شخصيات تركت أثرا في ذاكرة المغاربة .. الحلقة الثالثة: المهدي بن بركة

لبنى أبروك – هبة بريس

تعاقب على المغرب طيلة السنوات الماضية، شخصيات أمنية وسياسية وحزبية صنعت تاريخا لها، ونجحت في ترك أثر لاسمها في ذاكرة جميع المغاربة الذين عايشوا فترتها أو الذين قرأوا وسمعوا عنها قصصا وروايات جذبت اهتمامهم وفضولهم.

وزراء، سياسيون، حزبيون، أمنيون ورجال دولة سنستعيد أسماءهم عبر هذه السلسلة الاسبوعية، و سنسافر وإياكم إلى الوراء بحثا عن أهم إنجازاتهم وأعمالهم أو الجدل الذي أثارته أسماءهم خلال فترة سلطتهم وهيمنتهم أو بعد إبعادهم أو ابتعادهم.

دراستهم، تكوينهم، مناصهم وأهم الانجازات والأحداث التي طبعت مسارهم، وكذا الشخصيات المعروفة التي رافقت مسيرتهم، والتي كشفت جانبا من حياتهم وكواليسا ووقائعا من سيرتهم، تلك هي الجوانب التي سنتطرق إليه بالمختصر المفيد خلال هذه السلسلة.

الحلقة الثالثة: المهدي بن بركة

هو اسم شغل بال الدولة بمسؤوليها الكبار والصغار وبمواطنيها خلال فترة حياته، وبعد مماته الذي كان في ظروف غامضة ومفاجئة لم تكشف إلى اليوم ولا تزال لغزا يصعب حله، بسبب رحيل عدد من الشخصيات التي ورطتها الشهادات في دمه.

المهدي بنبركة، المغربي الذي قاوم الاستعمار الفرنسي وضحى بالغالي والنفيس للدفاع عن الوحدة الترابية لوطنه، قبل أن يدخل الوسط السياسي من أوسع أبوابه، وينخرط بأكبر الأحزاب المغربية قبل أن ينشق عنه ويؤسس لحزب جديد، تسلح به للتحول لشخصية معارضة مهاجمة للدولة ولرجالها الكبار.

المهدي بنبركة، الذي مر حوالي نصف قرن على اختفاءه “الغامض”، تارك وراءه علامات استفهامات كبرى، ومواقف وأحداث ساهمت في بصم اسمه في ذاكرة جميع المغاربة، فماهي قصته?

بمدينة الرباط، رأى المهدي بنبركة النور سنة 1920، وسط أسرة بسيطة، تابع دراسته الابتدائية بنفس المدينة، وتميز بتفوقه الدراسي، الذي مكنه من متابعة دراسته بثانويه مولاي يوسف بين أبناء الأعيان والمسؤولين.

وحصل على أول بكالوريا عام 1938، كما حصل على دبلوم بشعبة الدراسات الإسلامية، كما استفاد من منحة دراسية رفقة تلامذة متفوقين لمتابعة دراسته بباريس حيث حصل على البكالوريا في الرياضيات، ثم إجازة في ذات الشعبة من الجزائر.

شهادات بنبركة وتفوقه الدراسي، مكناه من الولوج إلى المدرسة الملكية في منتصف أربعينيات القرن العشرين لتدريس ولي العهد آنذاك الحسن الثاني ورفاقه مادة الرياضيات، حيث وصفه الملك الراحل في كتابه “ذاكرة ملك” قائلا:” كان يتكلم بنبرة متوقدة حماساً زائداً، كان يفيض ذكاء، كما كان ذا ثقافة واسعة وشخصية جذابة… لقد كان في البداية شغوفاً بالعلم، متحمساً له، ثم ما لبث أن تحوَّل به الشَّغف والتحمُّس إلى حقل السياسة”

بنبركة الأستاذ حوَله شغفه وحماسه الى حقل السياسة، كما جاء على لسان الملك الراحل، حيث قدم في 11 يناير 1944 رفقة آخرين من مثقفين وحقوقيين إلى الملك محمد الخامس وثيقة الاستقلال ، التي كان من أصغر الموقعين عليها “24سنة” والتي تسببت في اعتقاله لمدة، قبل ان يغادر أسوار السجن ليدخل السياسة من أبوابها الواسعة، وينتخب رئيساً لحزب الاستقلال، كما عين رئيساً للمجلس الوطني الاستشاري.

في سنة 1959 تم حل المجلس الوطني الاستشاري، و انفصل بنبركة عن حزب الاستقلال وأنشأ حزب الاتحاد الوطني للقوى الشعبية “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حاليا”، هذا الحزب الذي ارتكز على معارضة سياسة الملك وعدد من القرارات الوطنية الكبرى.

شغف بنبركة السياسي وحماسه للدفاع عن مواقفه “الجديدة” دفعاه الى السفر والقيام بجولة انطلقت من الصين والهند ومصر ولبنان وفرنسا وإسبانيا، قبل أن يعود سنة 1962 الى المغرب ويتعرض لمحاولة اغتيال قرب بوزنيقة نجا منها بأعجوبة بعدما أصيب بجروح وإصابات خطيرة استدعت انتقاله لألمانيا للعلاج.

مباشرة بعدها، عاد بنبركة الى أرض الوطن، وخاض غمار االاستحقاقات الانتخابية، حيث انتخب نائبا عن حي يعقوب المنصور بمدينة الرباط، وبدأ في استغلال منصبه السياسي للدفاع عن مواقفه وأفكاره.

بنبركة الذي تحول من شخصية وطنية مقاومة للاستعمار، الى أخرى سياسية معارضة للنظام، أصبح يرى أن السياسة “رقما صعبا” في بلده، ما دفعه الى الهجرة الى دولة الجزائر أولا، ثم الى أوربا، حيث بدأ يلتقي بأبرز القيادات الثورية اليسارية في العالم ويدافع عن حركات التحرر والحرية في العالم، استعدادا للمشاركة في مؤتمر هافانا سنة 1966.

وبتاريخ 29 أكتوبر 1965 على الساعة 12 و 30 د، توجه بنبركة الى مقهى ليب وسط العاصمة الفرنسية باريس، للقاء مخرج أجنبي اتفق معه على إنجاز وثائقي عن حركات التحرر العالمية بعنوان “كفى BASTA”، بعد خروجه من المقهى وقف شرطيان فرنسيان عليه وطلبا منه مرافقته الى فيلا بضواحي باريس للقاء شخصية فرنسية مهمة، لكن ذهب دون عودة.

يومين بعد الواقعة، أعلن شقيق بن بركة عن إختفاءه لدى الشرطة الفرنسية، هذه الأخيرة التي أنكرت علمها بمكانه، غير أنه تأكد خبر وفاته.

روايات متعددة كشفت عن التفاصيل التي سبقت حادث اختفاء بنبركة وعن المتورطين في ذلك، حيث ذكر الشرطيين المعنيين في تصريحاتهما أمام السلطات، أنهما اختطفا بنبركة وأخذاه الى فيلا ضواحي باريس، حيث كان يتواجد الجنرال محمد أوفقير وزير الداخلية آنذاك و أحمد الدليمي مدير المخابرات الأسبق وآخرون ولم يعلما بمصيره بعد ذلك.

روايات أخرى، أفادت أن بنبركة قتل بتنسيق مع المخابرات الاسرائيلية والفرنسية ومسؤولين مغاربة، وتم دفن جثمانه بمكان قرب الفيلا، في حين ذكر أخرون أن جثمان بنبركة نقل على متن طائرة عسكرية الى الرباط.

عبد الرحمان اليوسفي، قيدوم السياسيين المغاربة، وأحد مؤسسي حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ذكر في مذكراته “أحاديث فيما جرى”، أن بنبركة راح ضحية عملية اختطاف واغتيال مخططة.

وفي هذا الصدد، قال اليوسفي:” في الوقت الذي فتح فيه الملك الحسن الثاني نافذة الحوار مع ممثلي الحركة الوطنية وأرسل ابن عمه لإقناع المهدي بن بركة بالعودة إلى المغرب للمساهمة في مشروع بناء المغرب الجديد في أبريل 1965 كان وزير الداخلية آنذاك الجنرال أوفقير يعقد لقاءات سرية للتخطيط لاختطاف واغتيال بن بركة”، بالتنسيق مع من سماهم عصابة من القتلة وبعض المطلوبين لدى العدالة الفرنسية.

وأشار اليوسفي في مذكراته إلى تورط أطراف دولية أخرى في ارتكاب الجريمة، منها عناصر من الموسادالإسرائيلي والاستخبارات الأميركية

كما برأ الملك الراحل الحسن الثاني نظامه من اغتيال بنبركة، وقال في كتابه “ذاكرة ملك”، إنه فوجئ بخبر مقتل معلمه، خاصة أنه كان يسعى لفتح الحوار معه، وأرسل له ابن عمه الأمير مولاي علي ليطلب منه العودة إلى البلاد “ليحل برفقة أستاذه في الرياضيات طلاسم معادلة خاصة بالمغرب”.

الى ذلك، يطالب اليوم أسرة وأقارب الراحل المهدي بنبركة، وعدد من المغاربة الذين عايشوا فترته وظل اسمه وذكراه راسخا لديهم بالكشف عن ظروف اغتياله ومصير جتثهم المجهولة الى اليوم.

“أنتُما الوحيدان اللَّذان يُمكنهما اتِّخاذ قرارات تُمكِّن من إخراج هذه القضية من المأزق الذي آلت إليه” هذه هي الرسالة التي وجهتها عائلة الراحل بنبركة الى الملك محمد السادس والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، تزامنا مع زيارته الأخيرة للمغرب، فهل دفنت تفاصيل اغتيال ومكان جثة المهدي بنبركة مع الراحلين؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى