الإصابة في البؤر المهنية مسؤولية المشغل

بقلم / سعيد بعزيز

يعتبر نظام التعويض عن حوادث الشغل والأمراض المهنية، من أهم المكاسب الاجتماعية للأجراء، لما يقوم به من دور هام في تعزيز هذه المنظومة، ومن توفيق وتكامل بين الحاجة الملحة للشغل والمخاطر المحيطة به، مادام الشغل هو هدف الأجير لكسب قوت يومه، دون أن يعرض نفسه للحوادث والأمراض، وما يحمله في طياته من رد الاعتبار للطرف الضعيف في المعادلة، دون إثقال كاهل المشغل، عبر تحسين مستوى وشروط التغطية الاجتماعية، والحفاظ على سلامة الأجير والرقي بظروف تشغيله من حيث المكان والزمان وفق منظومة متكاملة يهدف الجميع إلى تكريسها وترسيخها ثقافة وفعلا.

وارتباطا بالوضع الوبائي الذي تعيشه الشغيلة المغربية في مجموعة من البؤر المهنية، بسبب انتشار جائحة فيروس كورونا ـ كوفيد 19، والمسؤولية المباشرة للمشغل المرتبطة بخروج الأجير سالما من مقر عمله، المتمثل في تحقيق نتيجة حفظ صحة وسلامة الأجير بمناسبة أداء مهامه، وسأحاول الوقوف على بعض النقط التي اعتبرها في اعتقادي مدخلا أساسيا لمسؤولية المشغل عن الإصابات التي تلحق بالأجراء في الوسط المهني جراء إصابتهم بفيروس كورونا.

يجدر التذكير بالبعد الاجتماعي لحكومة التناوب التي ترأسها الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، أنه بموجب قانون رقم 18.01 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.02.179 بتاريخ 23 يوليوز 2002 تم التنصيص على إلزامية التأمين في مجال حوادث الشغل والأمراض المهنية، إلا أنه وبعد حوالي أحد عشر شهرا من صدور هذا القانون، وثمانية أشهر من تنفيذه، تم استثناء الأمراض المهنية من إجبارية التأمين بموجب قانون رقم 06.03 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.03.167 بتاريخ 19 يونيو 2003، وذلك نظرا للطابع الخاص بهذه المخاطر المهنية، وللتكلفة المالية المترتبة عن التأمين عن هذه الأخطار المهنية، حيث عبرت آنذاك شركات ومقاولات التأمين وإعادة التأمين عن تضررها من ارتفاع نسبة التأمين إلى 132%، مما جعل الحكومة تبرر المستجد بأنه لا يمثل أي تراجع أو مس بمصالح الشغيلة واعتبرت أن المكسب الأساسي هو تعميم التأمين عن حوادث الشغل واجباريته.

هذا الوضع نفسه، هو ما تم تكريسه من جديد بموجب أحكام القانون رقـم 18.12 يتعلق بالتعويض عن حوادث الشغل، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.14.190 بتاريخ 29 دجنبر 2014، وبالتالي فالأمراض المهنية لا تخضع إلى إلزامية التأمين.

والمرض المهني هو كل إصابة مهنية تلحق بالأجير نتاج تطور طبيعي وبيولوجي للداء المتراكم في جسده، بشكل يصعب معه تحديد تاريخ الفعل الضار ومصدره، لأنه يتسلل إلى جسد الأجير ببطء مع توالي الأيام ومرور الوقت دون أن يحس بها إلا بعد فوات الآوان، وهو ضرر ناتج عن احتكاكه مع مجموعة من المواد أو نتاج أدائه للشغل في مكان أو محيط أو بيئة معينة، يجعل الإصابة ترتبط بطبيعة المهنة أو طريقة أدائها، أو ظروف أو بيئة عملها، وبمدة معينة يتشبع فيها جسد الأجير بالعناصر المسببة للمرض المهني بشكل بطيء.

فالأجير الذي أصيب في وحدة صناعية، وهو يؤدي عمله في ظروف وبيئة، ينتشر فيها فيروس كورونا ـ كوفيد 19، ويتسلل إلى جسده خلسة وببطء شديد، لا يحس بالإصابة به إلا بعد فوات مدة معينة، تجعلنا أمام مرض يرتبط بالمهنة، فهل يمكن للأجير المصاب به أن يطالب بالتعويضات المقررة بموجب نظام التعويض عن حوادث الشغل، والذي تطبق أحكامه على الأجراء والمستخدمين المصابين بأمراض مهنية طبقا للشروط المحددة في النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالأمراض المهنية؟

للإحاطة بهذا الموضوع، لابد من التذكير أن المشرع لم يعط تعريفا للمرض المهني وإنما اكتفى فقط بتحديد العلل المؤلمة والأمراض المتسببة عن الجراثيم التعفنية والأمراض في قوائم ملحقة بالظهير الشريف المؤرخ في 31 مايو 1943 الممتدة بموجبه إلى الأمراض المهنية مقتضيات القوانين التشريعية الصادرة بشأن التعويض عن الأضرار الناجمة عن حوادث الخدمة، وقد كان عددها عند بداية العمل بهذا الظهير 18 قائمة دخلت عليها فيما بعد عدة تعديلات زادت في عدد الأمراض المهنية كما وسعت من قائمة المواد التي تتسبب في اندلاعها حتى أصبح عدد القوائم الملحقة بالظهير المذكور، كما وقع تغييرها وتتميمها يقدر بـ 35 قائمة وفق ما يستفاد من قرار وزير الشغل والشؤون الاجتماعية بتاريخ 20 ماي 1967 ليصبح بعد ذلك 99 قائمة بقرار وزير التنمية الاجتماعية والتضامن والتشغيل والتكوين المهني رقم 919.99 الصادر في 23 ديسمبر 1999، ثم أصبحت 108 قائمة بموجب قرار وزير الشغل والشؤون الاجتماعية رقم 160.14 الصادر بتاريخ 21 يناير 2014، حيث أوضح ماهية الأشغال والمواد والمدد الكافية لإلقاء المسؤولية على عاتق المشغل، لذلك يرتبط حق الاستفادة من التعويض عن الأمراض المهنية، كما حددها المشرع، بتوفر ثلاثة شروط أساسية، فهل توجد في وضعية الإصابة بفيروس كورنا ـ وفيد 19؟
أكيد، أنه لم يتم التنصيص على الإصابة بهذا المرض، ولا عن مدة المسؤولية فيه، ولا عن الأشغال التي يمكن أن تكون وراءه، إلا أن هذا لا يعني إخلاء مسؤولية المشغل.

فقد أكدت منظمة العمل الدولية في البند 4 من الفقرة 16 ضمن محور إصابات العمل بالملحق المتعلق بالمبادئ التوجيهية مصحوبة باقتراحات لتطبيقها، في الرقم 67 بشأن تأمين الدخل، الصادرة عن مؤتمر العمل المنعقد بجنيف يوم 20 أبريل 1944، على أنه توضع قائمة بالأمراض التي يفترض أنها مهنية، وتراجع من وقت لآخر بإجراءات بسيطة.

والملاحظ، أن القوائم التي تحدد الأمراض المهنية، لا تتسم بالجمود، بل هي متحركة وقابلة للتطور، مما يعني أن إمكانية إدراج أمراض جديدة ممكن، وبالتالي فعدم التنصيص على هذا المرض لا يعتبر تضييقا على حماية الأجير، بقدر ما يندرج في سياق الأمراض التي لم تكن البشرية تعلم بها، وعليه، يمكن مواجهة المشغل عبر إثبات العلاقة السببية بين المرض المهني والشغل، إذ لولا افتتاح الوحدات المهنية في عز الأزمة والظروف الحرجة التي تمر بها بلادنا، ما كان ليصاب الأجراء بهذا المرض، الذي يعتبر مصدره ومنشأه هو محل العمل، ومدته تقل عن المعمول به قانونا، إذ الحد الأدنى للمسؤولية حاليا هو ثلاثة أيام، على سبيل المثال بعض أنواع التسممات الحادة والتأثيرات الكاوية الناتجة عن الزرنيخ ومركباته المعدنية، كما قد تصل إلى إلى 50 سنة في الغرن العظمي الناتج عن الإشعاعات الأيونية، لكن بالنسبة لهذه الوضعية، أعتقد أنه بالنسبة لفيروس كورنا ـ كوفيد 19، يكفي للأجير أن يلج محل العمل لثوان معدودة ليصاب بالمرض، وهذا ما كشفت عنه وضعية البؤر المهنية الأخيرة، وبالتالي شرط المدة ينتفي فيما يتعلق بالبقاء في وسط أو بيئة يوجد بها الفيروس، فالمشرع وضع آجالا محددة لبقاء المسؤولية على عاتق المشغل وتختلف باختلاف المرض، فوضع المدة الكافية لاندلاع كل نوع منه، وتاريخ المرض المهني لا علاقة له بالبقاء في محل شغل الأجير، سواء غادر هذا الأخير محل شغله أم لا، فالآجال تبتدئ من اليوم الذي يكون فيه الأجير معرضا لخطر الإصابة بالمرض، وتنتهي بإنهاء المدة التي حددت قانونا بعد مغادرته لمحل تعرضه للخطر، سواء بقي بمحل الشغل نفسه أو غادره، والحالة هاته مدة استمرار المسؤولية حال توقف الأجير عن العمل تصل إلى أسبوعين.

المشرع الفرنسي وبنظرة حمائية للأجير، أسس للإقرار بالمرض المهني حتى وإن كان خارج القائمة، وذلك بموجب الفقرة 4 من الفصل 461-1 من قانون الضمان الاجتماعي، إذا ثبت أن المرض ناتج أساسا ومباشرة من العمل العادي للمتضرر، ويؤدي إلى وفاة العامل أو يخلف له عجزا بدنيا بنسبة تساوي 66.66 %، وهو نفس الاتجاه الذي سار عليه القضاء المغربي، إذ لم يبق رهينا بالأمراض المهنية المنصوص عليها، بل أخضعها للسلطة التقديرية في العديد من القرارات، حيث اعتبر “أن لائحة الأمراض المهنية الصادرة بمقتضى قرار وزير الشغل ليست حصرية، وعليه فيمكن اعتبار أمراض أخرى بمثابة أمراض مهنية بمقتضى شهادة طبية تثبت ارتباط المرض بمحيط الشغل، أي أن هذا المرض قد أصاب الأجير نتيجة عمله إما لاحتكاكه بمواد سامة أو مضرة بالصحة أو للأوضاع التي كان يمارس فيها عمله” ، كما أن “العلاقة السببية بين المرض الذي يدعيه المطلوب في النقض وعلاقته بالعمل الذي كان يقوم به مسألة تقنية تخول المحكمة من أجل إثباتها الاستعانة بأهل الخبرة وأن ذلك يقتضي أن يكون رأي هؤلاء حاسما في الموضوع، والثابت من الخبرة القضائية المأمور بها استئنافيا أنها خلصت إلى قيام العلاقة السببية بين مرض المصاب (السيليكوز) وهو مرض مهني المعبر عنه بالخبرة BPCO ونشاط المشغلة والذي خلق للمصاب عجزا دائما عن عمله” ، لتجعل بذلك استنشاق الغبار في مطحنة للحبوب لا تتوفر على غبار للمعادن الذي ينتج عنه مرض السيليكوز، هو مرض مهني بفعل نتائج الخبرة التي خلصت إلى العلاقة السببية بين مرض المصاب والشغل الذي كان يمارسه، ولو لم ينص عليه المشرع.
وفي قرار آخر “إن الأمراض المهنية موضوع ظهير 31/5/1943 وقرار 20 ماي 1967 ليست مذكورة على سبيل الحصر، بل على سبيل الإرشاد”. وفي قرار “وحيث أنه وإن كان مرض عرق النسا المصاب به الأجير غير وارد في جدول الأمراض المهنية، فإن ذلك لا يمنعه من إثبات العلاقة السببية بين ذلك المرض والعمل الذي يقوم به”.

ومنطلق القضاء في هذا الاتجاه، الذي أعتبره صحيحا، وإن كان من اختصاص السلطة التنفيذية، هو المراجعة الدورية للأمراض المهنية المنصوص عليها عبر توسيعها، وهو ما يدخل في إطار الإقرار بعدم نهائية الجداول من جهة، وفي إطار مسايرة إرادة المشرع الرامية إلى توسيع الحماية الاجتماعية لفائدة الأجير باعتباره الطرف الضعيف في العلاقة الشغلية من جهة ثانية.

فتشبيه الإصابة بفيروس كورنا ـ كوفيد 19، بأمراض مهنية أخرى مرتبطة بالوسط البيئي الذي يشتغل به الأجراء المصابون في البؤر المهنية، أمر موكول للقضاء، ووراد خاصة مع وجود العديد من الأمراض المهنية الناجمة عن العناصر المسببة للحساسية، كالتهابات الأنف والربو المهنية، والرئوية بفرط التحسس، فأقل ما يمكن الأخذ به هو العلاقة السببية بين مرض المصاب والشغل الذي كان يمارسه، واعتباره إصابة مهنية، وبالتالي تمكينه من الحماية.

توجد أنواع أخرى من الإصابات تقع تحت مسؤولية المشغل، قد يتعرض لها الأجراء، وهو ما لوحظ في بعض الوحدات الصناعية، لحظة توصلهم بخبر إصابة إحدى الموزعات داخل الوحدة بفيروس كورونا ـ كوفيد 19، حيث الصراخ وحالات الإغماء، وقد يتجاوز ذلك إلى مدة الخضوع للحجر الصحي المحددة في أسبوعين، بسبب إصابة رفاق لهم في مقر العمل، مما يعرض بعضهم إلى انهيار عصبي بسبب التوتر، واعتبارا لتوسع الفقه والقضاء في تفسير الحدث أو العامل الخارجي والعنيف في الإصابة بحادثة شغل، فإن هذا الحدث أو العامل يمكن أن يحصل نتيجة صدمة بسيكولوجية أو اضطراب نفسي على إثر سماع خبر غير سار أو مشاهدة لقطة مروعة، فيلحق بالمصاب أضرارا نفسية قد تلاحقه طوال حياته، كما يمكن أن تسبب له أضرارا مادية ومعنوية لا يحس بالمعاناة منها إلا المصاب، لذلك حدد المشرع مفهوم الضرر الذي يمكن أن يلحق بالأجير جراء حادثة شغل، بموجب الفقرة الأخيرة من المادة الثالثة من القانون رقـم 18.12 يتعلق بالتعويض عن حوادث الشغل، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.14.190 بتاريخ 29 دجنبر 2014، بالتنصيص على أن مفهوم الضرر في هذا القانون يقصد به كل إصابة جسدية أو نفسية تسببت فيها حادثة الشغل وأسفرت عن عجز جزئي أو كلي، مؤقت أو دائم، للمستفيد من أحكامه، وتعتبر حادثة شغل ولو كانت ناتجة عن قوة قاهرة أو كانت ظروف الشغل قد تسببت في مفعول هذه القوة أو زادت في خطورتها إلا إذا أثبت المشغل أو مؤمنه طبقا للقواعد العامة للقانون أن مرض المصاب كان سببا مباشرا في وقوع الحادثة.

وإن كان عنصر القوة القاهرة أو الحادث الفجائي، حاضر بقوة في توقف عقد الشغل، فإنه فيما يتعلق بالإصابة المهنية لا مجال للحديث عنه، حماية للأجير، بل الأكثر من ذلك أن مسؤولية المشغل ثابتة، وأن الإصابة بالفيروس كانت بسبب قراره الرامي إلى الاستمرار في العمل، لكونها من الأمور التي يمكن توقعها، إذ لم يحترم إجراءات الحجر الصحي أو على الأقل توفير شروط حفظ صحة وسلامة الأجراء في أماكن العمل، في وقت تعرف فيه بلادنا تفشي جائحة فيروس كورونا ـ كوفيد 19، والتي صدرت بشأنها عدة أوامر وقرارات عن السلطات العمومية ترمي إلى تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي للحماية من الإصابة بها.

إن وقف تفشي هذه الجائحة في أوساط الشغيلة رهين بتنفيذ أوامر وقرارات السلطات العمومية المرتبطة بحالة الطوارئ الصحية، وليتحمل كل واحد مسؤوليته من أجل الحفاظ على هذا الوطن

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. المسؤولية اولا وقبل كل شيئ مسؤولية الدولة أليست مهمتها حماية المواطن وانتهى الموضوع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى