الطب و أشياء أخرى

بقلم د.صادوق الهام رشيدة
 ترعبني فكرة … ولو عابرة ..بل مستحيلة …في ان اكون سببا في انتقال امراض معدية ..من مريض الى آخر ..ترعبني الفكرة ..مع انني اقف على كل كبيرة و صغيرة ..بعيادتي ..حتى يتم تعقيم اي شيء ..استعمله لعلاج اسنان مرضاي …ترعبني المسؤولية ..رغم انني اتحملها بحذافيرها ..يقودني ما يمليه عليّ ضميري …و إنسانيتي  ..
و ترعبني فكرة …ولو عابرة ايضا …في ان اكون سببا مباشرا او غير مباشر …في انهاء حياة شخص طرق باب عيادتي يوما ..ليس لكوني مجرمة ..اطلااقا ….بل لكوني ادرك ادراك اليقين … ان مهنتي لا تخلو من مخاطر ..فمجرد قلع ضرس متحرك آيل للسقوط ..ضرس قد يكون بإمكاني قلعه و لو بأصابع اليد ..قد يكون سببا في انتشار خلايا سرطانية ..من مكان الى آخر ..في جسم مريض عليل ..
و كلما درست اكثر فأكثر ..كلما ادركت ان طب الاسنان ..مهما توالت سنوات خبرتي ..تخصص صعب ..يحتاج الى تكوين مستمر ..و كلما اتسعت دائرة معارفي ..كلما ازداد خوفي ..و ازداد ايضا اصراري على ان اعمل جاهدة على اتقان عملي ..حتى ابتعد بالمريض عما قد يحفه من مخاطر ..قد تضع حياته برمتها..لا قدر الله … فوق كفيّ عزرائيل…
اذكر يوما …حينما كنت بصدد المداومة( une garde) يومي السبت و الاحد …و دقائق معدودة …قبل انهاء المداومة ..اتصلت بالعيادة سيدة تطلب المشورة ..بخصوص فتاة تعرضت لنزيف حاااد… بعد قلع سنها بوكر ممارس غير شرعي …نصحتها بالقدوم فورا …نسيت ابنائي ..زوجي ..بيتي ..و اضطررت للبقاء لإنقاذها ..تحملت كامل المسؤولية في ذلك ..رغم انني لم أكن لأسلم من تبعات قانونية قضائية ..لو حدث للفتاة مكروه لا قدر الله بين جدران عيادتي ..ولو انني لست السبب ..ايضا ..اكييييد انني كنت سأجد نفسي في موقف لا احسد عليه ..لو لم اتدخل جراحيا ..لايقاف النزيف ..كان من الممكن متابعتي بتهمة عدم تقديم المساعدة لشخص في خطر … كلها افكار لم تطرق راسي لحظاتها …كل ما فكرت فيه ..هو انقاذ الفتاة ..مهما كلفني ذلك ..انقذتها الالطاف الالهية …ثم ضميري ..و إنسانيتي ..بكيت يومها بعدها بمرارة ..أبكاني قِصَرُ يدي عن تنقية مهنتي من كل الشوائب …للاسف الشديد 
صديقة  ..أسَرَّت لي يوما …انها فقدت امها …بعد اصابتها بالتهاب الكبد الفيروسي…و السبب؟ اقتلاع ضرس بوكر متطفل على طب الاسنان ..لم تكن يومها مؤهلة للتفريق بين الطبيب …و غير الطبيب …انتقلت الام الى دار البقاء ..و تركت بنتا تعض ..من حسرتها ..على النواجد …
بعد دورة تكوينية فارطة ..عن طب الطوارئ..لمواجهة الحالات المستعجلة بعيادة طب الاسنان ..اصبحت ارى ..في كل شخص وطأت قدماه ارض عيادتي …حالة طوارئ…تحسبا لأي طارئ….أسرّيتُ مازحة  يومها لصديقة طبيبة ايضا …احيانا ..جهل الاشياء خير من ادراكها ..على الاقل ..ذلك سيوفر علينا رعبا يوميا قد يسكننا ..خوفا من حدوث الطوارئ..و مع ذلك ..و لأننا نحمل على عاتقنا هم مهنة ..و لأننا نملك ضميرا ..قبل مهنة ..ندرس و ندرس و ندرس ..مهما كلفنا ذلك ..
لكن ..في بلدي الحبيب …اجمل بلد في العالم ..لازالت امراض معدية ..بل و حتى مميتة ..تنتشر.. بسبب انتشار  اوكار ممارسين عشوائيين .. يسعون جادين لاغتيال متعمد لمهنتي النبيلة ..
و لست اول او اخر طبيبة اضطرت  لإيقاف نزيف كان من الممكن ..بل اكيد ان يودي بحياة فتاة في ريعان الشباب …بسبب جهلها في التفريق بين طبيب اسنان ..و منتحل صفة ..او ربما ليس جهلا ..بل سعيا منها لدفع مقابل مادي أقل( و هو اعتقاد خاطئ للاسف) ..مع انني لم اتلق اي مقابل مادي لانقاذها …
و في بلدي الحبيب ايضا ..اجمل بلد في العالم …أجد نفسي ملزمة باحترام القانون ..بالالتزام بأداء واجباتي ..بخدمتي لوطني …عن حب و طواعية …نفس الوطن الذي يقف عاجزا …بل متخاذلا عن حماية حقي في صون كرامتي …و كرامة مهنتي ..بتخليصها من كل مترام عليها ..عذرا وطني الحبيب ..طب الاسنان ليس مهنة ….من لا مهنة له ..
احيانا كثيرة ..تنتابني فكرة مُرَّة …ان احمل مهنتي ..و حب مهنتي …بين ضلوعي ….وارحل عن هذا الوطن …لكنني اتراجع عن فعل ذلك …لأنني و بكل بساطة ..لن أجد ضالتي في الرحيل ….ما دمت احمل بين ضلوعي …ايضا …هذا الوطن ..
تصبحون على وطن
د.صادوق الهام رشيدة
طبيبة جراحة للاسنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى