتمعات من تهديدات حقيقية مصدرها الانسان ذاته والطبيعة.

فبغض النظر عن الفوارق القائمة بين الدول، توجد الكثير من القواسم المشتركة بين مواطنيها، ومشاكل محددة تهم الجميع مثل خطر الاحتباس الحراري، الأزمات الاقتصادية، تناقص الموارد الطبيعية، الإرهاب، الهجرة… إنها إشكالات استعصى حلها ضمن استراتيجياتها المختلفة، وباتت في الوقت الراهن كلما غادرت بوتقة إلا وعلقت وسط أخرى، كما لم تعد وظيفتها مجرد توجيه الاستثمار وتوفير الأمن التقليدي والعدل وسقف أدنى من الخدمات الاجتماعية. أي أننا بصدد مفهوم وشكل جديد للدولة، يواجه طوارئ غير معتادة بالنسبة للأنظمة السياسية والمواطنين على حد سواء.

وربما أول مثال يدعو إلى التأمل مليا في ملامح هذا التصور، هو حديث اليوم والساعة ” كرونا فيروس ” الذي حول الدور الأمني صوب وجهة أخرى، وجعل الاقتصاد العالمي في مهب رياح عاتية.

فقد كان حتى وقت قريب من الصعب تخيل الدولة تأمر بإغلاق المقاولة أو تضطلع مرة أخرى بالدور الأساسي في النقل، التصنيع، التغذية، خارج نطاق يحدد مهامها ويؤطرها مؤسساتيا وإيديولوجيا بإحكام. لكن بغتة أثناء زمن ” كرونا ” أمست العديد من الاحتمالات المستبعدة سابقا ممكنة والعكس صحيح. ذلك أن المبادرة الفردية وحرية الانسان علاوة على قيم أخرى تأسست عليها الحياة العادية، وسادت طيلة 30 سنة انهارت قدسيتها، كما توقف الخضوع التام لها إلى حين مداه مجهول.

هكذا استفاقت معظم بلدان الكون على صدمة غير مسبوقة، لا هي بكارثة طبيعية ولا نووية أو إنسانية وفق المألوف، وإنما “كابوس” يراه الانسان صاحيا ليلا ونهارا محاصرا له بين الجدران. من توقع يوما ما أن تكتشف القوى الدولية العملاقة والدول المتخلفة عجز جيوشها العسكرية ومختبراتها العلمية، وهي تواجه الوباء الحالي الذي أبان عن هشاشة نظام العولمة الشاملة وأظهر مخاطره الغالية الثمن.

أكيد لن يتوقف زحف الزمن وستتذكر البشرية دروس آواخر عشرية القرن 21 وستتفاعل وتداعياتها وفق تقديرات متفاوتة، ستؤدي غالبا في نهاية المطاف إلى تأثير يشمل بنيات المجتمع الكبرى، أولها الدولة المسؤولة مستقبلا على أمن مواطنيها وسلامتهم الصحية، وإنقاذهم من أية آفة غريبة وافدة، مع الإبقاء عليهم أحياء بكل الوسائل الممكنة.

عصام خربوش باحث في مجالات الحكامة وعلم الاجتماع السياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى