عامل الجديدة ومؤسسات “مواطنة” يتحركون لترقيع الشوارع

أحمد مصباح – الجديدة

في مشهد بات مألوفا، تكتسح الحفر كالطفيليات شوارع عاصمة دكالة، إلى درجة أنه قد يأتي يوم تقتسم فيه الساكنة، في توزيع عادل، “الكعكعة”، ويظفر من ثمة كل مواطن، دون ميز أو تمييز بين الذكر والأنثى، في حال إقرار مستقبلا المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، بحفرة قد يعمد إلى تملكها وتحفيظها، بغية تحصينها واستغلالها دون منازع، وتوريثها وتمليكها لمن يخلفه من الورثة وذوي الحقوق. ولعل “حفرة لكل مواطن”، التي يتداولها المواطنون بسخرية وتهكم، قد تكون جديرة بالشعارات التي قد يرفعها مستقبلا بعض المترشحين للانتخابات الجماعية!
الحفر هنا وهناك، بأشكال جيومترية وهندسية مختلفة، وبمقاييس وأعماق متنوعة، بعضها تم ملؤها بالأتربة والحجارة وحتى بالأزبال.. حولت الجديدة إلى رقعة إسطرنج، أو لوحة فنية “سوريالية”.. أو إلى خريطة جغرافية تعيد إلى الأذهان قصة “الحلاق الثرثار” لكاتبها (مصطفى لطفي المنفلوطي)، التي قرأها “الخمسينيون” منا وما فوق، وهم صغار، وتلك الخريطة لتي رسمها حلاق معروف بالثرثرة على رأس زبون صيني دخل حانوته أيام الحرب الوروسية-الصينية (..)؛ أو إلى “مطاحن الهواء” التي حاربها “فارس الظل الحزين” (دون كيخوتي دي لامانتشا).. بعد أن فقدعقله من قلة النوم والطعام وكثرة القراءة، وقرر أن يترك منزله وعاداته وتقاليده، ويشد الرحال كفارس شهم، يبحث عن مغامرة تنتظره، بسبب تأثره بقراءة كتب “الفرسان الجوالين”، وأخذ يتجول عبر البلاد حاملًا درعًا قديمة، ومرتديًا خوذة بالية، مع حصانه الضعيف (روسينانتي).. أو إلى مسابح في فصل التساقطات، عندما تكتسح البرك المائية الشوارع والأزقة، جراء اختناق قنوات الصرف الصحي.
لقد أصبحت الحفر لعنة و”عذابا أبديا” يلاحق الجديدة، كما تلاحق اللعنة الأبدية (سيزيف) الذي خدع، حسب الميثولوجيا الإغريقية، “آلهة الموت (ثاناتوس)”، وأغضب من ثمة كبير “الآلهة (زيوس)”، فكان أن عاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة، تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة، ويظل هكذا حتى الأبد.. فأصبح “رمز العذاب الأبدي”.
إن قدر الجديدة أن تعيش وتتعايش مع الحفر، كما تتعايش الإثنيات والحضارات، أو تتعايش الديانات السماوية والوضعية، أو تتعايش الأصالة والمعاصرة.. أو يتعايش في سلم وسلام وأمن وأمان الشيء ونقيضه، أو كما يحصل في السياسة وعند الساسة.. كالتوافق افق الذي حصل عند تشكيل المجلس الجماعي للجماعة الحضرية للجديدة، والذي انبثقت الأغلبية فيه، في ال15 شتنبر 2015، عن حزبي العدالة والتنمية وحزب الاستقلال، وأصبح على رأسه رجل الأعمال الملياردير (جمال بن ربيعة)، في وقت كان الخلاف في أشده في قمتي هاذين التنظيمين السياسين، حزب “المصباح” وحزب “الميزان”، بين كاتبيهما العامين، حميد شباط وعبد الإله بنكيران.
فبكثرة ما تعايش واعتاد الجديديون، سيما مستعملو الطريق، على سلك شوارع المدينة والمرور عبرها طولا وعرضا، ليل–نهار، على إيقاع تعاقب فصول السنة الأربعة، أصبحت ذاكرتهم قوية، تخزن بدقة متناهية الخريطة والتوزيع الترابي لجميع الحفر و”الحفريات الأركيولوجية”، والتي لا يمكن البتة أن يخطئوها ولو اقتضى الحال أن يقودوا عرباتهم معصبي الأعين، في مسابقة قد تكون أقرب إلى مسابقات “تذوق النبيذ” أو “الجبن” وغيرهما، التي تنظمها كبريات المؤسسات العالمية. ولعل هذا ما جعل سائقي العربات بعاصمة دكالة يجيدون فن مراوغة الحفر ببراعة، كما يجيد (دييغو مارادونا) أو (كريستيانو رونالدو) مراوغة خصومهما على ملعب كرة القدم.
هذا، فإن ترقيع الحفر بالجديدة أصبح يتسم ب”الانتقائية”.. وشبيها بمواد مهربة تروج ب”الكونتربوند”. فثمة شوارع محددة وسط إقامات و”فيلات” راقية، تم ترقيعها، وثمة شوارع بعينها في أحياء شعبية، تم تجاهلها. كما أن الترقيعات العشوائية، التي سرعان ما تزول، والتي قارنتها طبيبة، من باب السخرية والتهكم، ب”الحناء” التي تختفي في أقل من أسبوع، أصبحت تتحكم فيها الظرفيات والمناسبات. وهذا ما وقف عليه بالواضح والملموس سكان مدينة الجديدة، ومتتبعو الشأن العام، مع اقتراب موعد الزيارة الميمونة التي كانت ستقود الملك محمد السادس، شهر يونيو 2018، إلى عاصمة دكالة. حيث دخلت السلطات لتوها في سباق محموم مع عقارب الساعة، وسرعت قبل حلول (le jour j)، من وثيرة الإصلاحات العشوائية التي همت الشبكة الطرقية المتصدعة، التي تكتسحها الحفر كالطفيليات، وفي مقدمتها الطريق المؤدي من المدخل الشمالي للجديدة، إلى شارع جبران خليل جبران؛ وشارع المسيرة، من حيث كان مقررا أن يمر الموكب الملكي، ليتفضل جلالته بوضع حجر الأساس لبناء دار المسنين، وتدشين مركز محاربة الإدمان.
هذا، وقد ألغى الملك محمد السادس زيارته إلى عاصمة دكالة، وفي ذلك رسالة قوية إلى من يهمهم الأمر.
وكانت الجريدة فضحت بالمناسبة المهازل التي تتخبط في مستنقعها مدينة الجديدة، في تحقيقات صحفية “مزلزلة” نشرتها تباعا تحت عناوين: “زيارة الملك إلى الجديدة.. حبذا لو يعلم جلالته الحقيقة ويكتشف كذب المسؤولين !”، و”دار العجزة بالجديدة.. هذه هي الحقيقة التي يخفيها المسؤولون عن الملك!”، و”الملك يلغي زيارته إلى الجديدة.. فهل دقت ساعة مساءلة المسؤولين؟!”. تحقيقات صحفية يمكن لكل من يعنيهم الأمر الرجوع إليها، لكل غاية مفيدة، عبر محرك البحث الإلكتروني “غوغل”.
إلى ذلك، وبغض النظر عما قد تتسبب فيه من حوداث سير، فإن الحفر بالجديدة تلحق بالعربات أعطابا ميكانيكية ومادية، وتكبد مستعملي الطريق، ودافعي الضرائب (contribuables)، خسائر مالية، مع العلم أنهم يؤديون لخزينة الدولة ضرائب باهضة، مترتبة عن المركبات، وغيرها من الضرائب المباشرة وغير المباشرة..!
لقد علمتنا التجارب المريرة أن بعض من تعاقبوا على تدبير الشأن العام، ووضع فيهم المواطنون ثقتهم، بمنحهم أصواتهم، لم يكونوا سوى “براغماتيين”، همهم تحصين مكتسباتهم ومشاريعهم ومصالحهم، وتثمين عقاراتهم التي ألحقوها بالمدار الحضري. فمنهم من تواروا عن الأنظار لولاية انتخابية أو أكثر، وأخذوا لأنفسهم قسطا من الراحة، كراحة المحارب، أو كراحة بعض الحيوانات التي تختفي في فصل الشتاء (الإسبات).. وعادوا بتلوينات حزبية ومبادئ جديدة، بعد أن أزالوا من على أجسادهم جلداتهم الأصلية، كما يفسخ الثعبان جلدته، أو كما تغير الحرباء لونها، أو كما تعمد بعض الحيوانات البحرية إلى أسلوب “التمويه” (الكاموفلاج) في أعماق المحيطات، أو كفيروس يختفي ليظهر لاحقا بعد تقوية مناعته.. حيث إنهم تقاسموا أو تبادلوا في مسرحية كوميدية، الأدوار فيما بينهم، بالانتقال من المعارضة إلى الأغلبية، أو من الأغلبية إلى المعارضة.
ففي مدينة مثل الجديدة، مدينة التناقضات و”الباردوكس”، حيث كل شيء مباح ومستباح، فلا العواصف ولا الرياح العاتية أمكنها ولو “بعصا سحرية”، أن تزعزع واقعها الذي مافتئت تعيش على إيقاعه، وعلى وقع تدهور البنيات التحتية، وفي مقدمتها الشوارع والطرقات المتصدعة والمهترئة، التي أصبحت وصمة عار ومرجعا مهينا.. يعيق التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية، ويسير عكس التوجيهات الملكية السامية.
هذا، وقد تعالت أصوات الاحتجاجات تنديدا بالواقع المتدني الذي تتخبط في مستنقعه مدينة الجديدة وساكنتها. فعلى ما يبدو، فإن هذه الأشكال “النضالية” التي يمكن وصفها ب”المتجاوزة”، لكون الظهر أكل عليها وشرب، لم تعد تجدي نفعا. ولعل هذا ما حدا بمواطنة إلى أن ترفع، في سابقة من نوعها تنم عن مدى الوعي الذي أصبح يحظى به المواطن المغربي، في مجال تدبير الشأن العام المحلي، والدفاع عن مصالحه وحقوقه المترتبة عن ذلك، والتي من المفترض والمفروض أن يضمنها ويصونها المنتخبون الذين وضع “الشعب” فيهم ثقته، (إلى أن ترفع) دعوى قضائية، عن طريق دفاعها الأستاذ رشيد وهابي، المحامي بهيئة الجديدة، إلى المحكمة الإدارية بالدارالبيضاء، في موضوع “طرقات مدينة الجديدة التي تستعمل للتنقل على متن العربات، والتي تعرف منذ عدة سنوات تدهورا في بنياتها التحتية، وتتزايد بها الحفر سنة بعد أخرى”، وذلك في مواجهة الجماعة الحضرية للجديدة، في شخص رئيسها، الكائن مقرها بشارع الجامعة العربية بالجديدة، بصفتها مسؤولة عن الضرر؛ وشركـة التأميـن (x)، في شخص ممثلها القانوني، الكائن مقرها الاجتماعي بالدار البيضاء، بصفتها مؤمنة عن بلدية الجديدة؛ والوكيل القضائي للجماعات الترابية بمكاتبه بوزارة الداخلية بالرباط.
فلعل في آخر المطاف اللجوء إلى القضاء الإداري، سيكون منصفا، وسيكون وحده طريق الخلاص، حيث سيساهم حتما في التخليق والترشيد، والرقي بجودة الخدمات المقدمة من قبل المجالس الجماعية، سيما أن القضاء الإداري أصبح دوره مميزا ومفصليا في ترسيخ الحكامة الجيدة في التدبير المحلي للجماعات الترابية، واستمرارها في أداء الخدمات، وفي تجويد تدبير الشأن العام والتدبير العمومي.
إلى ذلك، فقد نسمع غدا أو بعد غد، بأن جمعية من جمعيات المجتمع المدني، تلتمس من السلطات الترخيص لها بفتح باب الإحسان والتبرعات في وجه المواطنين والمحسنين، على غرار أولئك الذين يساهمون في تشييد بيوت الله، ولو ب”درهم واحد”، بغية إصلاح الطرقات والشوارع، وترقيع الحفر و”الحفريات الأركيولوجية” في عاصمة دكالة.
فإلى متى سيبقى الوضع قائما على حاله، في ظل المجلس الجماعي لمدينة الجديدة، الذي يرأسه الاستقلالي (جمال بن ربيعة)، والبرلماني في الوقت ذاته، والذي مرت على انتخابه بهذه الصفة حوالي 4 سنوات، ولم يبق في عهدته وولايته الجماعية إلا عمر قصير..؟!
هذا، وشهد مؤخرا شارع علال الفاسي وشارع جبران خليل جبران بعاصمة دكالة، عمليات ترقيع للحفر.. غير أن الاعتقاد يسود لدى ساكنة المدينة بأن بلدية الجديدة هي من قامت بهذه الإصلاحات. لكن الحقيقة غير ذلك.
وبالمناسبة، فإن فعمليات ترقيع الحفر هذه، فإنها كانت بتدخل شخصي للسلطة الترابية الأولى، ممثلة في عامل إقليم الجديدة، محمد الكروج، لدى مؤسسات وأشخاص “مواطنين”، بعد أن اختار نهجا آخر، نهج “مبادرة المواطنة”، الذي هو تجسيد حي ينم ليس فقط عن المفهوم الجديد للسلطة، وإنما أيضا عن قيم المواطنة.
هذا، وتكلف مستثمر بالجديدة بإصلاح محور طرقي من شارع علال الفاسي بحي المطار، بطول يناهز كيلومترا، انطلاقا من المدارة المحاذية لمقهى “لاغيش”، وإلى غاية القاعة المتعددة الرياضات التي تحمل اسم إدريس شاكر. فيما انخرط كذلك المكتب الشريف للفوسفاط في هذه “المبادرة المواطنة”، من خلال تخصيص 300 طن من الزفت (الكودرون)، لترقيع الحفر التي تكتسح المحور الطرقي ذي الاتجاهين، من شارع خليل جبران جبران، انطلاقا من تقاطع الطرق عند مسجد إبراهيم الخليل، وإلى غاية حي السلام، ناهيك عن تجزئة أم الربع.
هذا، ووقف عامل الإقليم شخصيا، حسب ما عاينته الجريدة، على سير أشغال الإصلاح في شارعي علال الفاسي وجبران خليل جبران .. في الساعات الأولى من صباح السبت والأحد الماضيين، في الوقت الذي كان بعض المسؤولين يخلدون للنوم، أو يقضون عطلة نهاية الأسبوع في مدن أخرى، وفي منتجعات سياحية وفنادق مصنفة وأماكن صاخبة.
والجدير بالتنويه أن تدخل عامل إقليم الجديدة لم يقتصر فقط على شارع علال الفاسي وشارع جبران خليل جبران.. وإنما انصب على تهيئة “الكورنيش” على المحور الطرقي الذي هو امتداد لشارع النصر، ويربط الجديدة بمنتجع سيدي بوزيد، مرورا عبر الطريق الساحلية. هذا “الكورنيش” الذي سيجعل عاصمة دكالة تحظى قريبا بمتنفس، ويحولها إلى قبلة مفضلة يقصدها الزوار من داخل وخارج أرض الوطن.
إلى ذلك، فهل ستنخرط بعض المؤسسات والشركات والأشخاص، وكذا، “علية القوم” و”مليارديرات الجديدة”، في هذه “المبادرة المواطنة” وفي “عمل المواطنة” (acte de citoyenneté)، الذي أطلقه عامل إقليم الجديدة، محمد الكروج، خدمة لمدينتهم، والتي هي من خدمة الوطن.. الوطن الذي أعطاهم الكثير، والذي ينتظر أن يردوا له، من باب العرفان، ولو “القليل-القليل”، بمساهمتهم في ترقيع شوارع عاصمة دكالة..؟!
فهل سيكون “الملياردير” (جمال بن ربيعة)، ليس بصفته رئيس بلدية الجديدة، بقي أقل من سنتين على انتهاء ولايته الجماعية، وإنما بصفته واعتباره الشخصيين والخاصين، لائحة المتبرعين في إطار “المبادرة المواطنة”، التي اختير لها شعار: “جميعا من أجل ترقيع شوارع الجديدة!”، وحتى يكون قدوة يحتدى به في “عمل المواطنة”، من قبل “مليارديرات دكالة”..؟!
ومن باب الفكاهة والتنكيت، ليس إلا، فقد تكون الحفر و”الحفريات الأركيولوجية” التي تكتسح شوارع الجديدة، جديرة بأن ينظم بعضهم قصائد زجلية وشعرية، على شاكلة قصيدة “هجاء المطعم البلدي”، التي نظمها الشاعر المغربي الفكه (محمد بن إبراهيم المراكشي)، الملقب ب”شاعر الحمراء” (1897 – 1955)، عندما زار مدينة طنجة إبان الاستعمار الفرنسي، واضطر للمبيت بها، وساقته الظروف إلى فندق يسمى “المطعم البلدي”، قضى فيه ليلة لم ينسها طيلة حياته.

ما رأيك؟
المجموع 2 آراء
2

هل أعجبك الموضوع !

+ = Verify Human or Spambot ?

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
close button
إغلاق