رأي في “تقننة” التعليم قراءة مغايرة في الدعوة للتعليم التقني

 

سعيد جعفر _  باحث وفاعل سياسي

الفكرة التي عبر عنها جلالة الملك بتشجيع التعليم التقني ليست فكرة جديدة وقد ذكرها (جلالته) في عدد من الخطب.
يعتبر الراحل مزيان بلفقيه مستشار الملكي السابق أول من هندس لها عبر اعتماد التقنوقراط من خريجي المعاهد التقنية العالمية كالقناطر والجسور والبولتكنيك والتي جربها المغرب قبل أن يتخفف منها لصالح الإداري الأمني ونسبيا السياسي.
وقد صاغها ضمن تصوراته في ميثاق التربية والتكوين الذي كان يرأس أشغاله.

ومن المؤكد أن انفتاح المغرب على الاستثمار الخارجي منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي و توجهه نحو التصنيع خصوصا في مجالات الصناعة الاستهلاكية و مؤخرا صناعة السيارات، فرض توفير يد عاملة مؤهلة تقنيا وهي التي عقد لها برنامج كبير وطموح يتمثل في تكوين 500 ألف شاب في معاهد التكوين المهني.

من منافع هذا التوجه أنه يوفر آلاف فرص دائمة وموسمية لآلاف من الشباب وبالتالي يساعد على تفادي الاحتقان الاجتماعي وارتفاع الظواهر الاجتماعية السلبية، وكل هذا يصب في مصلحة الوطن والمواطن.

لكن رغم منافع الفكرة والخطة فلها سلبيات أخرى غير مشجعة، وربما تعود بالأساس إلى أن الظروف تغيرت بين شروط وملابسات المرحلة التي دافع فيها الراحل بلفقيه عن التوجه وبين شروط المرحلة الحالية.

صحيح أن الحاجة ليد عاملة تقنية مؤهلة لا زال قائما خصوصا وأن المملكة تراهن في العشرية القادمة على تقوية الصناعات الفلاحية ضمن المخطط الأخضر، والصناعات الميكانيكية و الكهربائية ضمن مخطط الإقلاع الصناعي، وعلى تقوية الصناعة السياحية والفندقية من خلال بداية انجاز عشرات من المشاريع السياحية الكبرى الحسيمة والسعيدية والرباط والدار البيضاء وأكادير وغيرها.

إن السؤال الأول الذي يطرح هو كيف سيتم تفسير اعتماد قانون الإطار في التعليم والذي يتبنى التدريس باللغات مع تشجيع المتمدرسين على التوجه لتعليم تقني هو في الأصل يتم بالفرنسية.

وثاني الأسئلة يرتبط بالمقارنة بين التعليم الجامعي والتقني.

إن أقصى ثروات الشعوب هي الرأسمال اللامادي الذي تزخر به كما قال جلالة الملك في عدد من خطبه، والمؤكد أن الرأسمال اللامادي هو كل العناصر اللامادية التي تشكل نسيج مجتمع ما وجماعة بشرية ما، و من المعلوم أن هذه العناصر اللامادية ليست أبدا عناصر تقنية وأنها ، وهذا يجب لفت النظر إليه، بل هي مجموع الانتاجات الذهنية والنفسية لجماعة ما تنجح في أن تشكل ثقافة لها.

إننا نعتبر مجمل المعارف التي يتم تلقيها في التعليم العالي، بغض النظر عن نوعية هذا التعليم وتخصصه، والتي تجعل فكر الأفراد وسلوكهم مطابقا لشروط واقعهم واحتياجاته، ويجعلهم يساهمون عن طريق الوعي الذي يشكله تركز هذه المعارف في استقرار وسلم المجتمع،
إننا نعتبر هذه المعارف بغض النظر عن تخصصها مهمة لتأنيس و نضج الفكر والسلوك وجعله مطابقا لحاجات المجتمع وشروطه، وأيضا لإيقاعه وسرعته.

إن التوجه للتعليم التقني مطلوب جدا لمواكبة الصناعة و التجارة وعالم المال والأعمال، وبالقدر الذي تختاج ثورة بلد صاعد آلاف من المهندسين فهي تحتاج ضعفها من التقنيين والتقنيين المتخصصين.
ولكن يجب الانتباه الى الثروة اللامادية التي تنتجها كليات الاداب والحقوق والعلوم والفنون وغيرها.

في معرض خطاب العرش الأخير قال جلالته إننا نطلب من لجنة صياغة النموذج التنموي أن تقول لنا الحقيقة مهما كانت مؤلمة، ويسعدنا أن نقول بدورنا جزء من هذه الحقيقة مع الاحترام الواجب للمقام السامي.

إن هذا الرهان على التعليم التقني والذي يشجع عليه خبراء كمدخل لانتاج الثروة المادية مهم وضروري وملح أيضا، ولكن سيصبح مدخلا لهدم الخلفية والأساس الذي يعضده ويجعله واقفا وهو الرأسمال اللامادي.

إن ملايين العلاقات التي تنتج داخل المعامل والمصانع والشركات هي علاقات محكومة بالانتاج والمردودية والربح، وهي علاقات تايلورية جافة لا روح فيها ولا إنسانية.
وفي وسط إنتاجي محكوم بعدم التكافؤ بين عائدات الجهد العضلي للعامل و أرباح أرباب العمل تتقوى يوميا مشاعر من الحقد و الرفض والكراهية ليس فقط لرب العمل ولكن أيضا لنمط الإنتاج ومن خلفه السياسات العامة وعلى رأسها السياسة الإجتماعية.

إن التوجه التقني سينجح في توفير آلاف من فرص الشغل، وسيوفر حدا معقولا من الاستقرار والسلم الاجتماعيين، ولكن دون مواكبته بمزيد من النضج و فهم واستيعاب الواقع المتأتي من التطوير الدراسي في التعليم العالي سيجعلنا أشبه ما نكون في عالم خال من الحكمة سرعان ما سيتحول إلى معركة كبيرة ومفتوحة من المشاعر والخطط القاصرة.

سبق أن قلت في مداخلة لي في ندوة حول العنف المدرسي كانت نظمتها منظمة نسائية تابعة لحزب يشارك في تدبير الشأن العام، أن تقننة التعليم كانت خيارا ضروريا لمواكبة خطط الدولة والحكومة ارتباطا بالواقع الاقتصادي الجديد وهي خطة لا بد من تطويرها.
ولكن هذا الاختيار أنتج أيضا اجيالا فارغة من المعنى مستسلمة لأكثر التيارات الهدامة التي لطالما نبه منها جلالة الملك نفسه، وهي العدمية والتطرف والتشدد.

إن هؤلاء الخريجين يفتقدون كل قدرة على الوعي بالأشياء والمحيط، وقدرتهم على التشخيص والتحليل والتفكيك والاستشراف والاستباق ضعيفة جدا ومحدودة ارتباطا بطبيعة التكوين الذي يتلقونه، يشبهم في ذلك خريجو مدارس التعليم العتيق الذي تداركت الدولة عبر خطة الإصلاح الديني ضعف تكوينهم بدمج مواد ذات حمولة نقدية وكذلك اللغات ضمن مقرراتهم الدراسية.

إني ومن موقعي الاقتراحي كباحث ومثقف، ولأني خريج لمعاهد التكوين المهني حيث تلقيت تكوينا كتقني جودة في تخصص صناعة النسيج، أقترح ما يلي حتى لا نكون مستقبلا أمام معضلات تمس الثروة الحقيقية لبلادنا وهي الامن والاستقرار العام:

– إن أول ما يمكن التفكير فيه هو دمج المواد ذات الحمولة النقدية كاللغات والتواصل و القانون والفلسفة و التربية الدينية ضمن مقررات هذا النوع من التعليم وتعزيز معاملاتها وغلافها الزمني.
صحيح أنه يتم تدريس مواد قانون الشغل واللغة الفرنسية و الثقافة العربية لكن بمعدل ساعة في الأسبوع مقابل حوالي 33 ساعة لمواد التخصص، وهذا يجعل الطالب أقرب إلى روبوت منه إلى مشروع تقني يفكر ويقرر.

– إن مسألة الإبداع والتحفيز مهمة في التعليم بشكل عام وفي التعليم التقني بشكل خاص، وهي مهمة لطالب بلغ سن الرشد لتوه ولا زال تحث تأثيرات تفاعلات جسمه.
لا نملك صيغة لهذا التحفيز على الإبداع لكن نرى أنه يمكن التفكير فيها لضمان توازن تفكير وسلوك الطالب، العامل والمسؤول مستقبلا.

– إن تطوير التعليم بكليات الآداب والقانون والاقتصاد والعلوم أصبح اليوم مطلبا ملحا، فالانطباع والحكم السائدين حولها يحرم البلاد ليس فقط من كفاءات كثيرة ولكن أيضا من صمام أمان للوعي الجمعي.
ولهذا أصبح من الضروري اليوم تمكين التعليم العالي من الموارد المالية والبشرية ليقرن التطبيق بالنظري، وأولى العمليات الضرورية هي عقد شراكة بين الجامعات والقطاع الخاص.
وللتدليل فقط فأكثر المدمجين هم من تخصص الاقتصاد لوجود شراكة مع القطاع البنكي وقطاع التأمين وبعض الشركات الكبرى.
كما أن تمتيع طلبة معاهد الصخافة والإعلام من شراكة تدريب مع القطاع الخاص يساعد في توفير فرص شغل لعدد كبير جدا منه.

ليس الحل في تغليب التعليم التقني على الجامعي العالي وايس العكس. الحل في حلول إبداعية استباقية واستشرافية من أجل الوطن والمواطنين.

وقبل ذلك قول الحقيقة مهما كانت مؤلمة.

تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على WhatsApp

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق