بلوغ التنمية يبدأ في تغيير الحاضر من أجل بناء المستقبل

صبري الحو*

دخلت مرفقا إداريا لدولة أجنبية لقضاء غرض شخصي، وشد انتباهي شعار من أربع كلمات ” نغير الحاضر، نبني المستقبل”. ورغم أن هذه الدولة تعيش رخاء وازدهارا اقتصاديا، ومواطنوها يعيشون في رغد العيش، فإن تغيير الحاضر من أجل ضمان المستقبل أصبح لديها مبدءاً قارا وديناميكية مستمرة لأنهم يطمحون إلى الأحسن والأفضل.

ولأن المغرب اعترف بفشل نموذجه التنموي، ويعيش الآن على وقع التفكير والبحث من أجل إرساء آلية لصياغة نموذج جديد لتغيير الحاضر المريض في كل شيء، تبعا للملاحظة والمعاينة و التشخيص الواقعي والرسمي.

فإنني أزعم أن ما وصل إليه المغرب هو حالة فراغ حقيقية غير مقبولة، رغم اختلاف الفلاسفة والفيزيائيين حول الفراغ بين قبول “زينون” له، ورفض “أرسطو” والفيزيائيبن له، واتحادهم مع الطبيعة التي لا تقبل بدورها الفراغ. فالفراغ حسب اعتقادي الشخصي، وبعيدا عن التأملات والاستنتاجات الفلسفية والحقائق العلمية، هو حالة تيه وشك في كل مناحي الحياة، سواء أكانت سياسية، اقتصادية اجتماعية ثقافية، تعليمية ورياضية…

والفراغ تبعا لذلك، هو حالة ضعف يطبعها كثرة أفعال العنف، وسيطرة الإشاعة، ويعم الخوف، فتنعدم المبادرة والإبداع، وتلوذ النخبة والكفاءات إلى الصمت والاختباء فيما يشبه الهروب. والفراغ بهكذا معنى وتعريف؛ هو مناخ خصب وفرصة سانحة للشعبويين والتافهين، أي للفراغ نفسه لملء هذه الفراغات، والاستحواذ عليها، فيفرض الجاهل وصاية إكراه و إذعان لاحترام قيم الجهل والتفاهة على العامة لكون فاقد الشيء لا يعطيه أولا، ولغياب من يجادلهم ثانيا، ذلك أن الحكمة توصي بعدم مجادلة الجاهل أصلا.

وقد يكون الفراغ نتيجة عسر انتقال فجائي وغير متوقع، ينجم عنه تخبط بين ثقل التطبيع مع الواقع، ورفض وصعوبة الحسم معه من أجل التغيير، ما يؤدي إلى نفس التيه الأول وفقدان البوصلة. ومن سماته غلبة وطغيان التدافع الكبير، وغلو في حب الاستعراف، له نفس أوصاف ومؤشرات وتمظهرات حالة الهوان والضعف، و التي هي إحدى مظاهر الفراغ الناتج عن الضعف والمرض. والفراغ بشكله الناتج عن الضعف، أو بسبب عدم القدرة في تدبير الانتقال وفي عسره، هو أكبر خطر يهددنا ويداهمنا جميعا، فهو بمثابة أفعى تلف بأجسامنا، وقد تخنقنا أو تنفث سمها في شرايين كينونتنا.

والجميع مدعو لرفض الفراغ، مثلما ترفضه الطبيعة، والاتحاد لتحويل الضعف والخوف إلى قوة وشجاعة، والشك إلى يقين، والجهل آلى علم، ولينهض الجميع لاختصار فترة الانتقال، وتحويل الانتقال والتغيير الذي طال أمده إلى تأكيد الذات في الحاضر والإيمان ببناء المستقبل، بجعل القطيعة مع التخلف والضعف والجهل والفساد. ولننتفض لطرد التفاهة والرداءة، التي أوشكنا أن نتطبع معها، و قد تصبح قاعدة عامة وحالة طبيعية، عن طريق تكريس العمل والجدية والمصداقية، و طبعا هذا لن يتأتى إلا إذا آمنا أن الحرية مسؤولية وليست مرادفا للفوضى، والديمقراطية مبدأ وإيمان، وإرادة حرة، وتداول حقيقي، وليست مظهر شكلي و إعلان مزيف، ووسيلة تدوير مموهة، وتأكيدات خادعة لضمان المناصب، وشرعنة السلطة.

والعدالة؛ عدل و نزاهة و إنصاف، وضمانة للحقوق والحريات وآلية للمحاسبة، وليست سلطة مطلقة، ولا شعارات قضائية بالتخليق أو التحديث أو الاستقلالية لكل فترة ومرحلة. والتعليم، والصحة، والشغل، والتنمية حقوق وشروط اندماج المواطنين؛ كلها أركان أساسية وضرورية لبناء صرح المستقبل، وليست مبادئ قانونية وشعارات وعبث وهزل سياسي. والطفل والشباب والنساء والبيئة، والموارد الطبيعية، وجميع الجماعات الترابية، هي ونحن جميعا، دون تمييز ولا تفرقة؛ وهي وهم المغرب الواحد والموحد في الحاضر ، دون خوف ولا شك في المستقبل.

و القوانين ليست غاية في حد ذاتها، بل العبرة في حسن تدبيرها للحق والواجب، بما يضمن امتثال المواطنين لاحترامها لحاجتهم لهذا التنظيم، وملاحظاتهم لمساواتهم أمامها، وليست وسيلة مرادفة للقمع والسكوت والإخضاع.

وفي المغرب الواحد في مساواة مجالية في المنافع؛ التهيئة وفي المرافق والتجهيزات، وفي التنمية دون تفضيل مركز وتهميش جهة، والمغاربة في تناغم وتفاعل مع المجال والانفتاح على الغير من أجل التنمية؛ هم الغاية والهدف ؛ هدف الوصول إلى مغرب الغد والمستقبل، من خلال مواطنة تفاعلية تبنى عن طريق المشاركة المسؤولة، وليست دروسا في مادة التربية على المواطنة لزرع الشعور بالانتماء وغرس حب المواطنة، بل باحترام المواطن في كينونته وخصوصياته وآرائه.

وتبعا لكل ذلك فان التعليم والشغل والعدالة والصحافة المسؤولة، والديمقراطية الحقة، هي منافذ للتنمية ولاندماج مواطنين في إطار المساواة وتكافئ الفرص بينهم، وبين المرأة والرجل و المجال، من أجل بناء مغرب الغد والمستقبل، الذي يشارك الجميع بإيمان في بنائه وفي الدفاع عنه. والبداية في تغيير الحاضر، وهي شروط نجاح أي نموذج تنموي.

محامي بمكناس
خبير في القانون الدولي_ الهجرة ونزاع الصحراء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى