ردا على أحمد عصيد: الفرنسية ليست لغة علمية والعربية لغة العلوم

نبيل بكاني 

وصف الناشط الأمازيغي، أحمد عصيد، اللغة الفرنسية بأنها “اللغة العلمية” المطلوبة لتدريس المواد العلمية والتقنية في الجامعات المغربية، وأن العربية غير مؤهلة لفعل ذلك؛ وذلك، أثناء مداخلته في برنامج “مباشرة معكم”، الأربعاء الفارط، على القناة المغربية الثانية، في موضوع حول “السياسة اللغوية في المغرب”.

قبل أن نتحدث عن حقيقة وجود “لغة علمية” من عدمه، أود أن أحيل، ولو باقتضاب شديد، إلى مفهوم اللغة عند اللسانيين، وان كان يصعب كثيرا تضييق الدائرة التعريفية للغة، وهو ما ساهم في بروز تعريفات متعددة حاول فيها واضعوها ملامسة ماهية اللغة؛ فيرى خبير اللسانيات الأميركي ادوارد سابير أن اللغة هي وسيلة تعتمد رموزا تصدر بشكل اختياري لتوصيل الأفكار والانفعالات والرغبات وهي أداة غير غريزية.. فيما عرفها روبرت هول بأنها كيان يتفاعل من خلاله البشر باستعمال رموز منطوقة ومسموعة عشوائيا ثم التعود على استعمالها.. بينما يرى روبنز أن اللغة نظام رمزي يكاد يقوم كليا على عرف بحت أو عشوائي وأن لها قابلية التكيُّف.

وحيث أن اللغات تنقسم إلى لغات طبيعية كتلك الصادرة عن البشر، إما كلاميا أو اشاريا ولغات صناعية كالرياضيات والمعلوماتية مثلا، فان خبير اللسانيات الأميركي نعوم تشومسكي يشبّه نمو اللغة عند الإنسان بنمو الجسم البشري، وبالتالي فان ما يحدد اللغة هو العامل التكويني.. ويرى ذات الخبير، من خلال تركيزه على ما أسماه “إبداعية اللغة” الإنسانية، أن اللغة تقوم على تنظيم متفتح وغير مغلق من العناصر تتجلى فيه السمة الإبداعية عبر مقدرة المتكلم على إنتاج وتفهم عدد غير متناه من الجمل لم يسبق له سماعها قبلا.. وبذلك فان الخاصية الإبداعية في اللغة تميز الإنسان وحده ولا نجدها عند غيره من الكائنات الأخرى.

من خلال النظر بعين المستطلع المتجرد من أي تأثير عاطفي أو استيلاب لغوي، إلى اللغة، باعتبارها وسيلة في حد ذاتها لا غاية، ومن خلال الاطلاع على المفاهيم الأكثر موضوعية لتعريف ماهية اللغة، فان سؤالا مشروعا يتبادر إلى الأذهان، ألا وهو، ما هو مفهوم “اللغة العلمية” وهو التعبير الذي يتردد كثيرا، خاصة من طرف من يبررون هيمنة لغة أجنبية ما على لغة وطنية؟ وما هي المعايير العلمية لتصنيف تلك اللغة على أنها لغة علمية؟ وهل بالفعل هنالك شيء يمكن أن نسميه “لغة علمية؟ وما هو مقابل “اللغة العلمية” هل “لغة أدبية” مثلا؟ وهل اللغة الفرنسية التي كتبت بها أعظم النصوص الأدبية في تاريخ الأدب الإنساني إلى درجة لُقبت بلغة موليير نسبة إلى المسرحي والشاعر الفرنسي، هل هي في هذه الحالة لغة أدبية أم علمية وما هي التراكيب والقواعد التي يمكن أن نميز بها لغة أدبية (إن وُجدت) عن اللغة العلمية (إن وُجدت هي الأخرى)؟

لن نخوض في كل تلك الأسئلة، ولكن يتوجب أن نُشير إلى أن استعمال مصطلح “اللغة العلمية” لوصف لغة تُستخدم في تدريس العلوم أو في انجاز البحوث العلمية أو التقارير التقنية، وصف مُجانب للصواب، وبما أننا نتحدث عن نوعية من الكتابة، فان الأصح هو وصفها بـ”الأسلوب العلمي” أو “المصطلحات العلمية”.

فعندما نصف اللغة الفرنسية في المغرب باللغة العلمية، فهل معناه أن اللغة العربية هي لغة أدبية، بما أن مقابل العلمي في التدريس هو الأدبي.. أكيد لا، لكون اللغات جميعها هي أجناس أدبية، أما الأسلوب العلمي فهو شكل لغوي تُصاغ به النصوص العلمية ويعتمد لغة إنشائية خالية من أي إبداع أو بلاغة ويعتمد البساطة في التعبير والدقة في الوصف والاختزال والوضوح والابتعاد عن كل ما هو فلسفي أو خيالي.. والنص العلمي إضافة إلى الأسلوب العلمي، فهو يتشكل من المصطلحات العلمية المتعامل بها في المجالات العلمية.

 في نقاشه لمسألة “التعريب” التي توقفت عند سلك التعليم الثانوي، ولم تطل التعليم العالي فيما يخص الشُعب العلمية والتقنية، أرجع الأستاذ عصيد نجاح عملية تعريب المواد العلمية في السلك الثانوي، إلى كون هذا السلك هو مجرد مرحلة أولية في حياة الطالب، وأن الأمر يختلف جذريا في ما يخص التعليم الجامعي باعتباره مجال تعمق وتخصص.. وهنا أود أن أستسمح المتحدث في أن أرد عليه بأنه بعد وقوعه في خلط بين اللغة التي سماها “لغة علمية” وبين الأسلوب العلمي والمصطلح العلمي أو لنسميه “القاموس العلمي” وهو سلسلة طويلة من المفردات العلمية التي لا ترقى بأي حال إلى مرتبة لغة، قد وقع كذلك في مغالطة أخرى، بوصفه للتعليم العلمي في السلك الثانوي بالمرحلة الأولية، في حين أن الأصح، أن ما يتلقاه الطالب “العلمي” في هذه المرحلة يُعتبر القاعدة العلمية الأساسية التي تبني الشخصية العلمية للطالب وتوجهه المعرفي– وأفضل استخدام اصطلاح طالب بذل تلميذ- وأن ما يتلقاه الطالب في هذه المرحلة أعلى بكثير من مجرد أبجديات أو أمور سطحية.

إذا فسرنا اللغة على أنها وسيلة وليست غاية بحد ذاتها، ونبرهن على ذلك بكون الإنسان يتعلم لغة ما لأجل غاية ما.. فان اللغة العربية مثلا هي وسيلة للتعبير وللتواصل وفي المدرسة يمكن اعتبارها وسيلة لتلقي المعارف الأدبية والعلمية، وهنا يحضر المصطلح العلمي والأسلوب العلمي عندما يتعلق الأمر بالمناهج التعليمية العلمية، حيث أن استعمال اللغة يتم لأجل شرح المادة من طرف الملقن (الكسرة على القاف) سواء شفهيا أو كتابيا والغاية من ذلك هي فهم المتلقي للمادة، وحيث أن المعني هو مادة علمية فهنا تتطلب اللغة باعتبارها وسيلة، تتطلب عنصرين أساسيين هما الأسلوب العلمي والمصطلح العلمي (القاموس العلمي).

ما أريد الوصول إليه، هو أن اللغة هي وسيلة أدبية هدفها إيصال المعرفة العلمية بأسلوب علمي بسيط ولا يحتاج جهدا في فهم تراكيبها وجملها الأدبية مادام الطالب (المتلقي) قد ألم بالمصطلحات العلمية/ قاموس المفردات العلمية.. وكي نضمن للمتلقي إمكانية الانفتاح على المراجع العلمية والتقنية التي أمست منذ سنوات تُكتب بالانكليزية وليس بلغة فرنسا، فان هذا المتلقي في حاجة، إضافة إلى الأسلوب العلمي الذي يسهل جدا صياغته بالعربية، إلى استخدام المصطلح العلمي الانكليزي إلى جانب المصطلح العلمي الفرنسي الذي لا يجب إلغاءه على الأقل خلال العشرين سنة القادمة، كما نُلفت إلى أن ثقافة تضمين لغة التلقين (العربية) في المواد العلمية بالمصطلح العلمي ليست غريبة على المغاربة إذ أن ذلك هو المعمول به في السلكين الإعدادي والثانوي منذ عقود، حيث يُصاغ الأسلوب العلمي باللغة العربية فيما يُحتفظ بالمصطلح العلمي باللغة الفرنسية أي اللغة الأصلية التي تُؤخذ منها التقارير والبحوث العلمية، في التعليم المغربي، لحدود اليوم في إطار التبعية، وعليه فان إمكانية استخدام المصطلح باللغتين الانكليزية أولا وإلى جانبه نظيره بالفرنسية سيُشرع الباب على مصراعيه أمام المتلقي نحو انفتاح حقيقي على عالم العلوم والتقانة وليس الاكتفاء بمجرد انفتاح جزئي على الفضاء الفرانكفوني الذي هو مجرد ساحة لترجمة ما أُنتج من علوم باللغة الأنكليزية، وهو الفضاء الذي تتحكم فيه فرنسا عن طريق ما يسمى بـ”المنظمة الدولية للفرانكفونية” قصد بيع وتصريف ترجماتها العلمية والتقنية والفنية، في إطار التبعية والاستعمار طويل المدى  دائما.

وفي حديثه عن “تدريج التعليم” قال عصيد أن اللهجة الدارجة التي وصفها بأنها “اللغة الأم”، هي التي يتوجب على الطفل أن يتعلم بها داخل المدرسة.. جوابنا، إذا كان المدرس ينتمي لمنطقة الشمال، مثلا، ويُدرّس في منطقة الجنوب فأي من اللهجتين سيلقن بها هذا الطفل؟ وهل سنضمن للتلميذ استيعاب دروسه بلهجة تدريس اكتسبها المدرس من وسطه المجتمعي وليس داخل مراكز التدريب (التكوين)؟ وهنا ستكون الضربة القاضية للتعليم الابتدائي.. وزاد المتحدث تبريره لمطلب “طرد” العربية من الابتدائي، بكون العائلات “الفرانكفونية” في المغرب تجعل الفرنسية اللغة الأم لأبنائها؛ نرد على هذا التبرير، بأن الدولة المغربية ما بعد الاستعمار، ساهمت، ربما من حيث لا تدري، في جريمة، ليس لغوية فقط، وإنما إنسانية ووطنية أيضا، في حق المجتمع المغربي، وذلك بسماحها لدولة أجنبية باختراق مجتمعنا عن طريق تغيير أهداف هذه اللغة الأجنبية، وبذلك صنعت لها كيانا صغيرا داخل المغرب، تابع لها ثقافيا وفي حالات كثيرة هوياتيا أيضا، وهذا الكيان سينمو في المستقبل إذا لم يتم تدارك الوضع، وهذا يدخل في اختراق السيادة الوطنية، فلا توجد دولة “متعقلة” في العالم تسمح لدولة أخرى باختراق سيادتها اللغوية والتدخل في صناعة تركيبة اجتماعية مهجنة تابعة هوياتيا وثقافيا لها، لما لذلك من خطورة على تحصين البلد والمجتمع من التدخلات الخارجية، ولذلك نجد فرنسا من الدول الشديدة الحرص على إدماج المهاجرين المستقرين على ترابها من خلال “فرنستهم” حتى تضمن ولاءهم لمبادئها ودستورها، وقد حان الوقت للمغرب باعتباره بلدا مستقلا ذو سيادة، أن يُصحح هذا الوضع الخطير ليس فقط بتعريب التعليم الجامعي وبرفض كل محاولات “تدريج” السلك الابتدائي، وإنما أيضا بإلزام مدارس البعثات الثقافية الأجنبية التي تحولت إلى ما يُشبه معاهد خاصة تستقبل أبناء المغاربة أكثر ما تستقبل أبناء مواطنيها، إلزامها قانونيا ومن خلال تفعيل الدستور المغربي، بإدراج اللغة العربية إلزاميا في هذه المدارس ليتعلمها أبناء المغاربة وأيضا أبناء مواطنيها في نطاق سياسة الإدماج الهوياتي التي يتعين على المغرب الشروع في التفكير فيها بجدية، خاصة في ظل تغير وضع البلاد من بلد عبور لهجرات “قارية” إلى أرض استقرار لجموع غفيرة من اللاجئين جلهم من أفريقيا جنوب الصحراء، وننبه هنا إلى ما كشفت عنه الصحافة الوطنية من تحركات بدأت تباشرها فرنسا لفرنسة حتى اللاجئين العرب المستقرين في المغرب بمبرر متطلبات سوق العمل، وهو المبرر الذي يُخفي خلفه اختراقا جديدا وخطيرا..

وبالمناسبة، أود أن أثير عناية من دأبوا على ترديد مغالطات أنتجها العقل الفرنسي الاستعماري قبل أزيد من نصف قرن ولازال البعض يُرددها جزافا دون أن يتأكد من حقيقة الوضع،  إلى أن اللغة العربية هي أثرى لغة في عالم اللغات الحية والحية جدا، حيث تحتوي 12.302.912 كلمة دون تكرار تليها الأنكليزية بـ600 ألف ثم الفرنسية بـ150 ألف كلمة فقط.. أما الترتيب الدولي لهذه اللغة، والذي تعترف به أيضا “منظمة الفرانكفونية” فاللغة الفرنسية جاءت في الترتيب التاسع بنسبة عدد السكان المتحدثين بها 3.05% من عدد سكان العالم، بينما حلّت اللغة العربية في الترتيب الرابع  وتتحدتها نسبة 6.6 بالمئة من سكان العالم..

وهذه الحقائق، لا تمثل سوى عينة صغيرة من مجموعة كبيرة من الدلائل الموضوعية كلها تؤكد أن اللغة التي صيغت بها العلوم قبل قرون، واليوم وبعد أن جلبت لها مئات الآلاف من المصطلحات العالمية التي أنتجها التقدم العلمي والتكنولوجي وقبلتها بعد تعريبها، أن هذه اللغة، وفي عصرنا هذا، قادرة على أن تؤدي مهمة تدريس العلوم والتقانة بأسلوب علمي معرب مع الحفاظ على المصطلح العلمي أو القاموس العلمي بلغته الأصلية (الأنكليزية) وحتى بترجمته (الفرنسية). كما نؤكد للذين يقللون من شأن العربية عن حقد أو بسبب تعود على ترديد كل ما يقال دون تمحيص وفهم دقيق، أن هذه اللغة لو لم تكن قادرة على مسايرة العصر، لما تبنتها الأمم المتحدة لغة رسمية ضمن ست لغات للتعامل بها داخل جميع منظماتها ومؤسساتها الأممية.

نبيل بكاني

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. مقال في المستوى
    الأستاذ عصيد يترامى على تخصصات ليس أهلا لها, فهو يتحدث في اللسانيات والتاريخ وحتى الدراسات الاسلامية, سبق وتحدث عن تاريخ المغرب ودولة الأدارسة بكلام خطير يمس تاريخ المغرب, وكذا تعليقه على حديث “أسلم تسلم” والذي فسره بجهل مطبق جارا عليه الكثير من اللغط داخل وخارج المغرب, والكثير من التصريحات الأخرى…
    لا أدري سر استقباله كل حين في برامج القنوات العمومية للحديث في أمور ليست من تخصصه.

  2. اللغة الفرنسية في تراجع بعقر دارها و في المستعمراتها السابقة ، فكيف لها أن تكون لغة عالمية؟ و من المسلمات التي يفرضها الواقع من حولنا ، كل أمم التي سطع نجمها ، سطع بلغها المحلية رغم محدوديتها .. فتركيا و الفيتنام و سنغفورة و غيرها .. لم يتبجحوا بلغة سادتهم .. بنسبة لنا في المغرب فاننا نعاني من انفصام حاد في الشخصية ..فبعد أكثر من 70 سنة من التفرنس الحقيقي لم نجني سوى اتخلف و الاندحار ، و الظلمات .. لو كانت الفرنسية هي البلسم لكان لها دور في تقدم الشعوب الافريقية لتي تستعملها كلغة رسمية .

  3. Le professeur Assid parle avec sa tête, par contre vous vous parlez avec votre cœur. La langue arabe est une langue dépassée. certes elle fût une langue de sciences au moyen âge, mais maintenant elle est devenue stérile, incapable d’évoluer tout simplement par manque ou par fuite de cerveaux de ces pays qui l’utilisent.

  4. من اسباب تدني المستوى التعليمي في المغرب هي تدريس المواد العلمية باللغة العربية او بالاحرى الدارجة المغربية واتحدى اي احد يدرس الرياضيات او الفزياء اوالعلوم الطبيعية باللغة العربية فالكل يقتر على الدارجة فالجميع يتذكر كيف كان المستوى في قبل التعريب من طرف الوزير الاستقلالي مع العلم ان ابناءهم يتابعون دراستهم بالمدارس الخاصة او المعاهد الفرنسية والانجليزية وابناء الشعب يدرسون المواد العلمية باللغة العربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى