قراءة إبيستمولوجيا للحكامة كنموذج فكري وآلية وتدبيرية

عصام خربوش باحث في مجالات الحكامة وعلم الاجتماع السياسي

تداولت في العقد الأخير الأوساط الفكرية، الإعلامية، المؤسساتية، السياسية… مفهوم الحكامة بحجم أعطاها حضورا ساطعا امتد ليشمل مستويات متعددة ضمن الخطاب السياسي، تنبع من صميم مصدر أوسع أساسه تطلعات المواطنين المشروعة. نظرا لارتباطها بمواضيع التنمية، الديمقراطية، حقوق الإنسان، البيئة، تكافؤ الفرص، الإنصاف، مقاربة النوع ( المرأة، الأشخاص في وضعية إعاقة، المناطق النائية والمعزولة…).وهي عبارة عن توجه جديد للممارسات التدبيرية يقود الدولة ووحداتها وباقي المتدخلين إلى الارتقاء بنوعية حياة المواطنين، وتحقيق رفاهيتهم في محيط سليم ومتوازن، باعتبارهم محور كل الخطط والبرامج وفاعلين أساسيين في عمليات صنع السياسات العمومية. فمن بين أهم خصائصها أنها نموذج فكري، يؤمن بكون المشاركة الشعبية في صياغة القرارات، التي تؤثر على حياة الأفراد مبدأ أساسي تقوم عليه التنمية.
بهذا تطرح الحكامة أسلوبا متجددا لإعادة تنظيم السلطة والحكم، ليس بواسطة المرفق العام لوحده، وإنما من خلال مكونات المجتمع ككل، بما يضمن استقراره الدائم وازدهاره المتواصل.
اتسع نطاق النقاش حول الحكامة بعد تعاقب فشل السياسات المختلفة في العديد من البلدان، خصوصا العالم العربي وإفريقيا. فمنذ نهاية الثمانينات أشارت التقارير المتخصصة، التي تناولت قضايا التنمية في هذه المناطق، إلى ضرورة توسيع دائرة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، مع الخضوع لمجموعة من المعايير تؤلف مقاصدها ودلالاتها مجتمعة منظومة قيم، تؤطر تدبير الشأن العام والمواطنين عبر دورهم في الرقابة والمحاسبة، وسط أجواء تتسم بالشفافية والثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم…
بيد أن الموقف ليس بالسهولة الممكن تصورها، لأن تحويل الحكامة إلى آلية عملية، يتوقف على تفاعل حقيقي بين جميع الأطراف والجهات، بعيدا عن نظرة التعالي السلطوي والمعرفي. وهو أمر يقتضي بدون أدنى شك الكثير من الحكمة والوعي والتبصر لدى المواطنين والمسؤولين أيا كان موقعهم على حد سواء، في ضوء استرتيجيات أو استراتيجية كبرى قائمة على أسس علمية وتكنولوجية، معززة بالتجربة ومعطيات الواقع المفتوح على الآفاق المتاحة والواعدة.
ولعل استحضار بعض المعطيات كتلك المتعلقة بتفشي المحسوبية، عدم تكامل الأدوار، تفتيت الإمكانيات، تعقيدات التنسيق… يوضح حجم الصعوبات والتحديات التي تنتظر مساعي إنجاح هذا الرهان.
لقد ركنت دول العالم زمنا طويلا إلى الاعتقاد أن التنمية تتأتي نتيجة مضاعفة الرأسمال المادي لوحده، ومع ذلك بقيت تلك الغاية بعيدة المنال، وظل التخلف ظاهرة عامة في العديد من الأقطار، رغم ما تتوفر عليه من ثروات طبيعية ومادية. ليتبين من بعد أن أهم كنوز الأمم هو المورد البشري، مما جعل النقاش الفكري والعلمي البناء، يتمحور حول دعم مجهودات محاربة الفقر والتهميش وإعادة الاعتبار للإنسان، فهناك علاقة وطيدة بين الحكامة والتنمية، تفرضها ضرورة الانتقال من الاعتماد على المادة والطبيعة إلى تركيز الاهتمام بالموازاة مع ذلك على تأهيل الثروة البشرية، بغية تكوين رأسمال اجتماعي، يتيح مشاركة ذات بعد تنموي إنساني شامل.
صحيح أن الحكامة تنطوي على أفكار بخلفيات إيديولوجية، تستند على تمجيد المبادئ الديمقراطية وتقديس حقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها دوليا… لكن وبصرف النظر عن حمولتها، فهي تفرض ذاتها بحدة باعتبارها بديلا للاستبداد وشيوع الاختلالات، التي تحول دون إنتاج سياسات تنموية ناجعة. ربما لا يكمن المشكل في الآلية ذاتها بل في قلة فرص نجاحها نتيجة لخصوصيات مختلفة، ترتبط أساسا بطبيعة النظام السياسي القائم وعوامل سوسيو _ ثقافية، تشكل عقبة أمام محاولات الانعتاق من بوتقة التخلف، وتلقي بسلبياتها وتداعياتها المعقدة على الفرد والمجتمع. فالتعايش بين الحكامة ونقيضها أي الفساد الكبير، هو من ضروب الخيال وصورة لربط المستحيل بالآمال الممكنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى