العدالة عن بعد”: مصلحة مَنْ تم جلبها… ومفسدة مَنْ تم دفعها ؟ R

محمد الشمسي – مقال رأي

قررت وزارة العدل بتنسيق مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية عقد “محاكمات عن بعد” تهم قضايا يوجد أصحابها رهن الاعتقال، حيث يبقى المتهم في المؤسسة السجنية، وينتقل إليه موظف تعينه المحكمة ليطلع على مدى تطابق هويته مع تلك الواردة في محضر الضابطة القضائية، وتتواصل الهيئة القضائية مع المهتم بكاميرات، بعد تثبيت شاشة في قاعة المحكمة، دون مزيد من التوضيح هل ستشمل المحاكمة عن بعد حتى مرافعات المحامين الذين يربطون الاتصال بالمحكمة من مكاتبهم أو منازلهم عبر السكايب؟، أم سيحضرون بأنفسهم قاعة الجلسة ليتحولوا إلى جزء من “مسلسل المحاكمة “عبر شاشة القاعة” ؟.

وأفتى أهل “العدالة عن بعد” أنها وسيلة أوجبتها حالة تفشي وباء كوفيد 19 ، خاصة بعد أن تسلل الفيروس إلى عدد من المؤسسات السجنية وأصاب المآت من السجناء والموظفين هناك، وبالتالي فهم مجبرون لا مخيرون، من “باب جلب المصلحة ودرء المفسدة”، وتقول هذه القاعد أنه إذا حدث تعارض بين المفاسد والمصالح وكانت في منزلة واحدة وجب درء المفاسد و تقديم المصالح، ويقصد أهل هذا الرأي بالمصالح هي الحق في الحياة بداية من سلامة السجين ومحيطه وكل المتعاملين معه من العدوى سواء تلك التي يمكنه نقلها لغيره أو تلك التي يمكن لغيره نقلها له، فيقوم هو بدوره بنقلها الى زملائه في المؤسسة السجنية، ويقصدون بالمفاسد هدم ركن من أركان المحاكمة العادية وليس العادلة ، و حرمان المتهم من حقه في محاكمة حضورية حضورا حقيقيا لا افتراضيا، ومتكاملة الأعمدة والزوايا والشروط تجري في فضائها الطبيعي والقانوني وهو قاعة المحكمة، وتتوفر فيها عناصر التواجهية المباشرة ما بين المتهم والمحكمة من جهة، وما بين المتهم وخصمه من جهة ثانية ، ومابين المتهم و كل شاهد من جهة ثالثة، فأفتى هذا الرأي بوجوب درء حقوق المتهم ومعه معايير المحاكمة العادية وليس العادلة، وتقديم مصلحة سلامة الحق في الحياة للجميع .

لكن هناك زاوية أخرى يطل منها صوت آخر يرى الصورة مقلوبة رأسا على عقب، فالمصلحة بحسب هذا الرأي هي إلزامية تحقيق العدالة صحيحة و كاملة غير منقوصة، لأن فضل تحقيق العدالة سالمة لا يختلف عن فضل صنع لقاح للفيروسات، وأن العدالة عن بعد تنهض معتلة، وما من رخصة أباحها المشرع لتجزيء العدالة وتقطيع أوصالها، فالمكلفون بتحقيقها وصونها ورعايتها نذروا أرواحهم لذلك بالقسم الذي استهلوا به مسارهم، ويعتبر هذا الرأي “العدالة عن بعد” صورة من صور “البعد عن العدالة”، وأن “العدالة عن بعد هي عدالة الخوف” والحكم تحت صوت الخوف باطل ومردود، ، والمفسدة هي ذعر وفزع من خطر محتمل قد لا يتحقق بالضرورة، وقد تتحقق نتيجته وهي انتقال العدوى بدون حضور السجين للمحكمة، فوجب بحسبهم جلب المصلحة ودرء المفسدة اعتبارا مما سبق بيانه، ويطرح أهل هذا الرأي منهجا للدفاع عن العدالة والإبقاء عليها قوية نافذة شجاعة غير مذعورة ولا مرتعبة وهو قرار يتطلب قسطا من الجرأة، وذلك بإخلاء سبيل جميع المتهمين المعتقلين الذين لم تصدر في حقهم أحكام قطعية، إما بعفو عام أو خاص ، أو في شكل سراح مؤقت أو في صورة رخص استثنائية، وإرجاء تحقيق العدالة سليمة غير مريضة إلى حين زوال الخطر والخوف المحدقين بها، فالخطر والخوف يبطلان العدالة كما يبطل الجماع الصيام، فلنعد النظر في “العدالة عن بعد” فمصلحة مَنْ تم تقديمها… ومفسدة مَنْ تم دفعها؟، ولكم واسع النظر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى