“القَــــــــايْد” والعمل الميداني بين الأمـــــــس والـــــــــــيوم

في زمانه، كان يدعى “القايد وما أدراك ما القايد” صاحب شخصية قوية تحمل الوقار والثقة والسمع والطاعة، يسير بهيبته ممتطيا جواده لاَبسًا سلهامه، وبجواره كان يسير مساعدوه اتباعا، كان يعتبر مصدر قوة في حل النزاعات وضبط الحياة العامة، بصفته القائد الحاكم والناهي والمرشد في فك شفرات الشكاوى المعروضة عليه من عامة الناس، وكثير من المظلومين انصفهم واعتد لهم الحقوق دون اللجوء الى مسطرة القضاء، كلامه فوق الكل لايرد ولا يناقش لأنه من أصحاب القرار، فكان المواطن البسيط يجد في القائد تلك الشخصية المنصفة والسند الحقيقي للحفاظ على ممتلكات وصون كرامته لا كلام يعلو فوق كلامه، لا نقاش ولا جدال مادام هو صاحب القرار، إنه القائد في زمانه الذي تغنت به الأجيال في مواسم الافراح كما هو الشأن في حياة القايد العايدي التي لازالت ألسن اصحاب الفن من العيطة يرددونها: (دوّزها واحد فالقياّد دوّزها القايد العيّادي).

فقد يقول قائل جاحد، أو متعنت جاهل، ما الغاية من طرح هذا الموضوع، ونحن نقول له على مهلك يا هذا، فأساس التطرق لذلك راجع بالأساس إلى تلك الصورة الرائعة التي لازالت عالقة في ذاكرة المغاربة، حُبلـــــــــى بذكريات طيبة لكثير من رجال السلطة، الذين كانوا ولازالوا يقومون بواجبهم بكل تفان وإخلاص خدمة للوطن والمواطنين، وظل الكثير منهم يحظى بالاحترام والتقدير والثناء الحسن حتى بعد انتقالهم من مكان عمل إلى آخر على طول جغرافية المغرب، بل إن منهم من استمر ذكره الحسن على ألسنة المغاربة حتى بعد انتهاء خدمتهم وإحالتهم على المعاش فجمعوا بذلك بين الحسنيين، خدمة الوطن واحترام المواطن.

إن القـــــايد اليوم، هو صاحب تلك الشخصية الشبابية بلباسها العصري والتكوين الاكاديمي والقانوني الذي يفرض على صاحبها التعامل والتجاوب مع مطالب المواطنين وفق مقاربة حقوقية، مقتنعا بأن عمله إداريا محضا وليس سياسيا، عكس تلك الصورة التي تجسد الرجل القوي الذي يبسط حكمه على الجميع وسلطته فوق الجميع، مهنة أضحت مزاولتها تعرف العديد من الاكراهات اليومية في مواجهة مباشرة مع المواطنين، مما يطرح التساؤل عن الدوافع التي جعلت من هيبته تتوارى؟

احتجاجات للمطالبة بالحقوق دون الواجبات

فبالرجوع شيئا ما إلى الوراء، وبالضبط إبـــــان الاحتجاجات التي اندلعت مع رياح مابات يعرف بالربيع العربي الذي احرق دولا كثيرة واعادها الى زمن مضى، احتجاجات خرج اصحابها للمطالبة بإصلاحات دستورية وسياسية ومحاكمة الفاسدين، يحق للجميع هنا أن يقف وقفة تقويم وتقييم لهذا الحراك وللنتائج التي تحققت سلبا وايجابيا، وبقدر اتساع حركية الاحتجاجات أو ضيقها، فيحق القول أنها حققت أهدافا مهمة وكان لها الفضل في إبراز الجو العام المطبوع بالنقاش الدستوري والقانوني والمطلبي والمطبوع أيضا بدخول المغرب زمن الثورة الدستورية الديمقراطية والاعلان عن دستور جد متقدم برؤية ملكية طموحة جنبت البلاد ويلات الفتن، لكن وفي مقابل النتائج الايجابية، هناك نتائج سلبية خلقتها هذه الاحتجاجات، فأصبح الكل يتحدث عن الحقوق دون الواجبات رغم أن انفصالهما صعب للغاية، وهكذا أصبحت الحركة مطية لكل شيء بلا منطق يحكمها بدءا بتناسل الأسواق العشوائية وسط المدن وبساحات دور العبادة وتحولت هذه الأخيرة إلى مراكز تجارية عشوائية، واستيقظت مافيات البناء العشوائي من سباتها، فتفـــرخت الأحياء العشوائية في وقت يتجه فيه المغرب إلى القضاء على السكن الغير اللائق، وبات رجال السلطة المحلية في مواجهة مباشرة مع هؤلاء المحتلين للملك العمومي ضمن موقف محرج، ومنهم من بات يسمع بأم اذنيه كلاما ساقطا من سب وشتم واهانة بلغت في بعض الاحيان مبلغ الاعتداءات الجسدية على رجال كان من المفروض ان ينالوا الاحترام والتقدير نظرا للدور الذي يقومون به، إنها ثورة الربيع العربي، ذلك الفهم الخاطئ والسيء لأسبقية النضال على العمل.

نمـــــــوذج من نمــــــــــاذج شتى

نقف هنا على نموذج من نماذج شتى عانت منها معظم مدننا، وهي ظاهرة احتلال الملك العمومي، لنسلط الضوء على الخطة المحكمة التي تمت بها محاربة الظاهرة بعاصمة الشاوية سطات، بعد ان اخذت من احتلال الشوارع والازقة ما أخذت.

لم تتأخر ساعة الصفر حتى دقت، ولسان حالها يردد: زنكة زنكة درب درب شارع شارع، حتى تحرير كل شبر مغتصب، ضمن حملة منسقة بتعليمات من عامل الإقليم ورجال السلطة المحلية والعناصر الأمنية والعديد من المتدخلين والشركاء والفعاليات الجمعوية، الكل انخرط وانهمك في نزع ما كسبته أيدي الناس من سطو على الملك العموم، فازدهرت مهن اللحام والحداد والنجار والحمّال، مهن شارك أصحابها في نزع واجهات المقاهي والمحلات التجارية وإخلاء الشوارع من مظاهر الباعة وارغامهم على أخذ أماكنهم المخصصة لهم داخل الأسواق النموذجية.

انطلقت معها صفارات الإنذار على ايقاع زمجرات محركات الجرافات وشاحنات النقل، “تشمرت” سواعد” عمال النظافة وأعوان البلدية ومختلف قيّاد المقاطعات الحضرية الذين فتحوا حوارات مباشرة مع المعنيين بالأمر بعين المكان، لإزالة بقايا حطام طالما نهبته الأيادي البشرية منذ عقود، فانكشف وجه المدينة الحقيقي ولاح في الأفق، ولاحت معه ذكريات الماضي البعيد، وبدت شوارع المدينة وأزقتها وكأنها لبست ثوب الحرية، تحرر الملك العمومي وتحرر معه المواطن و أخذ نصيبه في الشارع، ومنهم من وقف مذهولا من وقع الحادث الذي اعتبره البعض منهم سابقة من نوعها لاسيما وأن ظاهرة احتلال الملك العمومي كانت قد بلغت ذروتها بالمدينة.

لهؤلاء الشرفاء الذين ساهموا في تحرير الملك العمومي وارجاع الحقوق لأصحابها، يجب ردّ الاعتبار لهم وتشجيعهم وتحفيزهم وإعادة الهيبة لمؤسستهم وفق القانون واحترام حقوق الانسان، وليعلم الجميع أن للدولة هيبتها يجب أن تُحـــفظ وتُـــــصان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى