الإدارة القضائية بين مشروع قانون التنظيم القضائي وقرار المحكمة الدستورية: محاولة في التحليل

بقلم عبد العزيز مهيب

تمهــيد

هذه المساهمة تحت عنوان: الإدارة القضائية بين مشروع قانون التنظيم القضائي وقرار المحكمة الدستورية الغرض منها هو الوقوف على أهم دعامات الإدارة القضائية كما حددها مشروع قانون 38.15 يتعلق بالتنظيم القضائي، في صيغته التي وافقت عليها لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس النواب في إطار القراءة الثانية بتاريخ 16 أكتوبر 2018، والوقوف أيضا على أهم الملاحظات التي أثارها القرار الدستوري الصادر عن المحكمة الدستورية تحت رقم 19/89 م د بتاريخ 8 فبراير 2019 بشأنها؛ هذه الملاحظات أنتجت نصوصا وقرارات مختلفة حول الموضوع الواحد؛ منها منصب الكاتب العام مهامه والسلطة التي يعمل تحتها، عضوية الكاتب العام بمكتب محكمة أول درجة وثان درجة، وحدة هيئة كتابة الضبط، الجهة التي لها حق الإشراف على الإدارة القضائية، موقع التفتيش الإداري والمالي في التشريع بين وروده ضمن قانون أم في نصوص تنظيمية؟
 إن قرار المحكمة الدستورية وضع مشروع قانون التنظيم القضائي في إطار قانوني مسيج بسياج دستوري لما لقرارات المحكمة الدستورية من خصوصية عدم قبولها للطعن من أي جهة كانت وهي ملزمة للجميع طبقا للفقرة الثانية من للفصل 134 من الدستور التي نصت على ما يلي: “لا تقبل قرارات المحكمة الدستورية أي طريق من طرق الطعن وتلزم كل السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية والقضائية”.
 ولمقاربة هذا الموضوع سأعرض على حضراتكم مقتضيات المواد الواردة بمشروع قانون التنظيم القضائي والمتعلقة بالإدارة القضائية ثم أردفها بحيثيات وقرار المحكمة الدستورية بشأنها، وأختم بعرض للتوجهات العامة للقرار وتصوراتها حول الإدارة القضائية.

1- منصب الكاتب العام للمحكمة
الفقرة الثالثة والرابعة من المادة 23 من مشروع قانون التنظيم القضائي
“يمكن للكاتب العام أن يباشر مهام كتابة الضبط
.يخضع الكاتب العام للمحكمة إداريا لسلطة ومراقبة الوزير المكلف بالعدل ويمارس مهامه تحت إشراف المسئولين القضائيين للمحكمة”.
قرار المحكمة الدستورية حول الكاتب العام
حيث إن الكاتب العام للمحكمة يعين من بين أطر كتابة الضبط، ويمكنه أن يباشر مهام كتابة الضبط، وهو بهذه الصفة أيضا موضوع تحت سلطة ومراقبة الوزير المكلف بالعدل؛ وحيث إن المقتضيات المذكورة ستجعل من أحد أعضاء كتابة الضبط، في أدائه لعمل ذي طبيعة قضائية، موضوع تحت سلطة ومراقبة السلطة التنفيذية وليس السلطة القضائية، وهو ما يشكل مسا باستقلال السلطة القضائية وانتهاكا لمبدأ فصل السلط.
بناء على ذلك، يكون تخويل الكاتب العام، الموضوع تحت سلطة ومراقبة الوزير المكلف بالعدل، أداء مهام كتابة الضبط المندرجة في الشأن القضائي دون إخضاعه لسلطة ومراقبة المسؤول القضائي خلال مزاولته لتلك المهام، مخالف للدستور.

2- عضوية الكاتب العام
تكون بمكتب محكمة أول درجة وثاني درجة الفقرة الأولى من المادة 27 والفقرة الأولى من المادة 28 والمادة 93
قرار المحكمة الدستورية حول عضوية الكاتب العام بمكتب المحكمة
حيث إن المكتب المحدث بمقتضى قانون التنظيم القضائي مخول له ضمن اختصاصات أخرى؛ توزيع المهام على قضاة المحكمة، إذ يعين رؤساء الغرف ورؤساء الهيئات ونوابهم وقضاة التنفيذ .. وحيث إن الكاتب العام يشارك بصفة تقريرية في أشغال مكتب المحكمة ويساهم في اتخاذ كل القرارات التي تهم مشروع برنامج عمل المحكمة كتأليف هيئات الحكم وتوزيع القضايا والمهام على القضاة.
بناء عليه: فإن تخويل صلاحيات تقريرية للكاتب العام الموضوع تحت سلطة ومراقبة الوزير المكلف بالعدل في أشغال مكتب المحكمة ذات الطبيعة القضائية يعد مخالفا لمبدأ فصل السلط ولاستقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية.

3- وحدة هيئة كتابة الضبط
الفقرة الأولى من المادة 19 من مشروع قانون التنظيم القضائي
“تشكل كتابة الضبط هيئة واحدة على صعيد كل محكمة ويمارس الموظفون المنتمون لها مهام كتابة الضبط بمجموع مصالح المحكمة”.
قرار المحكمة الدستورية حول وحدة هيئة كتابة الضبط
إن الدستور ميز وفقا لمعيار مادي بين عمل قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة .. وحيث إن العمل القضائي للنيابة العامة يتوقف على عمل كتابة الضبط لتدبير الشكايات الواردة عليها ولتحرير محاضرها ولتنفيذ الأوامر الصادرة عنها وهو عمل يقتضي من جهة مراعاة طبيعة عمل كتابة الضبط لدى النيابة العامة المستمدة من خصوصية هذه الأخيرة ومن جهة أخرى تبعية موظفي النيابة العامة للمسئولين القضائيين بحكم أن تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة موكول لجهة قضائية تتمثل في الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة.
بناء على ذلك: يكون عدم مراعاة طبيعة عمل كتابة النيابة العامة في تنظيم كتابة الضبط في هيئة واحدة مخالفا للدستور

4- أداء مهام كتابة الضبط بين السلطة التنفيذية والقضائية
الفقرة الثانية المادة 19 من مشروع قانون التنظيم القضائي
“يعمل موظفو كتابة الضبط تحت سلطة ومراقبة الوزير المكلف بالعدل، ويمارسون مهامهم تحت إشراف المسؤولين القضائيين بالمحكمة”.
قرار المحكمة الدستورية حول أداء مهام كتابة الضبط بين السلطة التنفيذية والقضائية
إن الإدارة القضائية تتميز عن باقي الإدارات العمومية في أدائها لعمل موسوم بالطبيعة القضائية، مما يضفي خصوصية على نشاط مرفق العدالة فتلقي الشكايات والمحاضر والمقالات وتحرير الاستدعاءات وتحصيل الرسوم القضائية وأداء مهام التبليغ والمشاركة في هيئة الحكم وتحرير محاضر الجلسات والتنفيذ يسبغ صفة مساعدي القضاء على هيئة كتابة الضبط المشكلة للمورد البشري للإدارة القضائية.
بناء على ذلك: إن الشأن القضائي ليس بالموضوع المشترك أو القابل للتنسيق بين السلطتين التنفيذية والقضائية بل هو اختصاص تنفرد به السلطة القضائية ويمارسه قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة بكل استقلالية دون أي تدخل من سلطة دستورية أخرى، احتراما لمبدأ استقلال السلطة القضائية المكرس دستوريا.

5- الجهة التي لها حق الإشراف على الإدارة القضائية
الفقرة الأولى من المادة 7 من مشروع قانون التنظيم القضائي
“تمارس المحاكم مهامها تحت إشراف المسئولين القضائيين والإداريين بها بما يؤمن انتظام واستمرارية الخدمات التي تقدمها”.
بعد استحضار القرار لمجموعة من النصوص التشريعية من الدستور الفصل 89، القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية المواد 54 و71 و72 و110 والنظام الأساسي للقضاة المادة 28.
قرار المحكمة الدستورية حول موضوع الإشراف على الإدارة القضائية
حيث يستفاد من هذه الأحكام، من جهة أولى، أن الإدارة القضائية في جوانب عملها الإدارية والمالية، مجال مشترك للتعاون والتنسيق بين السلطتين التنفيذية والقضائية، ومن جهة ثانية، أن الإشراف المخول للمسئولين القضائيين يهم التدبير والتسيير الإداري للمحاكم، ومنجهة ثالثة، أن التقارير التي يرفعها الوزير المكلف بالعدل إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية تنحصر موضوعاتها في الميدانين الإداري والمالي، ولا تتعداهما، ومن جهة رابعة، أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية يراعي المؤهلات في الإدارة القضائية أثناء تعيين المسئولين القضائيين او تجديد تعيينهم.
وحيث إن قواعد النجاعة والحكامة تقتضي إشراف المسئولين القضائيين، على المجالين الإداري والمالي للإدارة القضائية، مما سيمكنهم من إيلاء عناية أكبر لمهامهم القضائية.

6- التفتيش الإداري والمالي للمحاكم المواد 102 إلى 109 من مشروع قانون التنظيم القضائي
قرار المحكمة الدستورية حول التفتيش الإداري والمالي
وحيث إن مبرر جمع التفتيش القضائي الإداري والمالي في قانون واحد، المضمن في الأعمال التحضيرية للبرلمان، بحكم أن الأمر يتعلق بمحاكم التنظيم القضائي، سيجعل التفتيش الإداري والمالي التابع للوزارة المكلفة بالعدل الوحيد المنظم بالقانون، في حين أن باقي المفتشيات المماثلة، الممارسة للاختصاص ذاته، التابعة لوزارات أخرى منظمة بنصوص تنظيمية، وهوتمييز لا يجد أي أساس أو سند دستوري له. وحيث إنه بناء على ما سبقى فإن التفتيش الذي يجب أن يأتي على شكل قانون، هو التفتيش القضائي وليس التفتيش الإداري والمالي المندرج في عمل السلطة التنظيمية، مما يستدعي تنظيمه وفق نص تنظيمي عملا بأحكام الفصل 72 من الدستور.
التوجهات العامة التي اختارها قرار المحكمة الدستورية بشأن الإدارة القضائية
من خلال بسط مقتضيات مشروع قانون التنظيم القضائي المتعلقة بالإدارة القضائية وحيثيات قرار المحكمة الدستورية يتضح التوجه العام الذي سيؤطر قانون التنظيم القضائي المقبل.
القرار يقدم تصورين لمنصب الكاتب العام:
 الأول: “إن إسناد مباشرة المهام الإدارية والمالية للإدارة القضائية للكاتب العام للمحكمة، الموضوع تحت سلطة ومراقبة الوزير المكلف بالعدل وتحت إشراف المسئولين القضائيين، ليس فيه ما يمس باستقلالية السلطة القضائية”،
 والثاني: “يكون تخويل الكاتب العام، الموضوع تحت سلطة ومراقبة الوزير المكلف بالعدل، أداء مهام كتابة الضبط المندرجة في الشأن القضائي دون إخضاعه لسلطة ومراقبة المسؤول القضائي خلال مزاولته لتلك المهام، مخالف للدستور”.
توجه القرار بشأن التفتيش الإداري والمالي:
 أولا: فإن التفتيش الذي يجب أن يأتي على شكل قانون، هو التفتيش القضائي وليس التفتيش الإداري والمالي المندرج في عمل السلطة التنظيمية، مما يستدعي تنظيمه وفق نص تنظيمي عملا بأحكام الفصل 72 من الدستور.
 ثانيا: وحيث إن التفتيش الإداري والمالي للمفتشية العامة للوزارة المكلفة بالعدل يتم إلى جانب التفتيش المناط بالمسؤولين القضائيين، وأن التقارير التي تعدها المفتشية المذكورة تحال عليهم، بالنظر لإشرافهم على التدبير الإداري والمالي للإدارة القضائية، للاطلاع عليها وتقديم أجوبة عنها، عند الاقتضاء، وأن هذا التفتيش لا يهم القضاة ولا يعني عملهم القضائي ولا النشاط القضائي للإدارة القضائية، مما يجعل عمل المفتشية العامة للوزارة المكلفة بالعدل، من هذه الوجهة، ليس فيه ما يخالف الدستور.
وحيث إن توفر المفتشين التابعين للمفتشية العامة للوزارة المكلفة بالعدل، على صلاحية “الاستماع الى المسؤولين القضائيين”، يشكل إجراء لتفعيل ما تتطلبه الفقرة الأخيرة من المادة 72 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائيةالتي تنص على أنه “يراعي المجلس كذلك التقارير التي يعدها الوزير المكلف بالعدل حول مستوى أداء المسؤولين القضائيين بشأن الإشراف على التدبير والتسيير الإداري للمحاكم، بما لا يتنافى واستقلال السلطة القضائية.
و خلاصة القول إن المحكمة الدستورية بما عهد عليها من تمحيص للقوانين، و إلمام واسع بمدى مطابقة تلك القوانين لدستور المملكة اعتبارا أنه أسمى تعبير للأمة من جهة و الفيصل بين شرعيتها من عدمها فقد حسم في مجموعة من النقط على النحو الذي أسلفنا أعلاه فإن التساؤل الملح لهذا الباب ما مصير مشروع التنظيم القضائي بعد القرار الدستوري الصادر عن المحكمة الدستورية تحت رقم 19/89 م د بتاريخ 8 فبراير 2019؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى