تطور المسؤولية التقصيرية

جواد شهباوي باحث في القانون المدني

تعتبر المسؤولية المدنية وبالذات التقصيرية من أكثر مسائل القانون المدني أهمية لما لها من ارتباط وثيق بالضرورات الاجتماعية، والاقتصادية التي تتغير وتتنوع تبعا لتغير وتنوع ظروف الزمان والمكان إذ خضعت على اختلاف العصور للتطور والتجديد خصوصا عند بداية عصر النهضة، إذ كان للتطور الصناعي والاقتصادي السريع الذي شهده العالم في القرن التاسع عشر أكبر الأثر في تطورها الشيء الذي أدى إلى تغير في مفهومها التقليدي.
فالتطور الذي عرفته المسؤولية دار حول فكرة الخطأ، بحيث أخذت هذه الفكرة تضعف شيئا فشيئا فكانت تختفي في بعض الحالات تارة تحت ستار الخطأ المفترض افتراضا يقبل إثبات العكس، وطورا تحت ستار الخطأ المفترض افتراضا لا يقبل إثبات العكس.
غير أن قيام المسؤولية على فكرة الخطأ لم يعد يتلاءم، والمجتمع الحديث، لذلك بدأت أهميته كركن فيها تتقلص مع الفقيه سالي، الذي أخذ بنظرية تحمل المخاطر والتي من مؤداها أن من يستفيد من نشاط معين عليه أن يتحمل تبعاته.
ومن هنا كان للمبررات السابقة أثر واضح في التفكير القانوني لدى الفقهاء، إذ ساهمت إلى حد بعيد في ظهور الدعوات لتغير أساسها وضرورة إقامتها على عنصر الضرر، وفقا للمذهب الموضوعي.
فتم التوسع في المسؤولية الموضوعية، حتى شغلت جانبا كبيرا من المسؤولية بل الأكثر من هذا فقد طغت على المسؤولية الخطئية لتحتل مكانة الصدارة.
لكنه رغم التجديد المستمر لفكرتها، وأساسها القانوني، فإن قصورها عن حماية المضرور قد جعل من ظهور التأمين عليها أمرا حتميا لا مفر منه.
وهكذا فإن التأمين قد أدى إلى مفهوم جديد في المسؤولية المدنية بحيث أصبح ينظر إليها ليس من زاوية إدانة الفاعل عن الضرر، ولكن من زاوية تعويض الضحية عن الأضرار التي لحقته.
لذا، فقد كان له وقع على نظامها ذلك أن القرارات القضائية غالبا ما تهتم بتعويض الضحايا أكثر مما تهتم بتطبيق المبادئ القانونية.
كما أنه بات نظاما لا يمكن رفض أو تجاهل دوره لأنه أصبح ضرورة اجتماعية، غير أن التوسع فيه أدى إلى قلب قواعدها رأسا على عقب بحيث فقدت كل معنى جزائي لها لتصبح قاعدة ضمان للمضرور.
وهكذا لم يقتصر التطور على فكرة المسؤولية بل امتد إلى النظام القانوني الذي يؤطرها، وهذا على مستوى التشريعين الفرنسي والمغربي.
على مستوى القانون الفرنسي.
في بداية الأمر كان القضاء الفرنسي يطبق مقتضيات المادتين 1382 و1383 من القانون المدني على المسؤولية التقصيرية الناتجة عن الأشياء، والتي تقوم على ضرورة إثبات الضحية لخطأ مرتكب الضرر حتى تتمكن من الحصول عن التعويض نظرا لعدم وجود نص صريح خاص بها.
غير أن الضحية كانت تواجه صعوبات كثيرة لإثبات هذا الخطأ، خاصة وأن التقدم والتطور في الميدان الصناعي وفي وسائل النقل وشيوع استعمالها أظهر قصورا واضحا في القواعد العامة للمسؤولية التقصيرية، وعجزها عن حماية ضحايا حوادث السير مما دفع بالقضاء وبتشجيع من الفقه الى البحث عن وسيلة لحماية هؤلاء الضحايا، فوجد غايته في نص الفقرة الأولى من المادة 1384من ق.م.ف.
إذ في أولى مراحل تطبيق هذه المادة قررت المحاكم بأنه لا يمكن أن تطبق على حوادث السير، إلا إذا كان الحادث –وبالتالي الضرر- قد وقع من السيارة وهي في حالة عدم قيادة، أما إذا وقع والسيارة مقادة فإن مقتضيات المادة 1383 من القانون المدني الفرنسي هي المطبقة على أساس أن المادة 1384/1 من ق.م.ف. التي تقرر المسؤولية عن الأشياء تفترض أساسا لتطبيقها أن يكون فعل الشيء قد حدث بعيدا عن تدخل الإنسان.
أما إذا وقع الحادث أثناء سياقه السيارة فإن السبب يرجع إلى خطأ السائق، وبالتالي تطبق مقتضيات المادة 1382 من ق.م.ف التي تتطلب إثبات الخطأ من طرف الضحية حتى تتمكن من الحصول على التعويض.
وتطبيقا لهذه التفرقة فإن أغلب الحالات كانت تطبق عليها مقتضيات المادة 1383 من ق.م.ف. لأن السيارة غالبا ما تكون مقادة، ولعدة اعتبارات ظهر اتجاه في القضاء يعمم تطبيق مقتضيات المادة 1384/1 من ق.م.ف.على حوادث السير سواء أكانت السيارة في حالة سياقه أم لا وقد بدأ هذا الاتجاه بحكم بسيه الصادر عن محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 29 يوليوز 1924.
إلا أن بعض الفقه اعتبر أن هذا الحكم فيه تخلي عن القضاء السابق الذي كان يفرق بين فعل الشخص وفعل الشيء.
فانقسم القضاء وصدرت بعض الأحكام لصالح تطبيق المادة 1384/1 من ق م ف على حوادث السيارات بلا تفرقة وبعضها الآخر استمر في قضائه التقليدي.
فصدر بعد ذلك قرار جان دور Jan d’heur لمحكمة النقض الفرنسية بتاريخ 21 فبراير 1927 الذي حسم هذا التناقض بصفة صريحة وقبل تطبيق مقتضيات المادة 1384/1 من ق.م.ف. على اعتبار أن هذه المادة تربط المسؤولية بالحراسة، وليس بالشيء ذاته، وعلى ذلك استقر الاجتهاد القضائي الفرنسي في المرحلة الثانية.
أما في المرحلة الثالثة فقد اتجه القضاء، إلى حماية وضمان مصالح المضرور، ولكن هذه المرة لم ينصب اهتمامه على مراحل قيام المسؤولية، وإنما على طريقة الإعفاء منها، إذ ففي بداية تطبيقه للمادة 1384/1 من القانون المدني كان يقبل من الحارس إثبات أنه لم يرتكب أي خطأ حتى يتحلل من المسؤولية الملقاة على عاتقه، بمقتضى هذه المادة التي عملت على نقل عبء الإثبات إلى الحارس بأن يثبت انعدام خطأه بدلا من إثبات الضحية لهذا الخطأ في مرحلة قيام المسؤولية تطبيقا للقواعد العامة في المسؤولية التقصيرية.
أما المرحلة ما قبل الأخيرة من هذا التطور فتتعلق بصدور قرار ديمار عن محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 21 يوليوز 1982، الذي يتعلق برجلين تعرضا لحادثة سير عندما كانا يجتازان الطريق عبر الممر المخصص للعبور، إذ قالت محكمة النقض بهذا الخصوص: ان خطأ الضحية لا يمكن أن يعفى الحارس من المسؤولية إلا إذا اكتسى طابع القوة القاهرة.
وهكذا فإن هذا القرار يعتبر تصرف الضحية لا يمكن أن يؤثر بشكل أو بآخر على الإعفاء النسبي للسائق، وهذا يعني أن الحارس يظل مسؤولا مسؤولية كاملة إزاء الضحية.
ذلك لأن قرار ديمار يمنع تقسيم المسؤولية، إذا لم يكن تصرف الضحية، غير متوقع، وغير مقاوم حتى وإن كان هذا التصرف خاطئا، مع العلم أن التوزيع يظل ممكنا إذا كان المدعى عليه قد قام بخطأ ثابت.
وقد علق الفقيه جان لوك أوبير، على هذا الاتجاه الذي سنه قرار ديمار بكونه يشكل مساسا بحقوق الضحايا في ضمان التعويض، على فرض أن هذا الاتجاه سيظل نافذا، وقد حدد أوبير هذه الوضعية المستقبلية في ثلاث نقاط وهي الدور السلبي للسائق، وعلاقة السببية بين الشيء وحدوث الضرر، ثم التضخم في تحديد حالات القوة القاهرة.
وإذا كانت هذه النقاط التي أثارها الفقيه أوبير، ستحدث تحولا مستقبليا في موقف القضاء للتخفيف من العبء الذي يتحمله الحارس فإن هناك عدة ملاحظات يجب إثارتها وذلك بتقييم قرار ديـمار، من خلال مبادئ المسؤولية التقصيرية.
لاشك أنه بعد صدور قرار 21 يوليوز 1982 ظن الكثيرين بأن محكمة النقض الفرنسية قد حسمت في مسؤولية حارس الشيء وبالتالي فلا مجال لمناقشة أبعاد هذا القرار، لكن الدارس لقانون المسؤولية المدينة سيلاحظ أن النقاش سيظل قائما حتى بعد صدور القرار الصادر عن الغرف مجتمعة بتاريخ 9 مايو 1984 عن محكمة النقض الفرنسية، الذي قالت فيه بعكس ما جاء به قرار ديمار، ذلك أن قرار الغرف مجتمعة جاء في إطار المادة 1382 من القانون المدني الفرنسي المتعلقة بالمسؤولية القائمة على الخطأ، في حين أن قرار 21 يوليوز 1982 يتعلق بمسؤولية الحارس عن فعل الشيء المؤسسة على مقتضيات الفقرة الأولى من المادة 1384 من ق م ف.
وهكذا يمكن القول بأن هناك اختلاف في نظام المسؤولية بين المواد 1382 و1383 و1384/1 من ق.م.ف. وفي ظل هذا الاختلاف يجب التفرقة بين حالتين مختلفتين.
الحالة الأولى وهي التي تكون فيها المسؤولية مؤسسة على فكرة الخطأ:
ففي هذه الحالة تبدو المسؤولية أنها مؤسسة على مقتضيات المادتين 1382 و1383 من القانون المدني، وهكذا يمكن التحلل من المسؤولية ولو نسبيا عن طريق تجزئتها وحتى على فرض أن المتسبب في حدوث الضرر قد ساهم في إلحاق الضرر بالضحية، إذ بإمكانه أن يطالب بتجزيء المسؤولية على أساس خطأ الضحية ومهما كانت درجة هذه الخطورة.
الحالة الثانية وهي التي تكون فيها المسؤولية ناتجة عن الأشياء:
ففي هذه الحالة يكون الحارس ملزم بتحمل التعويض الكلي عن الضرر حتى ولو لم يقترف أدنى خطأ، أو كان الحادث يرجع بالأساس إلى خطأ الضحية ما دام أن الخطأ لا يرقى لدرجة بأن يوصف بالقوة القاهرة.
وفي ظل هذه الظروف التي طبعت الاجتهاد القضائي الذي كان لا يتردد في الحكم على المسؤول المدني بالتعويض دون الاكتراث بخطأ الضحية، صعب على القضاء إيجاد حل نهائي نظرا لتشعب أنظمة المسؤولية من جهة وللرغبة الملحة في حماية المصابين من جهة ثانية، فلم يكن بتاتا الحد من آثار قرار ديمار والقول بان هذا الاتجاه لا يخص سوى المتضررين من جراء حوادث السير.
هذا كله دفع إلى التفكير في إيجاد حل تشريعي، الذي بدى هو الحل الوحيد الكفيل بالخروج من هذه الأزمة القانونية.
وهكذا، فبعد قرار جاندور الذي طبق على السيارات مقتضيات الفقرة الأولى من المادة 1384 من ق م ف، وبعد إنشاء صندوق مال الضمان سنة 1951 وجعل التأمين إجباري على السيارات سنة 1958، أصبح من الضروري إتمام النهج الحمائي عن طريق سن قانون يضمن للضحايا تعويضا فوريا بغض النظر عن تطبيق أغلب القواعد التي تنظم المسؤولية المدنية، فصدر قانون 5 يوليوز 1985 المتعلق بتحسين وضعية ضحايا حوادث السير وتعجيل مسطرة التعويض الذي ركز على استقلالية قانون المسؤولية المدنية في إطار حوادث السير. وهكذا أخذ المشرع الفرنسي في هذا القانون بفكرة الضمان التي يقوم عليها المذهب الموضوعي في المسؤولية، فتشدد مع المسؤول عند دفعه لها عن طريق نفي رابطة السببية رغبة منه في اتاحة الفرصة للمضرور من أجل الحصول على تعويض من كل متدخل في الحادث.
وتطبيقا لهذه الغاية نص على عدم إمكانية دفع السائق أو الحارس للمسؤولية استنادا للقوة القاهرة أو فعل الغير، بل ذهب لأبعد من ذلك عندما قرر أن خطأ المضرور غير كافي لدفع المسؤولية إلا في حالات محددة فقط، إذ وضع لها تنظيما خاصا مفرقا فيه بين المضرور أثناء سيره على الأقدام وعند قيادته السيارة.
فبالنسبة للأول أي -المضرور غير السائق-يحصل على تعويض عما أصابه من أضرار حتى لو كان قد صدر منه خطأ ساهم في وقوع الحادث. ومن هنا فإن الحالة الوحيدة التي يجوز فيها حرمان المضرور الذي لا تتوفر فيه صفة السائق من التعويض، هي حالة ارتكابه لخطأ غير مغتفر الذي يكون السبب الوحيد في وقوع الضرر.
أما الثاني – أي المضرور الذي تتوافر فيه صفة السائق – فإنه يخضع لمعاملة قانونية تختلف كليا عن التي يتعامل بها مع المضرور الغير السائق، إذ أن الخطأ الصادر منه أثناء سياقته للسيارة يحرمه من التعويض أو يقلل من مقداره.
على مستوى القانون المغربي:
الواقع أن ظاهرة حوادث السير، لم تكن قبل عهد الحماية محط اهتمام من طرف التشريع المغربي، إذ كانت وسائل النقل السائدة جد تقليدية كالعربات المجرورة بالبهائم وغيرها، وطبق وقتئذ قواعد الشريعة الإسلامية إلى أن تم الإعلان عن الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912. ففي هذه الفترة برزت ظاهرة استعمال العربات ذات المحرك بصناعتها وتقنياتها البسيطة، فلم تكن تشكل أي خطر اجتماعي، وواكب دخول المعمر الفرنسي صدور الظهير الذي يعتبر بمثابة قانون للإلتزامات والعقود سنة 1913، الذي تناول فيه المشرع المغربي قواعد المسؤولية عن الفعل الضار، إذ سلك في ذلك مسلك المشرع الفرنسي فأقر نظرية المسؤولية عن الأفعال الشخصية القائمة على خطأ واجب الإثبات، في الفصلين 77 و78 من ق.ل.ع.
وأقام إلى جانبها حالات من المسؤولية الموضوعية رغبة منه في حماية المتضرر، فهذه المسؤولية لا تتطلب إثبات خطأ مرتكب الضرر إما لأنها تقوم على خطأ مفترض كالمسؤولية عن فعل الغير التي اشار اليها المشرع في الفصل 85 من ق ل ع، ومسؤولية حارس الحيوان التي تناولها الفصل 86 من ق ل ع، ومسؤولية مالك البناء المدرجة في الفصل 89 من ق ل ع.
أو لأنها مستقلة تماما عن فكرة الخطأ وهي المسؤولية الناتجة عن فعل الأشياء المنصوص عليها في الفصل 88 من ق ل ع.
فمن خلال هذا الفصل فإن المشرع المغربي قد أصاغ مبدأ عاما يحكم الأضرار الناتجة عن فعل الشيء مستقل تماما عن المبادئ العامة في المسؤولية عن الفعل الشخصي الذي يتطلب من المضرور إثبات خطأ مرتكب الضرر.
وعليه فإن المشرع المغربي، قصد من وراء الفصل 88 من ق ل ع، إزالة عبء الإثبات على عاتق الضحية، ومن هنا فإن مسؤولية الحارس تقوم بمجرد حدوث الضرر من الشيء الذي في حراسته، وبذلك تم استبعاد النظرية الشخصية التي قال بها بعض الفقهاء عن مسؤولية حارس الأشياء بكاملها لأنها تقوم على فكرة الخطأ.
وقد اشترط المشرع المغربي لتطبيق مقتضيات هذا الفصل توافر شروط معينة وهي:
1- أن يتولى شخص حراسة شيء:
فبالرجوع إلى مقتضيات الفصل 88 من ق ل ع يتضح أن هناك قرينة المسؤولية، تقوم على السلطة والاستفادة كما هو الشأن بالنسبة للمسؤولية عن فعل الغير، فالحارس هو الذي يستعمل الشيء وبذلك يملك السلطة عليه بخلاف مالكه فهو الذي يستفيد منه بصورة مباشرة، وغير مباشرة، ولكن الذي يثير صعوبات هو تحديد مفهوم الحارس الذي يستبعد أن يحدد تحديدا قطعيا.
ولكن مع ذلك وقع الاتفاق على أن المالك هو الحارس، غير أن الجدال والاختلاف بقيا قائمين عندما يتعلق الأمر بتحديد الحالات التي يفقد فيها الحراسة.

2- أن يحدث هذا الشيء ضررا للغير:
يعتبر الضرر الشرط الثاني لقيام المسؤولية في ظل القانون المغربي، إذ لا يكفي أن يفقد الحارس سلطته على الشيء بل لابد أن يحدث هذا الأخير ضررا للغير.
إذ يكفي أن يتدخل الشيء في إحداث الضرر، وأن يكون تدخله فعالا في التسبب به وإحداثه حتى يمكن القول بأن عنصر الضرر قد تحقق، فالترابط السببي بين الضرر وفعل الشيء يحكمه معيار واحد، وهو الذي يتجلى فيه الضرر متصلا بالشيء على الصورة التي يظهر فيها أنه ناتج عن فعله من غير أن يفصله عنه أي عامل آخر.
3- أن توجد علاقة سببية بين فعل الشيء والضرر:
تحظى علاقة السببية في المسؤولية الناتجة عن حوادث السير بأهمية قصوى، ذلك لأنها لا تشترط الخطأ بل يكفي لقيام المسؤولية إحداث السيارة للضرر، فإذا ثبت أنها هي التي أحدثته توافرت علاقة السببية بغض النظر عن السبب الحقيقي لتدخلها في وقوع الحادث لأن البحث عن السبب الحقيقي يدخل في تحديد فكرة الإسناد.
وهكذا يكفي لتوافر رابطة السببية بين فعل السيارة والضرر، مجرد التسبب المادي، أي مجرد اشتراكها في الحادث اشتراكا إيجابيا فعالا بصرف النظر عن بحث وجود الخطأ من عدمه في جانب الحارس.
هذا فيما يخص الشروط التي اشترطها المشرع المغربي لتطبيق مقتضيات الفصل 88 من ق ل ع. أما إذا انتقلنا للجانب العملي من هذه المسؤولية، ونقصد بذلك الوسيلة التي جعلها المشرع المغربي بيد الحارس للتخلص من المسؤولية الملقاة على عاتقه، يلاحظ أن المشرع المغربي، قد ألزم هذا الحارس في الفقرة الأخيرة من الفصل 88 بإثبات أمرين مزدوجين وهما:
أ: أنه أي –الحارس- فعل كل ما كان ضروريا لمنع الضرر.
ب: أن الضرر يرجع لقوة قاهرة أو حادث فجائي أو خطأ المضرور.
وهذا السلوك في دفع المسؤولية الذي تبناه المشرع المغربي، يعطي للباحث انطباعا أوليا على أن هذا المشرع خالف نهج التشريعات التي حدت حذو القضاء الفرنسي في دفع المسؤولية عن حراسة الأشياء.
هذا الانطباع يجد صداه في الخلاف القائم بين الفقه والقضاء في المغرب، حول مدلول عبارة فعل الحارس لكل ما كان ضروريا لمنع الضرر، وفيما إذا كان الحارس يلزم بإثبات الشرطين المزدوجين معا لدفع المسؤولية عنه أم يكفي إثباته لأحدهما فقط، ثم حول ما إذا كانت صور السبب الأجنبي الواردة في الشرط الثاني قد أوردها المشرع على سبيل المثال أم الحصر.
غير أن المشرع المغربي مواكبة منه للتطور الذي بدأ يعرفه ميدان النقل أصدر ظهير 19 يناير 1953 المتعلق بالمحافظة على الطريق العام، ونظام الجولان.
ثم تلاه في نفس السنة القرار الوزاري الصادر بتاريخ 24 يناير 1953 المتخذ لتطبيق الظهير الشريف المذكور.
إذ اهتم هذا القرار بالأحكام المطبقة على جميع السيارات، وحيوانات الجر والحمل، والركوب، وبمجموعة مهمة من الضوابط المتعلقة بقيادة العربات والحيوانات والحركات الواجبة لقيادتها من وقت الانطلاق إلى غاية التوقف، وبالالتزامات المفروضة على السائقين والمتعلقة بضبط السرعة، وإضاءة السيارات ومراقبة محركاتها، وما يجب القيام به عند عمليات التقابل والاجتياز عند مفترق الطرق وملتقياتها، والقواعد المتبعة عند ممارسة حق أولوية المرور والوقوف العادي والطبيعي والتوقف العارض.
ورغم هذه الرزامة من التشريعات التي نظمت قانون السير والمرور، فقد بقي الفصل 88 من ق ل ع مطبقا على الأضرار الناتجة عن العربات البرية ذات محرك، ولم يفرد المشرع المغربي نصا خاصا يهم التعويضات عن حوادث السير رغم ما عرفه من تطور في وسائل النقل وما خلفته من ضحايا الذين تزايد عددهم بصورة مفجعة سنة بعد أخرى إلا في حدود سنة 1984، إذ أصدر ظهير 2 أكتوبر 1984 المتعلق بتعويض الأضرار البدنية الناتجة عن حوادث السير الذي لم يتطرق إلى المسؤولية تاركا ذلك للقواعد العامة ولقناعة هيئة المحكمة.
وهكذا فقد نظم المشرع المغربي بمقتضى ظهير 2 أكتوبر 1984 تعويض المصابين في إطار حوادث السير، بعدما كان الأمر في السابق يخضع للسلطة التقديرية لقاضي الموضوع.
ويتميز هذا الظهير ببعض الخصائص منها كونه يقتصر على نظام التعويضات المستحقة لضحايا حوادث السير دون باقي الجوانب الأخرى.
ووضعه لجداول آمرة، ملزمة لقضاة الموضوع وللخبراء الذين توكل إليهم مهمة تحديد نسبة العجز البدنية اللازمة لتقدير التعويض المستحق للمضرورين ولذوي الحقوق في حالة وفاة المصاب.
كذلك تضييقه من دائرة الأشخاص المستفيدين من التعويضات المستحقة عن حوادث الطرق، وذلك باستبعاده لبعض الأشخاص كالإخوة مثلا الذين كانوا من المستفيدين في إطار مقتضيات النظام القديم الذي كان يخول للقضاة في إطار سلطتهم التقديرية، تحديد من هو أولى من غيره في استحقاق التعويضات خصوصا عندما يتعلق الأمر بمنح تعويض عن الضرر المعنوي.
كما أنه حدد مسألة الاستفادة من التعويضات في الأضرار البدنية التي تتسبب فيها العربات البرية ذات المحرك الخاضعة للتأمين الإجباري، وبالإضافة إلى هذا يتميز هذا الظهير بطغيان الطابع المادي على مقتضياته خصوصا نوعية الأضرار القابلة للتعويض إذ ركز بالدرجة الأولى على الأضرار البدنية الجسمانية للمصاب، وعلى بعض الأضرار المالية القابلة للاسترداد إذا توافرت الحجج على صرفها.
أما الأضرار المعنوية فليس هناك في الظهير سوى إشارة واحدة في الفقرة الثانية من المادة الرابعة بخصوص الألم النفسي الذي يلحق زوج المصاب المتوفى وأصوله وفروعه من الدرجة الأولى، الذين يحق لهم دون غيرهم المطالبة باستحقاق التعويض عن الضرر الأدبي الذي أصابهم من جراء فقد مورد عيشهم وما سببه ذلك من ألم نفسي.
و رغم هذا فإن قوانين السير في المغرب ظلت تشكو الكثير من الثعترات فأصبح قصورها يقف عائقا أمام الحلول المبذولة لتحقيق السلامة الطرقية.
فأصبحت الحاجة ملحة لتدخل تشريعي حاسم لجمع شتات هذا القانون الموزع على شكل ظهائر ومراسيم تطبيقية وقرارات وزارية، وفقا لرؤيا جديدة تتناسب مع حجم المخاطر التي تتسبب فيها العربات البرية ذات المحرك. وهذا ما عمل عليه المشرع المغربي بإصداره لمدونة السير الجديدة على الطرق التي تهدف إلى المحافظة على أرواح وصحة مستعملي الطريق عبر تنصيصها على مقتضيات جديدة من خلال القانون رقم 05-52.
لقد جاء القانون رقم 05-52/ المتعلق بمدونة السير عبر الطرق، ليبلور تصور جديد يروم دعم الإطار القانوني المنظم لاستعمال الطريق العمومية، وللحد من الحصيلة المرعبة لحوادث السير، وقد تميزت أحكام هذا القانون بخصوصيات إجرائية وموضوعية جديدة مغايرة للمبادئ القانونية التقليدية، إذ أحدث مؤسسات جديدة ترمي إلى إعطاء قانون السير والمرور فعالية أكثر لتحقيق الردع العام، وهكذا فالمستجدات التي جاءت بها مدونة السير تتعلق:
1- بالسائق:
إذ اشترطت مدونة السير على الطرق كمبدأ عام لسياقة مركبة ذات محرك أو مجموع المركبات، عبر الطرق العمومية وجوب حصول الشخص على رخصة سياقة سارية الصلاحية ومسلمة من طرف الإدارة تتناسب وصنف المركبة أو مجموع المركبات. فرخصة السياقة السارية الصلاحية والمسلمة من قبل الإدارة المختصة تعتبر الأداة القانونية الوحيدة التي تمكن حاملها من حق سياقة صنف المركبة الذي يناسبه.
غير أنه يحق استثناءا لكل مغربي قاطن بالخارج، أو لكل سائق من جنسية أجنبية مقيم بالمغرب حاصل على رخصة دولية للسياقة وفقا للاتفاقية الدولية للسير على الطرق أن يسوق بواسطة رخصة سياقة مسلمة له بالخارج سارية الصلاحية لمدة سنة من تاريخ إقامته بالمغرب والملاحظ هنا أنه.
يجب التفريق بين نوعين من الأجانب، أجانب مقيمين بالمغرب بصورة معتادة وأجانب مقيمين بصفة مؤقتة، فبالنسبة للأجانب المقيمين بصفة معتادة يطبق في حقهم ما يطبق على المغاربة باعتبارهم مقيمين فوق التراب الوطني وبالتالي فهم ملزمون برخصة سياقة مغربية أو رخصة سياقة معترف بها.
أما بالنسبة للأجانب المقيمين بصفة استثنائية في المغرب، فإنهم ملزمون برخصة السياقة التي نصت عليها المادة 24 من إتفاقية جنيف المؤرخة في 19/09/1949/ والتي نشر مقتضياتها الظهير الشريف الصادر بتاريخ 08/12/1958 هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد اشترطت مدونة السير ضرورة توافر السائق على الأهلية البدنية والعقلية التي تمكنه من سياقة المركبة دون خطر، لهذا وجب على المترشح لاختبارات امتحان الحصول على رخصة السياقة أن يخضع مسبقا لفحص طبي للتأكد من قدرته البدنية والعقلية.
غير أنه إذا كان المترشح مصابا بعجز بدني لا يتنافى مع سياقة المركبات، أمكن تعويض هذا العجز بتهيئة خاصة للمركبة باستعمال أجهزة طبية من قبل السائق تبعا لتعليمات الطبيب الذي أجرى الفحص مع بيان ذلك في رخصة السياقة./
كما يلزم السائقين الحاصلين على رخصة سياقة حافلات النقل العمومي بالخضوع لفحص طبي بصفة دورية خلال كل عشر سنوات
و كل سنتين بالنسبة لسائقي نقل البضائع./، وعلاوة على ما ذكر أعلاه إذا ثبت أن الشخص الحاصل على رخصة السياقة قد أصيب بمرض أو عجز بدني، خضع لفحص طبي داخل أجل ثلاثين يوما الموالية للإصابته بالمرض أو العجز، وعلى الطبيب الذي عاين الإصابة أن يخبر فورا الإدارة التي تقوم داخل أجل ثلاثين يوما باستدعاء المعني بالأمر.
كما أنه إذا ارتكب الشخص الحاصل على رخصة السياقة حادثة سير نتج عنها قتل غير عمدي يخضع بأمر من الإدارة إلى فحص طبي إجباري.

2-تخصيص النقط لرخصة السياقة:
يعتمد هذا النظام على تخصيص رصيد من النقط يخضع للخصم بمناسبة ارتكاب بعض مخالفات قانون السير، وقد حدد الرصيد في عشرين نقطة بالنسبة لرخصة السياقة المسلمة للسائقين الجدد في الفترة الاختبارية، وفي ثلاثين نقطة بالنسبة لرخصة السياقة العادية.
ويتم خصم النقط بقوة القانون في حالة إدانة صاحب الرخصة من أجل مخالفة تستوجب هذا التخفيض بموجب مقرر قضائي حائز لقوة الشيء المقضي به، أو في حالة أدائه للغرامة التصالحية او الجزافية، ويمتد خصم النقط في أن واحد إلى جميع أصناف رخصة السياقة التي حصل عليها المعني بالأمر إذا كانت رخصته تسمح له بقيادة عدة أنواع من المركبات.
ويتم تحديد عدد النقط الواجب خصمها تبعا لجسامة، المخالفة المرتكبة التي يصل حدها الأقصى في الجنح الى أربعة عشرة نقطة، كما في حالة القتل غير العمدي المقرون بظروف التشديد ما لم يتقرر إلغاء رخصة السياقة، وحدها الأدنى إلى نقطتين في حالة السياقة بصفة مهنية دون التوفر على بطاقة السائق المهني، وكذا في الحالة التي يوجه فيها الأمر إلى السائق بالتوقف ويمتنع عن تنفيذه، أو عند رفضه الخضوع لأعمال التحقق المقررة، أو امتناعه على سياقة المركبة إلى المحجز أو الامتثال للأوامر القانونية الصادرة إليه.
في حين يصل الحد الأقصى للنقط الواجب خصمها في المخالفات إلى أربع نقط في حالة عدم احترام صاحب المركبة للوقوف المفروض بعلامة قف، أو بإشارة الضوء الأحمر أو عند تجاوزه للسرعة المسموح بها بما يفوق ثلاثين كيلومترا ويقل عن خمسة كيلومترات في الساعة، أو السير في الاتجاه الممنوع، وإلى نقطة واحدة كحد أدنى في حالة عدم احترامه إجبارية استعمال حزام السلامة أو إركابه لطفل تقل سنه عن عشر سنوات بالمقاعد الأمامية، غير أنه استثناءا من أحكام المادة 99 من مدونة السير، تنص مقتضيات المادة 100 من نفس القانون على وجوب خصم ستة عشرة نقطة في حالة تعدد الجنح المرتكبة في آن واحد، من بينها جنحة واحدة تتعلق بحادثة سير نتج عنها قتل غير عمدي مع ظروف التشديد أو جروح غير عمدية مؤدية إلى عاهة مستديمة أو جروح غير عمدية مع ظروف التشديد، في حين يلزم خصم عشر نقط في حالة تعدد الجنح الأخرى المرتكبة في آن واحد، وأربعة عشرة نقطة إذا ارتكبت عدة جرائم مؤدية إلى خصم النقط، أما إذا تعددت المخالفات المرتكبة في نفس الوقت فإن عدد النقط الواجب خصمها من الرصيد يساوي ثماني نقط على الأكثر.
غير أنه يمكن أن يرفع رصيد النقط إلى اثني عشر نقطة في حالة إذا لم يرتكب صاحب رخصة السياقة مخالفة معاقبة عليها بخصم النقط داخل أجل سنتين من التاريخ الذي حاز فيه آخر مقرر قضائي بالإدانة قوة الشيء المقضي به، أو من تاريخ أداء آخر غرامة تصالحية اوجزافية، وكان الرصيد المتبقى يقل عن ثمان نقاط.
وفي هذا الخصوص فقد سار المشرع المغربي على نهج المشرع الفرنسي الذي يعمل هو الآخر بنظام النقط، غير أن القانون الفرنسي لم يجعل من مجرد المعاينة التي يتضمنها محضر الأعوان سببا لسحب النقط، بل نص صراحة بأن المخالفة التي تستوجب سحب النقط هي التي تصل فيها الإجراءات المسطرية لدرجة حيازة قوة الشيء المقضي به، وهذا ما نصت عليه المادة 223-1 من تشريع المرور الفرنسي:
3- التدابير والعقوبات الخاصة برخصة السياقة:
قيد المشرع في إطار أحكام مدونة السير على الطرق حق استعمال رخصة السياقة بتدابير إدارية وعقوبات زجرية في حالة إخلال السائق بمقتضيات القانون، إذ حدد حالات الاحتفاظ برخصة السياقة وتوقيفها وسحبها وإلغائها، وكذا حالات الحرمان من الحصول عليها أو المنع من التقدم للامتحان الحصول على رخصة سياقة جديدة، كما حدد الحالات التي يمكن فيها للسائق استرجاع رخصته.
4-تجريم السياقة تحت تأثير المشروبات الكحولية:
تخول مقتضيات المادة 207 من مدونة السير على الطرق لضباط الشرطة القضائية إما بتعليمات من وكيل الملك، وإما بمبادرة منهم أو للأعوان محرري المحضر بأمر من ضباط الشرطة القضائية، إمكانية فرز الرائز للنفس بواسطة النفخ في جهاز الكشف عن مستوى تشبع الهواء المنبعث من الفم بالكحول على كل من يفترض أنه ارتكب حادثة سير أو اشترك في حدوثها حتى ولو كان هو الضحية.
وعلى كل شخص يتولى سياقة مركبة على الطريق العمومية وأيضا على كل مدرب يرافق السائق المتعلم.
5- المستجدات الخاصة بالعقوبات وزجر المخالفات:
صنفت مدونة السير على الطرق جرائم السير حسب خطورتها إلى مخالفات من الدرجة الأولى والثانية والثالثة وإلى جنح وجنايات.
وقد أشارت مدونة السير إلى إحداث نظام إلكتروني أوتوماتيكي، يسمح بضبط المخالفات وتسجيلها على حامل إلكتروني دون توقيف السيارات والمركبات، على أن يضمن ما سجل في هذا الحامل لاحقا في محضر رسمي من طرف العون المختص، اذ تنص المادة 191 من مدونة السير على أنه: يمكن أن تتم معاينة وإثبات المخالفات باستعمال أجهزة تقنية.
6-مستجدات تتعلق بالمركبة:
اشترطت مدونة السير في المادة 52، أن يتم تسجيل المركبة بمصالح وزارة التجهيز والنقل قبل الشروع في استعمالها لأول مرة، وألزمت المادة 65 إخضاعها لمراقبة تقنية دورية وهي العملية التي تهدف إلى التحقق من أن المركبة موضوع المراقبة مطابقة لتشخيصها المحدد بموجب القانون، وأنها في حالة جيدة للسير ولا يشوبها أي عيب أو خلل، وأن أجهزة سلامتها تشتغل بصفة عادية وأنها مزودة باللوازم الضرورية وتستجيب للشروط المقررة في النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالسلامة الطرقية وحماية البيئة، وأنها لم يدخل عليها أي تحويل من شأنه أن يغير خصائصها التقنية أو نوع استعمالها. وبالنسبة للمركبات التي تؤمن النقل الجماعي تنصب المراقبة فيها على التقيد بالأحكام الخاصة من لدن الإدارة.
وألزمت المادة 67 من نفس المدونة الاحتفاظ بالوثيقة المثبتة للمراقبة التقنية على متن المركبة كما خولت للإدارة أن تأمر بفحص مضاد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى