المحامي رشيد وهابي: “من هنا يستمد التقاضي عن بعد شرعيته الدولية والقانونية القوية”

أحمد مصباح – الجديدة

قبل عدة أيام، أكد وزير العدل بنعبد القادر، أن وزارته عمدت إلى التنسيق مع إدارة السجون، ومع المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ورئاسة النيابة العامة، حيث تم الاتفاق بينهم على إجراء المحاكات الزجرية عن بعد، وأن وزارته قامت بتحضير اللوازم التقنية واللوجستيكية لانطلاق هذه العملية. وهذا التصريح أثار الكثير من المواقف من طرف جموع المحامين بمختلف هيئات المحامين بالمغرب والحقوقيين، كانت في أغلبها معارضة لطرح إجراء المحاكمة عن بعد. وقد انقسمت نقابات المحامين بين رافض للاقتراح ومرحب به بشكل شبه كامل، وبين مرحب به بشروط. فالرافضون يؤكدون أن تصريح وزير العدل مخالف للمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وبشروط المحاكة العادلة، وبضرورة إجراء المحاكمة أمام المحكمة، وبحضور الأشخاص المتقاضين، واعتبروه كذلك مخالفا لقانون المسطرة الجنائية الذي لا يتحدث البتة عن المحاكمة عن بعد.
وأمام هذا التقاسم الذي يغلب جانب التوجه القائل بعدم قانونية اعتماد المحاكمة عن بعد، كان لنا في الجريدة حصريا الحوار التالي مع الأستاذ رشيد وهابي، المحامي بهية الجديدة، الذي كان له رأي مخالفا اعتبر فيه أن طرح المحاكمة عن بعد، هو طرح قانوني، يستمد بقوة قوته القانونية والشرعية من المواثيق الدولية والقوانين الوطنية:
سؤال : قبل بضعة أيام، خرج وزير العدل ليعلن عن بعض المشاورات و الترتيبات التي توجت ببدأ المحاكمة عن بعد في بعض المحاكم ، كيف تلقيتم هذا الخبر؟
جواب : الملاحظات التي لم ترقني ولم ترق أغلب الزملاء المحامين هي إغفال أو تجاهل السيد وزير العدل التنسيق مع مكون من أهم مكونات العدالة يتمثل في المحامين الممثلين في إطار جمعية هيئات المحامين بالمغرب أو في إطاراتهم القانونية المتمثلة في النقباء الذين صوتت عليهم الجموع العامة طبقا لقانون المحاماة ، وهو التجاهل الفادح الذي حاول السيد الوزير تداركه حين أكد بعد ذلك أن المقترح تم عرضه على السادة النقباء في إطار اللجنة الثلاثية لمحاكم الإستنئاف . وكان من الأفضل للسيد وزير العدل أن يستشير الساهرين على شؤون المهنة وهم النقباء ويأخذ رأيهم قبل أن يتخذ القرار في غيبتهم ويضعهم بعد ذلك أمام الأمر الواقع ، والسادة النقباء والمحامون كانوا طيلة تاريخهم الذهبي متفهمون جيدون لبعض الإجراءات المستعجلة التي يمكن أن تتخذ في بعض الظروف الاستثنائية ، وتجاهل وزارة العدل لأخذ رأي مكون أساسي حاضر في كل محاكمة عادلة وسليمة وصحيحة أجج غضب قاعدة المحامين وكذا نقبائهم .
سؤال : تابعتم كما أنا الانتقادات الموجهة للمحاكمة عن بعد، عبر مقالات كانت أغلبها من توقيع محامين، وأعتقد أن انتقاداتهم كانت صائبة ومؤسسة على مخالفتها لنصوص قانونية صريحة ؟
فعلا التقاضي في المحاكمات الزجرية عن بعد أسال مداد الكثير من المهتمين ، وأغلب من كتبوا هم من رجال الدفاع ومنهم بعض السادة القضاة وموظفي كتابة الضبط الذين كانت أغلب مقالاتهم تتجه نحو رفض هذا المقترح واعتباره مضرا بالعدالة المغربية وخارقا للقوانين المنظمة للمحاكات الجنائية ، ولحقوق الدفاع ، وأغلب مستنتجاتهم وانتقاداتهم محترمة ومعقولة ، وتعتمد على أسس ومبادئ لا يختلف فيها إثنان ، وفي المقابل كانت الأصوات التي جهرت بصوتها مخالفة رأي الفئة العريضة وتقبل في ظل الظروف الحالية التقاضي عن بعد قليلة جدا ، وأعتقد أن هناك فئة لا بأس بها تتبنى هذا التوجه المرحب بحكم أنني اتصلت ببعض الزملاء من مدينة الجديدة ومدينة الدار البيضاء ممن ينوبون خلال هذه الأيام في الملفات الجنائية عن المعتقلين ، فأكدوا لي على أنهم مع هذا التوجه لأنهم أصبحوا يخافون من الحضور إلى الجلسات وحين يحضرون ويرافعون في الملفات يلازمهم الخوف من إصابتهم بالفيروس لأيام ويتجدد خوفهم كلما حضروا للمرافعة في ملف آخر ، ولكن لا يمكنهم أن يعلنوا عن رأيهم وهم يشاهدون أن أغلب المحامين المغاربة ومن مختلف الهيئات يعارضون هذا التوجه بشكل كلي لا يسمح حتى ببعض المرونة في التعامل معه ، و رغم أنني أتبنى رأيا مخالفا للفئة العريضة المخالفة لإجراء المحاكمات عن بعد فإن ما يستندون إليه في دفاعهم عن رأيهم الرافض للمحاكمة عن بعد له مبررات قانونية وحقوقية تمتح من مهمة الدفاع النبيلة المتمثلة في حفظ حقوق المتقاضين والدفاع عن المبادئ العامة والعالمية التي تبنى على الشروط الازم توفرها لكي تكون كل محاكمة عادلة .
سؤال : حسب ما استقيت من معلومات، فإن الاختلاف بشأن الترحيب أو رفض المقترح، لم يقتصر على أقلام المحامين الذين سطروه في مقالات قانونية منشورة عبر الفضاء الأزرق، بل تعداه إلى وجود اختلاف بين هيئات المحامين نفسها؟
فعلا هناك بعض الهيئات التي أبدت موقفها المعارض منذ الأيام الأولى التي صدر فيها تصريح وزير العدل حول البدأ في إجراء المحاكمات عن بعد ، وهناك هيئات أخرى رحبت بالفكرة ، وهناك هيئات أخرى ، دعت المنتسبين إليها للانخراط في المحاكمات الزجرية عن بعد ضمن شروط حددتها في بيانات وجهتها للمحامين التابعين لها ، وهناك هيئات أخرى مازالت لم تفصح عن موقفها بشكل صريح وربما تنتظر حتى تتضح لها الصورة بشكل أكبر . ولكل هيئة مبرراتها المحترمة لرفض أو الترحيب بتقنية المحاكمة عن بعد . ومازالت لحد الساعة جمعية هيئات المحامين بالمغرب لم تتخذ أي موقف بخصوصه .
وإن كان رئيسها النقيب عمر ودرا عبر في تدوينة له منشورة على موقع وزارة العدل على الفايس أوضح لأحد المنابر الإعلامية أن قرار وزارة العدل بخصوص المحاكمات عن بعد سيطبق في بعض محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية، وأن المتهم سيبقى في السجن، في إطار التدابير الاحترازية. مع استثنائه لبعض الملفات التي يجب أن تكون فيها المحاكمة حضورية . وهو ما يعني أنه لا يرى أي مانع من تطبيق المحاكمة عن بعد مع جعل الحضورية مطلوبة في بعض الملفات .
سؤال : من بين المبررات التي استند عليها من رفض هذا المقترح، تصريحهم بأنه مخالف للمواثيق الدولية؛ فما هو رأيكم بهذا الخصوص؛ وهل فعلا اعتماد تقنية المحاكمة عن بعد، فيه مخالفة للمواثيق الدولية التي تعتبر أسمى من القوانين الوطنية بذكر الدستور؟
فعلا إذا مانحن رجعنا إلى المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية نجده ينص بوضوح كبير على الركائز التي ينبغي احترامها في أي إجراء يجري ضد أي مشتبه فيه أو متهم وحددها فيما يلي :
1- لكل فرد حق في الحرية وفى الأمان على شخصه. ولا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفا. ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا لأسباب ينص عليها القانون وطبقا للإجراء المقرر فيه.
2 – يتوجب إبلاغ أي شخص يتم توقيفه بأسباب هذا التوقيف لدى وقوعه كما يتوجب إبلاغه سريعا بأية تهمة توجه إليه.
3. يقدم الموقوف أو المعتقل بتهمة جزائية، سريعا، إلى أحد القضاة أو أحد الموظفين المخولين قانونا مباشرة وظائف قضائية، ويكون من حقه أن يحاكم خلال مهلة معقولة أو أن يفرج عنه. ولا يجوز أن يكون احتجاز الأشخاص الذين ينتظرون المحاكمة هو القاعدة العامة، ولكن من الجائز تعليق الإفراج عنهم على ضمانات لكفالة حضورهم المحاكمة في أية مرحلة أخرى من مراحل الإجراءات القضائية، ولكفالة تنفيذ الحكم عند الاقتضاء.
4. لكل شخص حرم من حريته بالتوقيف أو الاعتقال حق الرجوع إلى محكمة لكي تفصل هذه المحكمة دون إبطاء في قانونية اعتقاله، وتأمر بالإفراج عنه إذا كان الاعتقال غير قانوني.
5. لكل شخص كان ضحية توقيف أو اعتقال غير قانوني حق في الحصول على تعويض.
والحق في محاكمة حضورية زادت في تفصيله المادة 14 من العهد كذلك حين نصت على ما يلي :
1- الناس جميعا سواء أمام القضاء. ومن حق كل فرد، لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون. ويجوز منع الصحافة والجمهور من حضور المحاكمة كلها أو بعضها لدواعي الآداب العامة أو النظام العام أو الأمن القومي في مجتمع ديمقراطي، أو لمقتضيات حرمة الحياة الخاصة لأطراف الدعوى، أو في أدنى الحدود التي تراها المحكمة ضرورية حين يكون من شأن العلنية في بعض الظروف الاستثنائية أن تخل بمصلحة العدالة، إلا أن أي حكم في قضية جزائية أو دعوى مدنية يجب أن يصدر بصورة علنية، إلا إذا كان الأمر يتصل بأحداث تقتضي مصلحتهم خلاف ذلك أو كانت الدعوى تتناول خلافات بين زوجين أو تتعلق بالوصاية على أطفال.
2 – من حق كل متهم بارتكاب جريمة أن يعتبر بريئا إلى أن يثبت عليه الجرم قانونا.
3- لكل متهم بجريمة أن يتمتع أثناء النظر في قضيته، وعلى قدم المساواة التامة، بالضمانات الدنيا التالية:
(أ) أن يتم إعلامه سريعا وبالتفصيل، وفى لغة يفهمها، بطبيعة التهمة الموجهة إليه وأسبابها.
(ب) أن يعطى من الوقت ومن التسهيلات ما يكفيه لإعداد دفاعه وللاتصال بمحام يختاره بنفسه.
(ج) أن يحاكم دون تأخير لا مبرر له.
(د) أن يحاكم حضوريا وأن يدافع عن نفسه بشخصه أو بواسطة محام من اختياره، وأن يخطر بحقه في وجود من يدافع عنه إذا لم يكن له من يدافع عنه، وأن تزوده المحكمة حكما، كلما كانت مصلحة العدالة تقتضي ذلك، بمحام يدافع عنه، دون تحميله أجرا على ذلك إذا كان لا يملك الوسائل الكافية لدفع هذا الأمر.
(هـ) أن يناقش شهود الاتهام، بنفسه أو من قبل غيره، وأن يحصل على الموافقة على استدعاء شهود النفي بذات الشروط المطبقة في حالة شهود الاتهام.
فإذن حسب المادة 14 فإن المحاكمة يجب أن تكون حضورية ، ومن حق المتهم أن يناقش شهود الاتهام بمحضرهم وبحسب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية فإن المحاكمة عن بعد في هذه الحالة تصبح مخالفة لبعض مقتضياته المتعلقة بحضور الأطراف وتواجههم مع بعضهم البعض ، لأن المتهم في المحاكمة عن بعد ، لن يكون حاضرا بل يكون بعيدا عن قاعة الجلسة وعن الشهود والمطالب بالحق المدني والمسؤول المدني ( وإن كان في الواقع هو قريب وحاضر افتراضيا ) وهذه ربما هي المواد التي يرجع إليها الرافضون للمحاكمة عن بعد ويعتبرونها مخالفة للمواثيق الدولية ، وإذا ما اقتصر نظرنا على المادتين السابقتين لا بد أن نوافقهم الرأي ونعتبر المحاكمة عن بعد مخالفة للقوانين الدولية التي تطلب أن تكون المحاكمة بحضور كل الأطراف .
و لكن إذا كانت المادتين المشار إليهما أعلاه تتكلمان عن ظروف توقيف المتهمين وعن حقوق دفاعهم ومحاكمتهم محاكمة عادلة وحضورية ، فكل هذا يكون و يتم ضمانه بحكم وتوصية هذا العهد الدولي الذي وقعت عليه أغلب دول العالم في الحالات العادية فقط ، لكن الأمر يكون خلاف دبك في حالة الطوارئ الاستثنائية ، فحينذاك يمكن للدول أن تدير الظهر بقوة لبعض بنود هذا العهد الدولي ولا تعتبر خارقة للقانون الدولي أو لهذا العهد ، ودليلنا في ذلك هو ما نصت عليه المادة الرابعة من نفس العهد حين أشارت بكل وضوح إلى ما يلي :
في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة، والمعلن قيامها رسميا، يجوز للدول الأطراف في هذا العهد أن تتخذ، في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع، تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد، شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولي وعدم انطوائها على تمييز يكون مبرره الوحيد هو العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل الاجتماعي.
ونلاحظ أنه بعد أن أعطت الفقرة الأولى من المادة 4 الحق الكامل لعدم التقيد بمواد هذا العهد ، نجد أن الفقرة الثانية من نفس المادة حصنت بعض مقررات هذا العهد ومنعت خرقها حين نصت على ما يلي :
2- لا يجيز هذا النص أي مخالفة لأحكام المواد 6 و 7 و 8 (الفقرتين 1 و 2) و 11 و 15 و 16 و 18.
ويتبين لنا بشكل واضح من خلال المادة الرابعة أن العهد الدولي يعطي الحق للدولة في حالة الطوارئ أن لا تتقيد بالحقوق المسطرة في هذا العهد وخصوصا المادة 9 والمادة 14 منه التي تتكلم عن حقوق المتهمين ومحاكمتهم محاكمة حضورية وتوقيفهم وهي المواد التي لم تستثنها المادة 4 حين استثنت بعض المواد وجعلت خرقها مخالف للعهد حتى ولو كان خرقها كان في حالة الطوارئ الاستثنائية .
وما سطر في المادة 4 يمكن إن طبق بحذافير تنصيصاته أن يعدم بعض الحقوق التي يتمتع بها المتهمون في الحالات العادية والمفصلة في المادة 9 و14 من العهد ، وتصبح مشروعة ولا يخالف عدم التقيد بها في حالة الطوارئ الاستثنائية التي تهدد الأمة العهد الدولي .
ولكن مقترح المحاكمة عن بعد المقدم بالمغرب لن يعدم أي حقوق للمتهمين بل سيعوض فقط الحضور الفعلي للمتهمين بحضور افتراضي فقط لدرأ خطر تهديد حياة البعض .
وللزيادة في توضيح ما تم التنصيص عليه في المادة الرابعة نجد أن اللجنة المكلفة بحقوق الإنسان في دورتها الثانية والسبعون سنة 2001 وفي تعليقها العام رقم 29 على المادة 4 المتعلقة بعدم التقيد بأحكام العهد أثناء حالات الطوارئ أكدت على أنه يجب أن تكون تدابير عدم التقيد بأحكام العهد ذات طابع استثنائي ومؤقت. وقبل أن تقرر الدولة اللجوء إلى المادة 4 ، يجب أن يتوفر شرطان جوهريان هما: أن يكون الوضع بمثابة حالة طوارئ عامة تهدد حياة الأمة وأن تكون الدولة الطرف قد أعلنت رسمياً حالة الطوارئ .
إذن يظهر لنا أن هناك رخصة دولية من القوانين الدولية بمقتضى المادة 4 من العهد الدولي تسمح للدول في حالة الطوارئ التي تهدد الأمة وبعد إعلام الأمم المتحدة بعدم احترام بعض الحقوق التي يمكن أن يحرم منها المتهمون في حالة الطوارئ . ومن أهمها الحق في محاكمة حضورية والتي تعتبر موضوع حوارنا هذا .
وبما أن المغرب أعلن حالة الطوارئ بفعل كوفيد 19 الذي يهدد صحة الأمة ويهدد صحة العالم كله ، فيمكنه أن يتجاوز فقط الحق في المحاكمات التي كانت تجري بحضور كل الأطراف وتجري في جلسة علنية ، ويجعلها جلسة تجري بين كل الأطراف ولكن تجري عن بعد . وسنده في ذلك مقتضيات المادة 4 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وحالة الطوارئ التي أعلنها بفعل الفيروس الذي يهدد صحة المغاربة والمتهمين والقضاة والمحامين وكتاب الضبط والشهود وكل الحاضرين بالجلسة وكذا رجال الشرطة أو الدرك الدين والسجناء الدين يرافقون المتهمين من السجن إلى المحكمة .
سؤال : إذن من خلال جوابكم، يتضح أن المادة 4 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، استثنت بعض الحقوق التي يجب احترامها حتى في حالة الطوارئ الاستثنائية، التي تعلنها الدولة. فهل يمكنكم أن توضحوا لنا بعض هذه الحقوق المستثناة وعلاقتها بالمحاكمة عن بعد؟
من بين أهم الحقوق التي تم استثناؤها بمقتضى المادة 4 من العهد الدولي و جعلتها حقا واجب الاحترام في الأوقات العادية أو حتى بعد حالة إعلان حالة الطوارئ الاستثنائية نجد المادة 6 التي استثنيت من رخص المادة 4 المبيحة لخرق بعض الإجراءات اللازمة في المحاكمات الزجرية وأكدت على ضرورة التمسك بها ، و هي المادة التي تتكلم عن الحق في الحياة الذي اعتبرته حقا ملازما لكل إنسان . وعلى القانون أن يحمى هذا الحق. و هو حق لا يجوز حرمان أحد منه تعسفا كيفما كانت الظروف ولو في حالة إعلان الطوارئ الاستثنائية . وهو المرتكز الذي استند عليه نقيب هيئة المحامين بالدار البيضاء الأستاذ حسن بيرواين للتعامل بمرونة في بلاغه حول المحاكمة عن بعد واستند عليه كذلك السيد نقيب هيئة المحامين بتطوان الأستاذ محمد كمال مهدي . واستند عليه السيد نقيب هيئة المحامين بالجديدة الأستاذ مصطفى مكار للتعامل بمرونة مع المحاكمة عن بعد ، وهو نفس ما اعتبره النقيب عبد الرحيم الجامعي في مقال له حول الموضوع إجراء مهما يحفظ حياة وصحة وسلامة المعتقلين والمتقاضين وهو نفس ما ذهب إليه الأستاذ يوسف مرصود المحامي بهيئة الدار البيضاء الذي اعتبر في مقال له أن الحق في الحياة أسمى الحقوق وزاد في تبيان ذلك بالإحالة على الشريعة الإسلامية التي تعتبر حفظ النفس وصيانتها من مقاصد الدين الإسلامي ، ويتضح من خلال بلاغات النقابات المذكورة أو مقالات بعض السادة المحامون أنهم كذلك جعلوا الحفاظ على الحق في الحياة مبررا لا غبار عليه ولا قيد يقلل من إطلاقيته ومن أهميته وأسبقيته على باقي الحقوق ، حتى لو مست المحاكمة عن بشكل مباشر أو غير مباشر مبدأ الحضورية والتواجهية في المحاكمات الجنائية. وهذا ربما ما جعل مدبجي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يعتبرون أن حق الحياة مقدم على حقوق المتهمين وحقوق الإنسان التي لم تستثنها المادة 4 وسمحت للدول بخرقها ومنعت الدول من اعتماد المادة 4 لخرق الحق في الحياة حتى في حالة الطوارئ الاستثنائية .
سؤال : ولكن نجد أن الدستور المغربي، رغم تنصيصه على أن المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، تسمو على القوانين الوطنية، إلا أنه نص على أن هذه المواثيق يجب أن تكون في نطاق أحكام دستور المملكة ، وقوانين المملكة ويجب أن لا تكون متعارضة معها؟
في تصدير دستور 2011 الذي يعتبر جزءا لا يتجزأ من هذا الدستور. نجد أن المغرب جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، مع ربط هذا التفضيل بعدم معارضتها لدستور المملكة وقوانينه الداخلية .
وهذا ما يجعل العهد الدولي الذي صادق عليه المغرب يسمو فوق القوانين المغربية، ويجعل تطبيق المادة 4 من العهد الدولي بخصوص حالة الطوارئ التي تم إعلانها و البدأ في اعتماد التقاضي عن بعد مشروعة وهي مادة ليست مخالفة للدستور المغربي . لأن المادة 20 من الدستور نفسها تعتبر الحق في الحياة أول الحقوق لكل إنسان وأهمها . وأكدت أن هذا الحق محمي بالقانون وهذا يجعل الإجراءات القانونية أو الإدارية التي تسعى لحمايته مقدمة على أية قوانين أو إجراءات أخرى ، وحماية حق المعتقلين والقضاة والمحامين وكتاب الضبط ورجال الشرطة عن طريق ابتداع المحاكمة عن بعد ، هو إجراء يتوخى الحفاظ على حياة الأشخاص لذلك فكل إجراء تتخذه الدولة هو محمي بقوة نصوص الدستور، ونص المادة 20 يعتبر متوافقا مع التنصيصات الذي أشرنا إليه أعلاه وليس مخالفا لها .
ونجد كذلك المادة 21 من دستور 2011 تؤكد على أنه لكل فرد الحق في سلامة شخصه وأقربائه.
والمادة 22 من الدستور بدورها منعت بشكل لا لبس فيه المس بالحق في الحياة حين أكدت على ما يلي : (لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة ). ونصوص الدستور تسند ظهر وزير العدل والحكومة في تبنيها للمحاكمة الزجرية عن بعد حفظ في سبيل الحفاظ على حياة المواطنين المغاربة.
وتنصيص دستور المملكة على الحق في الحياة وجعله أهم الحقوق وعدم تنصيصه أو تخصيصه على أن المحاكمة يجب أن تكون حضورية يجعل من باب أولى تقديم حفظ الحق في الحياة بالاعتماد على المحاكمة عن بعد لأنها ستحفظ لنا أهم حق دستوري نص عليه دستور 2011 .
وحتى دستور 2011 نجده حين تكلم عن المحاكمة العادلة في الفصل 23 و 120 من الدستور اعتبرهما مضمونتان وهذا يرتب أنه يبقى لكل متضرر وحده فقط من خرق هذا الحق أن يلجأ وحده للتشكي والتظلم بشأن خرق حقه المضمون ، بينما حين تحدث عن الحق في الحياة في الفصل 20 منه اعتبر أن القانون يحمي هذا الحق ، وبالنسبة لي هناك فرق لغوي وتفضيلي حتى في حمولته الدستورية بين أن تضمن الدولة حق الحياة بالقانون وتتدخل السلطات العمومية لضمان هذا الحق حسب الفصل 21 من الدستور ، وحق الحياة كلما تم خرقه أو تم تهديده يمكن للسلطات أن تتدخل بكل وسائلها وقوتها لحمايته.
عكس الحق في محاكمة عادلة الذي يضمنه الدستور ولكنه لا يحميه كما يحمي الحق في الحياة ولا يحرك للتصدي لخرقه السلطات العمومية ، وعلى من خرق حقه في محاكمة عادلة أن يسلك سبل التشكي والطعون القانونية للدفاع عن خرق حقه في المحاكمة العادلة .
سؤال : ولكن رغم أن نصوص دستور 2011، كما قلتم، جعلت الحق في الحياة أهم الحقوق، وحقا مقدسا ومقدما على باقي الحقوق؛ لكن ثمة نصوص قانونية في قانون المسطرة الجنائية، توجب أن تكون المحاكمة بحضور المتهم والأطراف، وتعتبر كل محاكمة جرت عن بعد، مخالفة لنصوص المسطرة الجنائية الصريحة، وهي النصوص التي اعتمد عليها رافضو المحاكمة عن بعد؟
جواب : إذا كانت المادة 311 من قانون المسطرة الجنائية تنص على أنه يحضر المتهمون شخصياً و معها المادة 312 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على أنه يتعين على كل متهم أن يحضر في الجلسة، باستثناء الحالات المنصوص عليها في المادة 311 والفقرة الثانية من المادة 314 بعده.
فإن الجملة الثانية للفصل 311 تعطي الحق للمحكمة لإعفاء المتهم من الحضور للجلسة طبقاً للفقرة الثانية من المادة 314 بعده. وهو ما يمكن أن نعتبره نافدة صغيرة مفتوحة مند زمن بعيد وفي الأوقات العادية لإجراء المحاكمات دون حضور المتهم .
والفقرة الثانية من الفصل 314 من قانون المسطرة الجنائية تعطي الحق للمتهم أن يطلب شخصياً أو بواسطة محاميه أن تجرى المناقشات في غيبته ، و إذا ارتأت المحكمة عدم ضرورة حضوره شخصيا، فإنها تستغني عن حضوره ويكون حكمها بمثابة حضوري.
فهذه الفقرة تعطي الحق للمحكمة في قبول محاكمة المتهم في غيبته بناء على طلب المتهم أو محاميه رغم أن مبدأ الحضورية والتواجهية فيها هو أس المحاكمة الجنائية ، وترتب على طلبه وقراراها أن يكون الحكم بمثابة حضوري وهو قرار لا يتخذ لحفظ الحياة كما في المحاكمة عن بعد بل يمكن أن يتخذ بطلب من المتهم أو دفاعه لمبررات عادية من مثل كون المتهم يعمل في مكان بعيد لن يتمكن معه من الحضور للمحاكمة ومع ذلك تستجيب المحاكم لبعض هذه الطلبات.
إذن فمبدأ محاكمة المتهم في غيبته والذي يعتبر أشد فتكا وإيلاما ومسا بشرعية المحاكمة الحضورية هو مبدأ مقرر في قانون المسطرة الجنائية مند عشرات السنين ، وهو عكس المحاكمة عن بعد التي تجري المحاكمة فيها بحضور افتراضي مع المتهم ولا تجري المحاكمة في غيبته ، كما هو مقرر في الفصل 312 و314 من قانون المسطرة الجنائية .
بل إن محاكمة المتهم دون حضوره وهو ما سمته المسطرة الجنائية المحاكمة في غيبة المتهم نجد أن المادة 314 أشارت للكثير من حالاته حتى دون أن يكون هناك مبرر وجيه يصل إلى حد تهديد الحياة لتقرره وتعمل به وتدير المحاكمة وتحكم في غبية المتهم ونذكر منها أنه يمكن محاكمة المتهم في غيبته في حالة توصله بالاستدعاء وعدم حضوره وكذلك يمكن محاكمته غيابيا مع اعتبار الحكم الصادر ضده حضوري أو بمثابة حضوري في الأحوال الآتية:
– إذا طلب المتهم شخصياً أو بواسطة محاميه أن تجرى المناقشات في غيبته، وارتأت المحكمة عدم ضرورة حضوره شخصيا، فإنها تستغني عن حضوره ويكون حكمها بمثابة حضوري؛
– إذا تسلم المتهم الاستدعاء شخصيا بصفة قانونية وتغيب عن الحضور من غير أن يبرر تخلفه بعذر مشروع، يمكن أن يحكم عليه ويكون الحكم الصادر بمثابة حضوري.
– إذا صرح المتهم بعد صدور حكم تمهيدي حضوري قضى برفض مطالبه في نزاع عارض بأنه يعتبر نفسه متغيبا قبل الاستماع إلى النيابة العامة، فإن الحكم الذي يصدر في جوهر الدعوى يكون حضورياً.
– يسري نفس الحكم في حالة المتابعة بعدة تهم إذا قبل المتهم حضور المناقشة في شأن تهمة واحدة أو عدة تهم، وصرح بأنه يعتبر نفسه بمثابة المتغيب فيما يتعلق بالتهم الأخرى، وكذلك إذا أعلم بتأجيل القضية قصد النطق بالحكم لجلسة محددة التاريخ.
بل حتى في قضايا الجنايات التي تعتبر قضايا قد تصل فيها العقوبة إلى الإعدام يمكن للمحكمة أن تطبق المسطرة الغيابية على بعض المتهمين وتتم المحاكمة في غيبتهم وتصدر الأحكام عليهم وهم غائبون غير حاضرين في إطار ما يسمى المسطرة الغيابية .
إذن نلاحظ أن هناك مقتضى أخطر على حقوق المتهم الذي يحاكم ، له مكان فسيح وعريض في قانون المسطرة الجنائية وهو إمكانية إجراء المحاكمة في غيبة المتهم إما بطلب منه والحكم عليه وهو عالم ومتتبع للعقوبة التي ستصدر ضده أو في حالات أخرى حددها القانون تكون المحاكمة في غيبته وقد تصدر ضده عقوبة دون أن يعلم بها ، وحتى إذا ذهبنا بعيدا في طرحنا للمحاكمة عن بعد ، فهي ليست محاكمة تجري في غيبة المتهم بل تجري في حضوره وفي حضور كل أطراف المحاكمة من قضاة وكتاب الضبط ومحامين وشهود ( إذا ما تم تجهيز منصات خاصة بالشهود ) وكل واحد يشاهد الآخر بعينه ويسمعه بأذنه ويرى حركات وجهه وابتسامته وتجهمه وبكائه وصراخه وتوسله ، ويستمع القاضي للمتهم وللشهود وللدفاع وللنيابة العامة ، ويمكن لكل طرف أن يوجه أسئلة للمتهم ، فالمحاكمة عن بعد هي في الحقيقة محاكمة افتراضية عن بعد كل شيء حاضر فيها إلا الأجساد التي تكون مبتعدة فيها ، والمحكمة لا تهتم في المحاكمات بحضور الأجساد بقدر ما تهتم بما يصدر عن المتهم والشهود والمسؤولين المدنيين ومحاميهم من أقوال ودفاع وهو الذي توفره تقنية المحاكمة عن بعد . فقد يحضر المتهم ويمتنع عن الكلام ويدخل المحكمة في متاهات قانونية ومسطرية لا قبل لها بها .
بل إن المحكمة أو السيد قاضي التحقيق حينما لم تكن هناك وسائل متطورة وتقنية تقرب تصريحات المتهمين أو الشهود للقاضي وكان يتعذر عليهم الحضور للمحكمة أو لمكتب السيد قاضي التحقيق لطارئ صحي مثلا كان قاضي التحقيق ينتقل إلى منزل الشاهد بعيدا عن مكتب تحقيقه ويستمع للشاهد في غيبته ( المادة 131 من ق م س ج ) بل إن المحكمة بمقتضى المادة 312 من ق م ج نصت على أن المحكمة يمكنها إذا كان المتهم في وضعية صحية يتعذر عليه فيها حضور الجلسة، ووجدت أسباب خطيرة لا يمكن معها تأجيل الحكم في القضية، فإن المحكمة تكلف بمقتضى مقرر خاص ومعلل أحد أعضائها بمساعدة كاتب الضبط، لاستنطاق المتهم في المكان الذي يوجد به. وتحدد المحكمة عند الاقتضاء الأسئلة التي يقترحها القضاة والنيابة العامة والأطراف. و يتم الاستنطاق بمحضر محامي المتهم عند الاقتضاء. ويطرح القاضي على المتهم الأسئلة التي يراها ضرورية والأسئلة التي حددتها هيئة المحكمة والأسئلة التي يمكن أن يتقدم بها دفاع المتهم. وإن كانت هذه الأمثلة يلتقي فيها القاضي بالمتهم أو الشاهد ، فإنها أمثلة واضحة على انتقال أعضاء المحكمة خارج قاعات الجلسات للاستماع لأطراف لم يتمكنوا من الحضور لجلساتها لكي لا تضيع الحقيقة والعدالة بوفاة أو إعاقة لا قدر الله.
وهذه المقتضيات كانت مقررة منذ عشرات السنين حين لم يكن لا تواصل عن بعد ولا غير ذلك وكان التواصل عبر الهاتف يحظى به فقط قلة من علية القوم
والمثير كدلك هو أن نقف على مقتضيات المادة الثانية من القانون رقم 37.10 الذي قام بتتميم الفرع الخامس من قانون المسطرة الجنائية بالتنصيص على الفقرة الأولى والثانية من المادة 347 من قانون المسطرة الجنائية والتي أكدت في تناغم واستشراف لمستقبل الإجراءات الجنائية التي ستكون في عهد التواصل والاتصال الآني وفي إطار سياسة جنائية لحماية الشهود وتشجعيهم على أدائها حتى في أخطر الملفات أكدت على ما يلي : (إذا كانت هناك أسباب جدية تؤكدها دلائل على أن حضور الشاهد للإدلاء بشهادته أو مواجهته مع المتهم. من شأنها أن تعرض حياته أو سلامته الجسدية أو مصالحه الأساسية أو حياة أفراد أسرته أو أقاربه أو سلامتهم الجسدية للخطر أو مصالحهم الأساسية، جاز للمحكمة بناء على ملتمس النيابة العامة أن تأذن بتلقي شهادته بعد إخفاء هويته بشكل يحول دون التعرف عليه. كما يمكنها الإذن باستعمال الوسائل التقنية التي تستعمل في تغيير الصوت من أجل عدم التعرف على صوته، أو الاستماع إليه عن طريق تقنية الاتصال عن بعد ) .
وهذا دليل جدي على وجود تقنية الاستماع والمحاكمة عن بعد وإن كانت تهم صنفا من الشهود . ولكنه يؤكد لنا على وجود زرع للمحاكمة عن بعد في مسطرتنا الجنائية ترد على من ينفون وجود أي مقتضى قانوني ينص على المحاكمة عن بعد في قانون المسطرة الجنائية .
سؤال : إذن يتضح لنا من خلال طرحكم وموقفكم، أن نصوص المواثيق الدولية والدستور المغربي وقانون المسطرة الجنائية، تتكلم بشكل صريح على إمكانية المحاكمة عن بعد أو تلمح إلى عدم وجود ما يحرم العمل بها؛ فهل يمكن لهذه النصوص القانونية أن تقنع معارضي المحاكمة عن بعد؟
جواب : إذا لم يقتنعوا بكل ما طرحناه يمكننا أن نحيلهم كذلك على مرسوم بقانون رقم 292 – 20 – 2 المتعلق بإعلان حالة الطوارئ وبالضبط مادته الثالثة التي تسعف الحكومة ووزير العدل باعتباره أحد أعضائها في اتخاذ قرار إجراء المحاكمات عن بعد ، وبيان ذلك كما يلي : إذا رجعنا إلى المادة الثالثة من مرسوم بقانون 292 – 20 – 2 ، المتعلق بإعلان حالة الطوارئ نجدها تنص بكل وضوح على ما يلي : ( على الرغم من جميع الأحكام التشريعات والتنظيمية الجاري بها العمل تقوم الحكومة خلال فترة إعلان حالة الطوارئ باتخاذ جميع التدابير اللازمة التي تقتضيها هذه الحالة وذلك بموجب مراسيم ومقررات تنظيمية وإدارية أو بواسطة مناشير وبلاغات من أجل التدخل الفوري والعاجل للحيلولة دون تفاقم الحالة الوبائية للمرض وتعبئة جميع الوسائل المتاحة لحماية حياة الأشخاص وضمان سلامتهم )
ويظهر لنا من خلال المادة المذكورة أن الحكومة وبالاستناد فقط على هذه المادة وبالاعتماد فقط على منشور أو بلاغ صادر عنها ، يمكنها أن تعلن عن بدأ المحاكمات عن بعد حتى ولو كانت المحاكمات عن بعد محرمة وغير مباحة بشكل صريح في قانون المسطرة الجنائية ، إذا كان ذلك سيحول دون تفاقم وانتقال الوباء إلى السجناء ورجال العدالة وبعض الموظفين وقد يؤدي إلى تهديد حياتهم ، بعدما يتبين لها أن هذه الوسيلة يمكنها أن تحمي حياة بعض الأشخاص وتضمن سلامتهم . والمادة الثالثة صريحة في هدم تراتبية احترام القانون الأدنى للقانون الأسمى في مثل هذه الظروف الاستثنائية بل إنها جعلت مجرد منشور أو بلاغ يمكنه أن يكون مخالفا لقوانين جاري بها العمل ومنها القوانين الإجرائية إذا كان هذا المنشور أو البلاغ يحول دون تفاقم الحالة الوبائية ويحافظ على سلامة الأشخاص ويضمن سلامتهم ، ويصبح البلاغ أو المنشور معطلا لقانون جاري العمل به ، طيلة فترة الطوارئ ويجعل العمل بالمرسوم أو البلاغ أو المنشور أمرا مقدما على القانون المخالف ومعطلا لبعض مقتضياته التي تخاف المنشور أو البلاغ .
وهذا التوجه التشريعي الاستثنائي المحكوم بحالة الطوارئ الصحية في المادة الرابعة من نفس المرسوم وفي إطار توسع تجريمي غير معهود لمعاقبة كل مخالفي مرسوم الطوارئ نجده يعاقب كذلك على كل من يعرقل تنفيذ قرارات السلطات المتخذة بمقتضى هذا المرسوم ، أو يحرض الغير على مخالفة القرارات المذكورة حتى بواسطة المكتوبات ، وهذا التشدد العقابي والتوسع التجريمي الذي أتت به المادة 4 من المرسوم هو راجع لحساسية الظروف التي تمر بها بلادنا أمام هذه الجائحة التي تهدد سلامة وحياة وصحة المواطنين والتي لا يمكن التعامل معها إلا بتشدد وتوسع في التجريم حتى يتم قطع حابل كل شخص يفكر في مجرد نسف جهود الدولة لوقف انتشار الوباء بأية وسيلة كانت .
و قوانين الطوارئ كما يعلم الجميع لها خصوصيات استثنائية مؤقتة يمكنها أن تمس ببعض الحقوق وتجرم أفعالا كانت مباحة في سبيل الحفاظ على وحدة الأمة و سلامة م وحياة مواطنيها ..
و لكن ما سطره السادة المحامون المحترمون ممن كتبوا في هذا الموضع و عبروا فيه عن رأيهم القانوني والفقهي المؤيد أو المعارض له ، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ندخله في خانة مخالفة المادة 4 من المرسوم ، لأن كتاباتهم كانت في إطار جدال قانوني يروم الدفاع عن شرعية الإجراءات التي تتخذها الدولة ومدى احترامها للقانون ولمبادئ العدالة ، وهذا من حقوقهم المحفوظة التي تدخل في جدول أعمالهم اليومية ، ويدخل في صميم مهامهم التي يدافعون عنها صباح مساء ويكون نقاش كل محاكمة تنظرها المحاكم المغربية حين يكون فيها رأيان مختلفان للمحامي الموكلين عن أطراف متعارضة المصالح ، واختلاف السادة المحامين ودفاعهم عن وضعيات وقضايا مختلفة من مراكز وزوايا مختلفة هي تلك السمة الحلوة السماع التي تزين وتبهر في عمل المحامين .
سؤال : ولكن هناك من يعتبر أن اعتماد المحاكمة عن بعد، قد يمس بمبدأ علنية الجلسات، ويجعل المحاكات تجري فقط بين أطرف الدعوى بدون جمهور؛ ما ردكم على ذلك؟
جواب : العلانية التي تحققها وسائل التواصل الجديدة ومنصات التواصل الاجتماعية لا حدود لها ، ويمكن لمعالجة هذا الأمر أن تعمل المحاكم على إنشاء صفحات خاصة بها على وسائط التواصل الاجتماعي تبث فيها المحاكمات التي تدور في محاكمها ، وتسمح لكل من أراد أن يتتبعها من عائلة المتهم أو الضحية أن يدخل لمتابعتها مباشرة . ولكن إطلاق علانية الجلسات على منصات التواصل الاجتماعي لا يمكن أن نعرف نتيجتها ، لذلك من الأفضل في الوقت الحالي حسب رأيي أن تجري المحاكمات في بداية التجربة بين أطراف الدعوى ويمكن أن يسمح لفرد قريب جدا من عائلة المتهم أو الضحية أن يتابع محاكمته في قاعة بالمحكمة يتم تخصيصها لذلك ، مع العمل على عدم تكديس الأقارب في القاعة بل إدخالهم فردا فردا كلما دنت ساعة محاكمة كل قريب لهم . مع قياس درجة حرارتهم وإلزامهم بارتداء الكمامات . وإلزامهم بمغادرة المحكمة مباشرة بعد انتهاء محاكمة قربيهم ، ولكن يمكن للمسؤولين أن يتجاوزوا مبدأ علنية الجلسات ويعطلوه إذا تبين لهم أن من شأن تفعيله أن يهدد حياة العاملين بالمحكمة اعتمادا على نفس المبررات التي سقناها أعلاه .
سؤال : حسب ما بلغ إلى علمي، فإن نقابات الموظفين تعارض انتقال كتاب الضبط للسجون، للتأكد من هوية المتهمين ، وإن هناك كتابا ضبط رفضوا الانتقال إلى السجون، واعتبروها تهديدا لحياتهم؛ فهل يمكنهم بموقفهم هذا، أن يفشلوا المحاكمة عن بعد، سيما أن كاتب الضبط يعتبر شاهدا مهما على إجراءات المحاكمة الزجرية ؟
جواب : في الحقيقة أنا لا أعرف لماذا يُطلب من كاتب الضبط أن ينتقل للسجن ليسجل هوية المتهم وتسجيل تصريحاته ، فالتحقق من الهوية إجراء يقوم به رئيس الجلسة ، وسيقوم بها عن بعد ويستمع للمتهم عن بعد ، فمن المضحك أن يتم التحقق من هوية متهم عن بعد من طرف القاضي ويطلب من كاتب الضبط تسجيل هويته عن قرب ، في رأيي فالعمل بالمحاكمة عن بعد يجب أن يؤخذ كله أو يترك كله ، فكاتب الضبط يمكن أن يجلس في مكتبه أو في قاعة الجلسات ويضمن تصريحات المتهم عن بعد ، ويمكن للمتهم وهو بالسجن وأمام الكاميرا أن يدلي ببطاقته الأصلية ويقربها للكاميرا التي سيشاهدها القاضي وكاتب الضبط والنيابة العامة والمحامون ويكون بالقرب منه موظف سجن ، يحول بينه وبين كل احتيال في عرض هويته ، ولكن فكل محاولة منه للاحتيال ستفضحها الكاميرا التي لا تقل حدة نظرها وتصوريها عن حدة نظر كاتب الضبط بل هي تتفوق على كاتب الضبط في أنها تسجل كل ما يصدر عن المتهم وكل ما يقدمه للمحكمة في حين يمكن لكاتب الضبط أن يغفل كثيرا من التصريحات والوقائع التي تعرض على المحكمة ، فإلزام كاتب الضبط بالتوجه للسجن لا معنى له ، إذا كان كل ما سيقدمه المتهم ويدلي به مسجل بالكاميرا وسيضمنه كاتب الضبط في محضره في نفس اللحظة ولو كان من بعيد ، ولكن افتراضيا يكون المتهم في المحاكمة عن بعد أقرب لكاتب الضبط من منصة كاتب الضبط في محاكمة علنية . وربما ما نصت عليه المادة 300 من ق م ج التي أكدت على أنه يجب تحت طائلة البطلان أن تتم إجراءات البحث والمناقشات في جلسة علنية ما عدا في الحالات المنصوص عليها في المادتين 301 و302، وهي مادة لا تطلب حضور الجميع ولا تستثني أحدا من أطراف الخصومة ، ولا يمكن للعلنية المشار إليها في الفصل المذكور أن تتحقق بين كاتب الضبط والمتهم في المؤسسة السجنية ، وكذلك ما أشارت إليه كذلك المادة 338 من قانون المسطرة الجنائية التي ترتب البطلان عن إخلال كاتب الضبط في تضمين هوية الشهود واليمين التي أدوها بمحضر الجلسة. هي التي جعلتهم يضحون بإرسال كاتب الضبط إلى السجن لتفادي بطلان المسطرة، ولكن هذه المادة تتكلم عن الشاهد ولا تتكلم عن المتهم، وتبطل المسطرة في حالة نسيان تضمين هوية الشاهد أو تسجيل أدائه لليمين ، أما هوية المتهم التي تسجل عن بعد وتضمن في محضر الجلسة فهي نفس الهوية التي تسجل له وهو في قاعة الجلسة ، فليس للمتهم هويتنا هوية تكون وهو بعيد مكانيا وقريب حاضر افتراضيا وهوية أخرى تكون حين يكون حاضرا بالجلسة ، وفي حالة وجود هاتين الهويتين يمكن لوزارة العدل أن تخاف من تحريف في تسجيل الهوية وتكون محقة في إرسال كاتب الضبط للسجن ، لكن أمام وجود هوية واحدة للمتهم في كلتا الحالتين فلا يجدر بوزارة العدل أن تغامر وترسل موظفها لسجن يمكن أن يسجل فيه بداية نهاية حياته .
سؤال : إذن من خلال ما طرحتموه، يتضح أن توجه الحكومة للبدأ في المحاكمة عن بعد، هو توجه قانوني؛ فهل هناك دول أخرى بدأت هذه التجربة؟
جواب : قبل أن نتكلم عن تجربة دول أخرى لابد أن نشير إلى أن التفكير في المحاكمة عن بعد واستعمال وسائل التوصل وتسجيل تصريحات المتهمين صوتيا وغيرها من مقترحات متوافقة مع التطور الذي يشهده العالم كان محل تفكير ودراسة بوزارة العدل المغربية منذ سنوات و تابعه وزير العدل السابق الأستاذ مصطفى الرميد ، وقد كانت أول تجربة عرفتها المملكة من خلال تجهيز محكمة الاستئناف بالدار البيضاء إذا لم تخني الذاكرة سنة 2016 لبداية محاكمة السجناء عن بعد دون حاجة لنقليهم ، لكن هذه التجربة الرائدة التي تبنتها وزارة العدل وشجعتها عليها وزارة العدل بقيت بدون تنفيذ حسب ما بلغ إلى علمي إلى أن حركت حجرة كوفيد 19 الحداة والقاتلة مياهها التي سكنت ، ليعاود المسؤولون الحديث عنها في ظل جائحة كورونا التي تعرفها بلادنا واستدعائها بسرعة من مخازن النسيان لتدخل ميدان العمل ، وقد بدأت المحكمة الابتدائية بواد زم وخريبكة يوم الخميس 23 أبريل 2020 إجراء محاكمة لمتهمين عن بعد في أول تجربة المحاكم المغربية في عهد جائحة كورونا ، وبدأت كذلك محكمة الاستئناف بمراكش والجديدة والمحكمة الابتدائية بالجديدة وسيدي بنور يوم 27/04/2020 ، التجربة في قضايا تهم بعض المعتقلين ، و التجربة التي تمت بسرعة أمام غائلة جائحة فيروس كوفيد 19 في المغرب ستكون لها بعض العثرات المنتظرة في بداية تطبيقها ، ولا بد أن نشير كذلك إلى أن مشروع قانون المسطرة الجنائية المنتظر فيه تنصيص صريح ومفصل لآليات المحاكمة عن بعد التي ستكون حتى في الأحوال العادية ليس لنا الوقت الكافي للحديث عنها ، كما أن بعض الدول العربية بدأت بتفعيل المحاكمة عن بعد حتى في الأوقات العادية منذ مدة لا بأس بها مثل الأردن وقطر والإمارات التي تمنح فيها للجهات المختصة السلطة التقديرية لإجراء المحاكمة عن بعد أو الاستجابة لأحد أطراف الخصومة بشأن اعتمادها ، و كذلك السعودية والجزائر التي اعتمدتها وجعلتها اختيارية ويجب أن يوافق عليها المتهم ، ,اجز الاتحاد الأوروبي استعمال تقنية المحاكمة عن بعد في المحاكمات الجزائية مند سنة 2000 ونفس الأمر بالنسبة للولايات المتحد الأمريكية .
وآخر ما يمكن أن نقوله هو أن المحاكمة التقليدية التي نعرفها، ونجد من يدافعها عنها بكل قوة، اليوم، حتى في ظل جائحة كورونا، في بضع سنين، ستكون مجرد ذكرى جميلة يتكلم عنها رجال الفقه في دروسهم التي سيقدمونها لطلبتهم حول تاريخ المحاكمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى