كورونا توقد نار عصرنة العدالة المغربية

 

الدكتور رشيد وهابي
المحامي بهيئة الجديدة
maitre4ouahabi@gmail.com

إذا كان فيروس فيروس كوفيد 19 قد اقترب من إيقاف العجلة الاقتصادية في المغرب كما فعل في كل دول المعمور ، فقد أنعش في المقابل بعض القطاعات التي ازدادت أرباحها بشكل صاروخي خلال أيام لم تحلم بها من قبل حتى في توقعاتها المتفائلة جدا ، وكيف لا نلتفت إليها ونرطب بأخبارها ألستنا التي نشفتها أخبار الفيروس وما زالت ، كالشركات التي تؤمن التواصل بالهاتف والأنترنت لبني البشر الذين باتوا يطلون من خلف منازلهم على العالم من خلال الخدمة التي تقدمها لزبائنها الذين أصبحوا حبيسي منازلهم ، وهي لاشك مدينة بشكل كبير لنعمة هذا الفيروس الذي أمطر عليها وعمر خزائنها بأموال طائلة ، وإن كانت هذه النعمة التي نزلت عليها ، كانت غبنا على المسارعين لخدماتها بعد أن تعطلت جودتها ، وصارت سرعة الإتصال التي كانت تُشهر بها منتوجاتها وتتفاخر بها فيما بينها ، سرعة ضفدعية ترفع ضغط المتصلين وتُشعل غضبهم . وهي كذلك لم تقنع بربحها الكوروني وخدماتها التي حبست أنفاس المغاربة بل لم تُقنع وتتضامن مع زبائنها بعروض شبه مجانية أو تطلق خدامتها على الأقل مجانا للتلاميذ والطلبة والأساتذة ورجال الصحة والسلطات الذين يحاربون كل من موقعه هذا الفيروس الذي قلب حياة المغاربة بدون رحمة .
شركات الإتصال ليست وحدها من استفاد من حلول هذا الضيف الثقيل الذي حل بديارنا بدون دعوة أو رغبة منا والذي أطال المقام ، هناك قطاع آخر سيتفيد من زيارة فيروس كوفيد 19 ، وإن كانت استفادته معنوية أكثر منها مادية.
قطاع العدالة بالمملكة المغربية سيتسفيد بشكل كبير من نقمة هذا الفيروس وستحول نقمته إلى نعمة ، فقبل أيام بدأت المحاكم المغربية تعتمد تقنية محاكمة المتهمين المعتقلين عن بعد ، وتستمع بجلساتاها المعتادة لأقوال المتهم وهو في قاعة مجهزة ومتصلة بقاعة الجلسة توجد بالسجن الذي يقبع فيه ، وإن كانت هذه التجربة وسرعة اعتمادها و البدأ في العمل بها فرضتها الظروف التي تروم اتقاء انتشار العدوى وانتقالها بين السجناء ومحيطهم الخارجي ، نقلا أو انتقالا ، حسب ما تابعناه جميعا فيما عاشه سجن ورزازات من انتقال سريع للعدوى بين السجناء وموظفي السجن ، وترك الحبل على الغارب وعدم التدخل كان يمكن لا قدر الله أن تبدأ عدوى المرض تنتقل منهم إلى موظفي المحكمة ورجال الشرطة الذين ينقلون السجناء من السجن إلى المحكمة ويمكن أن تنتقل العدوى كذلك إلى أعضاء المحكمة والمحامين الحاضرين بقاعة الجلسة ، وإن كان لنا موقف مرحب بهذا النوع من المحاكمات في ظل حالة الطوارئ الصحية التي تعرفها بلادنا ، فإننا ننتقد طريقة تنزيل هذه المحاكمات عبر بلاغ صادر عن وزير العدل يفتقد للشرعية القانونية لاتخاذ مثل هذه المقررات ، و كان من الأفضل أن يصدر مرسوم أو مقرر تنظيمي أو إداري أو بلاغ أو منشور تصدره الحكومة وتعلن البدأ في اعتماد هذه التقنية في المحاكمات طبقا للمادة 3 من مرسوم قانون رقم 292 . 20 . 2 ، المتعلق بالأحكام الخاصة بحالة الطوارئ ، المهم الذي استنتجناه أن بعض أعضاء الحكومة يدبرون أمور هذه المرحلة الحساسة والمزدحمة ويتخذون القرارات فيها بنوع من السرعة المفتقدة للحرص على احترام القانون في ما يقررونه ، و لا ينتبهون إلى بعض المقررات الصادرة عنهم والتي قد تكون محط سهام غياب الشرعية القانونية عنها ، لذلك عليهم أن يراعوا في قرارتهم التي يكونوا مضطرين لاتخاذها بسرعة ، ضرورة اتكائها على العكاز القانوني المضمن في مرسوم قانون 292 في مادته الثالثة حتى لا يقعون في مطبات وحفر خرق القانون .
والمحاكات عن بعد التي بدأت تجربتها في بعض المحاكم الفرنسية منذ سنة 2003 واتسعت سنة 2004 ، والتي سارعت دولتنا للعمل بها بعد حالة الطوارىء التي أعلنتها ، ليست وحدها من شغلت بال الحكومة المغربية وأوقدت نار العجلة تحت نصوصها وأدخلتها إلى فرن التجربة بسرعة كبيرة ، بل حسب ما اطلعت عليه ببعض المواقع الالكترونية فقد قامت وزارة العدل بتاريخ 30/04/2020 وفي عز حالة الطوارئ بالتحرك ومراسلة جمعية هيئات المحامين بالمغرب ومن خلالها السادة النقباء ، من أجل تزويدها بمقترحات تخص مشروع قانون يتعلق باستعمال الوسائط الإلكترونية في الإجراءات القضائية في المسطرة المدنية والجنائية قبل 05/05/2020، وهو المشروع الذي يروم عصرنة التقاضي وشرعنة الاستماع إلى بعض الأطراف كالمتهمين أو الشهود أو الخبير أو الضحية من طرف قاضي التحقيق أو المحكمة حتى ولو كان بعيد عن دائرتهم القضائية إذا حالت ظروف بينه وبين حضوره للإستماع إليه كما جرى به العمل في الإجراءات الجنائية بواسطة تقنيات تنقل صورة وصوت المستمع إليه في الحال إلى المحكمة أو السيد قاضي التحقيق في الحالات العادية بعد رفع حالة الطوارىء ، ويروم كذلك اعتماد التبليغ الإلكتروني الاختياري في المساطر المدنية بين المحامي والمحكمة ، ومجموعة من الإجراءات الأخرى المفصلة التي يتضمنها مشروعي القانونيين وتعتمد على إدخال التقنيات الجديدة ، وكل هذه الإجراءات الجديدة التي ستعزز القوانين الاجرائية أمام المحاكم المغربية الهدف منها تنظيم عملية التقاضي عن بعد في الميدان الزجري ، وتيسير عملية تبادل المذكرات والإجراءات بين المتقاضين ودفاعهم والمحاكم عبر منصات إلكترونية رسمية في الميدان المدني .
وكما يظهر لنا فإن فيروس كورونا ليست كلها شر فهي كما نزلت بردا وسلاما وخيرا على البيئة فوق الكرة الأرضية ، وأنعشت نشطاء البيئة في العالم بعد أن فشلوا في فرض حلولهم البسيطة للتقليل من تلويث البيئة ، ها هم دعاة محاكم المستقبل ، ومقترحوا تحديث التجارب التقنية في استخدام التداول بالفيديو في الإجراءات القضائية و توسيع التبادل الالكتروني للمقالات والمذكرات التي تعرض أمام المحاكم ، وتشجيع استخدام نظام الاتصال السمعي البصري كطريقة للتنظيم القضائي . لا شك في أن ابتسامة وسرور كل من ناضلوا واجتهدوا منذ عدة سنين في المغرب لاعتماد رؤيتهم الجديدة للإجراءات القضائية مع الأجيال الجديدة من تقنيات التواصل أصبحت بادية لنا وإن كانت ابتسامة ساخرة بعد فشلهم طيلة كل هذه السنين في إخراج مقتراحاتهم ورؤاهم على أرض الواقع التشريعي ونجاح كائن غابر خفي فيما فشلوا فيه ، و لماذا لا يبتسمون وينشرحون حين نعرف أن التفكير في جعل محاكمنا تمتح من التقنية الحديثة وتأخذ بناصيتها لتعلن إعطاء الانطلاقة الصغرى لاعتماد وسائل الإتصال الحديثة والتقنيات الرقمية في سير أعمال المحاكم وإجراءتها قد بدأ التفكير والتنظير لها منذ مدة طويلة بعمل جبار لا يمكن أن ينكره أي أحد ، وكانت الآمال تتجه وتسعى لتطويره والسير قدما في اعتماده ، وهذا هو الظاهر من خلال بعض خلاصات الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة الذي بدأ سنة 2012 من طرف الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة والتي نصبها ملك البلاد وكان يترأسها وزير العدل السيد المصطفى الرميد ، و صدرت توصياتها سنة 2013ٍ ، ولكن لسبب لا نعرفه ولا نعلم عنه شيء توقف كل شيء ، واستمر عمل المحاكم بنفس أدوات العقود الماضية ، وكل هذا التأخر في نقل التقاضي المغربي من حالته الكلاسيكية لإدخاله تدريجيا إلى جنات العوالم الرقمية والاتصال عن بعد لا يمكن أن يجعلنا جاحدين ومنكرين لواقعة ريادة المغرب بين الكثير من الدول في مجالات كهذه ، فالمغرب عزز سنة 2011 قانون المسطرة الجنائية بآلية الاستماع لبعض الشهود عن بعد الذين يُخاف على حياتهم أو سلامتهم الجسدية أو مصالحهم الأساسية أو حياة أفراد أسرهم أو أقاربهم ، ولم يقصر الاستماع اليهم عن بعد بل أجاز إخفاء هويتهم لكي لا يتم التعرف عليها باستعمال الوسائل التقنية التي تغير الصوت والصورة ، وهو مقتضى موجود بالمادة 347 /1 من قانون المسطرة الجنائية المغربي في وقت كانت فيه مثل هذه التقنيات ما تزال تتقاذفها نظريات فقهاء القانون في مقالاتهم وكانت محط تتبع وإعجاب لبعض رجال العدالة والمهتمين ممن أتيحت لهم فرصة زيارة بعض الدول الغربية للاطلاع على تجارب تلك الدول في فتح طريق عدالة جديدة منفتحة على التقنيات الجديدة ، سبقُنا الذي كان ، وتأٌخُرنا الكائن حاليا يجعلنا نطرح السؤال حول ما السبب الذي جعل المغرب بعد أن كان سباقا في سلك تحديث العدالة المغربية بمختلف تمظهراتها ، وحمله لواء هذا التحديث منذ عدة سنوات ، يتأخر وتخبو كل الآمال التي علقت ، وتم الترصيص لاعتمادها ، وحتى الآن ما زلنا لم نتمكن من معرفة سبب إيقاف محركها الإصلاحي أو من عطل سير قطارها .
الآن وبعد أن نسينا موضوع تحديث المحاكمات والمساطر الإجرائية وتعزيزها وتسهيلها باعتماد الوسائل التقنية الحديثة ، فوجئنا في عز حالة الطوارئ الصحية وشلل عمل المحاكم من يُخرج فنيق المحاكمات عن بعد واستعمال التقنيات الحديثة في عملية التقاضي من رمادها ، وإن كان هذا مقبول في حالة الطوارئ التي نعيشها ، وكأن هذا الفيروس مُخرج لا يعصى له أمر وقفت له كل ركائز وزارة العدل بسرعة وحيوية مفاجئة ، محاولة أن تطلق شرارات كهربائية من قمر قيادتها لتنعش العمود الفقري للعدالة الذي أصابه الشلل في القضايا المدنية والتجارية والإدارية والجنائية التي ليس فيها معتقلون وكل القضايا والإجراءات التي تنظرها المحاكم في الأوقات العادية ، قامت وزارة العدل بكل هذا وبكل هذه السرعة بعد أن انتشر فيروس كوفيد 19 وجعل ذعر الوزارة من إصابة موظفيها والمتقاضين بهذا الفيروس ومعهم صناع العدالة ومشاركيهم وبقرارات مساندة من السلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة يضطرون لسد أبواب المحاكم ووقف كل الإجراءات والجلسات بها ، واستمرار تعطيل حكم المحاكم لمدة تقارب الشهرين بسبب فيروس كورونا ، ربما جعلهم يفكرون في حل لهذا التوقف الذي يعطل سلطة من أهم السلط القضائية بالبلد وهي السلطة القضائية ، وهذا يجعلنا نعتقد بأن فيروس كوفيد 19 سيكون له الفضل الكبير إذا ما تم التسريع بالمصادقة في مجلس حكومي على مشروع قانون يتعلق باستعمال وسائل الاتصال الحديثة في قانون المسطرة المدنية والجنائية ، وسيكون قد أنجح في مدة قصيرة اعتماد ما تم التنصيص عليه و عقد الآمال على العمل به منذ مدة طويلة دون أن يفلح الطارحين لأحلام العدالة الرقمية العصرية في ذلك .
والختام الذي نريد أن نختم به كتابنا هذا ، هو أننا نقول للساهرين على هذا المشروع الطموح أننا مع تسريع اعتماد هذه التقنيات فيما إذا كان مقام هذا الفيروس بين ظهرانينا سيطول ، لكن نوصي بعرضه على العموم لكي يدلي كل واحد منهم بدلوه ، فقد تأتي بعض لآلئ الإقتراحات القانونية لإغناء هذا المشروع من بعض المحار الكبيرة أو الصغيرة . وكذلك يجب أن لا نجعل الخوف والخطر الذي عممته استراتيجية هذا الفيروس اللعين تدفعنا لإخراج قوانين عرجاء تظهر إعاقتها بعد مشيتها الأولى فوق بساط ملفات المحاكم .
أما إذا تغلبت دولتنا على انتشار الفيروس وهذا ما نتمناه وعادت الحياة إلى طبيعتها فمن الأحسن أن يتريث القيمون على إعداده ويتوانوا في إخراجه إلى أرض التطبيق و يبادروا إلى إطلاق صفارة تمتين نصوصه القانونية ، وتعزيز المقترحات التي يمكن أن تُغني وتُسمن نصوصه بالتجارب المقارنة لكي نقدم منتوجا قانونيا صالحا شاملا لا تبدأ عورات تطبيقه ومُنزلقاته وتناقضاته تـظهر للممارس بسرعة بعد أول يوم يبدأ العمل به.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى