الخطة الوطنية للديموقراطية و حقوق الإنسان .. نقاش في التكتيك

يعتبر تنزيل منظومة حقوق الانسان من اهم مقاييس و آليات تصنيف الدول ، حيث نجحت الامم المتحدة في فرض احترام حقوق الإنسان كمنتوج قيمي يعكس مدى تمثل الدول للدرس الديموقراطي . و لأن الامم المتحدة عبر برنامجها للتنمية الوارد عام 1991 وضعت مقاييس للتنمية البشرية من صحة و تعليم و دخل فردي ، فإن المجلس الاممي لحقوق الإنسان اضحى مسرحا لتقييم مدى نجاح الدول في استيعاب اهمية الكرامة الآدمية كمدخل للتحضر و الرقي . و دون تجاهل اهمية المدخل الحقوقي كإحدى ميكانيزمات التدخل التي توظفها القوى العظمى لفرض اجندة دقيقة في سياقات الحروب الاستراتيجية ، أؤكد ان الفعل الحقوقي يبق تجلي أساس لاستبطان نضج المجتمعات البشرية و توفقها في اعتبار كرامة الانسان مقياسا للحضارة و التقدم . و ازعم على هذا الاساس ان المعطى الحقوقي من الاهمية بمكان على مستوى تصنيف الدول ديموقراطيا . و عليه فالعلاقة بين حقوق الإنسان و الديموقراطية تظل علاقة جدلية و ثيقة ، اذ لا يجوز للديموقراطية ان تكون سلوكا سياسيا و لا ممارسة قيمية دون ان تستند على استلهام سليم للدرس الحقوقي . و من اجل توضيح الموقف ازاء الخطة الوطنية للديموقراطية و حقوق الإنسان ؛ ينبغي منهجيا التأكيد ان التجربة المغربية في مجال حقوق الإنسان تمتد منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي ؛ حيث باكورة التنظيم  الجمعوي الحقوقي . و الأهم؛ إن ما حصل إبان سنوات الاحتقان خلال الزمن السياسي نفسه  ؛ افضى الى غليان تجلى عبر العنف و العنف المضاد من خلال قهر خطير سمي في الادبيات الحقوقية بزمن الجمر و الرصاص . و بقدرما نعترف ان ما حصل خلال سنوات الجمر و الرصاص هاته كان بشعا و فظيعا على قاعدة ما كتب في سياق ما نسميه حقوقيا ب ” اداب السجون ” ، بقدر ما نعترف ان الدولة نجحت في طي صفحة الإنتهاكات الجسيمة عبر آليات الانصاف و المصالحة التي لعب فيه الرعيل الأول من الحقوقيين ، من رفاق الراحل ادريس بن زكري ” دورا جما في انجاح مهام هيئة الإنصاف و المصالحة ، و بتوافق مع الدولة ، و عبر تدخل من أعلى مستوى . و لذلك شكلت خطة التسوية لحظة توافق تاريخي بكل المقاييس . فكيف لا و القرار استهدف الكشف عن المعتقلات السرية ( تازمامارت / اكدز / اغبالو / .. ) ، و السماح بعودة المنفيين في مقدمتهم ” ابراهام السرفاتي ” ، و أعمق من ذلك ؛ جلسات الحوار المباشر من على قنوات القطب العمومي ؛ حيث تمكن ضحايا الانتهاكات الجسيمة من التعبير عن معانتهم و آلامهم بالفم المليان و بالاعلام العمومي ، هذا علاوة على اعتماد الحمض النووي لكشف رفاة ضحايا الاختفاء القسري  . و ازعم ان هكذا قرار يبق شجاعا و يستحق التنويه ، سيما اذا اضفنا له ما اسفرت عنه مقررات ما يعرف حقوقيا ب ” جبر الضرر الفردي ” الذي مكن معتقلي الامس من فرص التمكين الاجتماعي ، و إن بقي ملف ” جبر الضرر الجماعي ” دون التطلعات المطلوبة . إن الاهم من كل هذا هو ان ما راكمه المغرب  حقوقيا يثير فضول التجارب المقارنة . و السؤال المشروع في هكذا سياق ؛ كيف لدولة نجحت في بناء توافق مع معارضة الامس على ارضية الانصاف و المصالحة ، و تحت رعاية الدولة نفسها  مباشرة ، ان تلجأ الى ما يسمى بالخطة الوطنية للديموقراطية و حقوق الإنسان !! إن ميلاد هذه الخطة ، و باسم المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان مثلا ، بمعنى من داخل البناء الحكومي ، يثير اكثر من سؤال حول طبيعة الخلفيات المؤطرة لهذا المشروع الحكومي ، و في فحوى الأجندة المهيكلة لهذا الفهم ، و ما هو التكتيك الذي يسيج الاهداف الكبرى المهيكلة للخطة حاليا و مستقبلا  . و بصرف النظر عن تهريب النقاش الى محاكمة نوايا الفاعل السياسي ، و بعيدا عن احتكار الفعل الحقوقي الذي اضحى ملكا لكل المغاربة ، و اصبح تراثا وطنيا و مشتركا ثابتا بين مختلف القوى الديموقراطية الحية و خلفها عموم المغاربة ، اؤكد ان القفز المقصود على لحظة الانصاف و المصالحة ، نحو تدابير ذات سقف استشاري عبر الخطة ؛ و هو ما يشكل اغتيالا ناعما لما حصل من تراكم حقوقي بفضل الدولة ، يشكل تحولا خطيرا . و من باب المكاشفة ؛ اصرح ان الملك الراحل ” الحسن الثاني ” كان السباق الى اقرار منطق الانصاف في سياق حكومة التناوب التوافقي تحت إلحاحية الحركة الحقوقية الوطنية و الدولية . و مع انتقال العرش الى العاهل الكريم محمد السادس ، ستتعمق القناعة لدى الدولة من اجل  مواصلة طي خلافات الجمر و الرصاص ، ثم المضي قدما في معركة احقاق الحقوق . من محصلة ذلك ؛ إن الملكية و اليسار ، عبر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مع حكومة الاستاذ ٦بد الرحمان اليوسفي ، و بمشاركة جل القوى الديموقراطية الحية ، كانا خلف نجاح المغرب في بناء سجل حقوقي متنور عبر التسوية الحقوقية من خلال هيئة الانصاف و المصالحة ، و بدور فعال للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان . و بهذا المعنى ؛ استحضر ان معظم ضحايا الانتهاكات خلال الماضي الأليم  ليسوا سوى القوى الديموقراطية الحية التي كان يمثلها اليسار عموما ، و بعض الفصائل السياسية التقدمية ؛ و ذلك في سياق كان الذين يخططون اليوم للخطة حبيسي تنفيد اجندة الحرب الباردة التي انتصرت فيها الولايات المتحده الامريكيه ، كعراب اليمين الليبرالي ، بتوظيف الحركات الدينية و الفكر الطائفي من اجل محاصرة المد الشيوعي . و كتب التاريخ السياسي و مخلفات الحرب الدعائية تثبت حجم الادوار التي لعبها الفصيل الاصفر في فرملة الفكر و الفلسفة اليساريين في مواقع كثير من العالم من افغانستان الجهاد نحو لبنان و اغتيال المهدي عامل ، نحو مصر و تصفية فرج فودة ، الى المغرب و مقتل عمر بن جلون ، إلى الجزائر و نحر معطوب لونيس و الشاب حسني .. إن هذه الحرب التي شملت مفكرين اخرين من طينة ناصر حامد ابو زايد و العفيف الاخضر .. و عبر محاكم التفتيش الصفراء ، كانت مدعمة من لدن الماكينة الايديولوجية الرأسمالية . و استنتج بناء على ذلك ان بناء ارضية حقوقية جديدة على انقاض الإرث الحقوقي المتوافق عليه بين الملكية و اليسار ، يشكل انزياحا خطيرا تحكمه ضوابط ايديو – سياسية دقيقة في مضمار البحث عن موطيء قدم في معترك الفعل الحقوقي . بمعنى إن السعي الى الانتماء الى الصف الحقوقي يشكل رهان الخطة لصالح خصوم حقوق الانسان في الامس القريب عندما كان زواح متعة بين المشارب الصفراء ؛ اليمين الليبرالي الدولي و اليمين الديني المحافظ . و مهما حاول البعض ، من خلال تأويلات افقية سطحية ، شرعنة الخطة من منطلق انتمائها الى المرجعية الحقوقية نفسها للإنصاف و المصالحة ، فإن الحقيقة تخالف ذلك كليا . و لضحد هكذا تأويل مشحون بالتكتيك الايديولوجي ؛ اؤكد ان توافق الملكية ( الدولة ) مع القوى الديموقراطية الحية ( اليسار و الحركة اللائكية الديموقراطية  عموما ) كان الأقوى من حيث الشجاعة و الحصيلة التي ولدت من رحم توصيات الانصاف و المصالحة ، و التي لامست مختلف ابعاد منظومة الحقوق المشكلة لروح الدرس الديموقراطي . 

 و من باب التفاعل اتساءل مجددا ؛ كيف يجوز تجاوز الانصاف و المصالحة ، كمحطة تاريخية شامخة ، نحو خطة سميت وطنية ، و بعد دستور متوافق عليه ، و برعاية الدولة مجددا ، و بطلب ملح من القوى الديموقراطية الحية التي جسدتها حركة 20 فبراير ؛ التي انسحبت منها حركات الفهم الديني ، 《 المرنة 》 و الراديكالية ( حركات ذات مضمون واحد بتكتيك مختلف ) ، و بتوافق شعبي  ابان فاتح يوليوز 2011 ، و المرور ، مقابل ذلك ، الى السرعة القصوى لتنزيل الخطة الوطنية !! و جدير باستحضار ان إنجاح الخطة ( اقول انجاح ؛ بتدخل حكومي قهري ) كفيل بجعل سجلات التاريخ تحتفظ بمساهمة الحكومة في تنزيل منظومة حقوق الإنسان ، رغم ان ما حصل ، بعد الدستور المتقدم لفاتح يوليوز ، من تراجعات في الملفات الكبرى بسبب ضعف حنكة اليمين الديني المحافظ ، قمين بالاعتراف بالردة الحقوقية الفجة . أفليست الخطة اذن بهذا السياق هروبا الى الامام من اجل التموقع في قلب التدافع الحقوقي . انه تكتيك بليذ / ذكي يروم ، من حيث يدري و من حيث لا يدري ، منافسة الدولة في شرعية الانتقال الديموقراطي من مدخل حقوقي  . و بشجاعة تحليلية اعترف ان تنازل الدولة عن مشروعية الانصاف و المصالحة يشكل غباء لا يليق ، لصالح دهاء سياسي حكومي على انقاض التدبير الدولتي للملف الحقوقي و لسؤال الديموقراطية . بمعنى اخر ؛ اننا امام تجاوز تكتيكي لتوافق حقوقي فريد اقليميا تحت عنوان بارز هو الانصاف و المصالحة اولا ، ثم القفز على تجاوب فعال من لدن الدولة مع مطالب الرجة الحاصلة خلال سياق سمي ب 《 الربيع العربي 》، مع العلم ان الوثيقة الدستورية الجديدة اعترفت ، لأول مرة في تاريخ التشريع الدستوري المغربي ، بكون الشرعة ( اقول الشرعة ) الدولية لحقوق الانسان من مصادر التشريع المغربي ؛ استنادا الى زخم الاتفاقيات و المعاهدات و الصكوك و العهود الدولية لحقوق الإنسان . و مجددا اذكر إن الفاعل الأغلبي في تشكيلة الحكومتين معا لما بعد دستور 2011 ؛ كان في ورقته التي تقدم بها الى اللجنة الملكية لوضع الدستور ؛ برئاسة الاستاذ ” محمد المنوني ” ( مستشار صاحب الجلالة ) اكثر رجعية من الدولة خاصة في ملفات الامازيغية و حقوق النوع الاجتماعي و .. و عليه كيف يجوز صياغة خطة وطنية للديموقراطية و حقوق الإنسان في ظل الاستخفاف بتوصيات الانصاف و المصالحة من جهة ، و في كنف تجاوز فج لمقتضيات الوثيقة الدستورية التي جاءت متقدمة ، رغم كل الانتقادات ، و في مضمار خطابات ملكية جريئة متعددة لصالح المرأة و لصالح الهوية و الهندسة الترابية و اللاتركيز و اللامركزية !! كيف لمن اصطف ضد التراكم الحقوقي الحاصل ان  يكون طرفا اليوم في انتاج خطة مشبوهة من بدايتها بعلة الافتقار الى خلفية سياسية و حضارية معترف بها . و كيف يمكن شرعنة الخطة في سياق ايديولوجي / سياسي / استراتيجي لما بعد توافق الامة بالخطاب الملكي المؤسس للدستور الجديد ، مع العلم ان من ينادي اليوم بالخطة ما كان يوما خلف طلب ما لتعديل الدستور . لذلك اخلص إن التسويق للخطة و بتخصيص بروباغوندا قوية لإنجاحها ، و بإشراك منهجي مقصود لجناح مدني يحمل صفة المجتمع المدني ، ليس منهم سوى تكتيكا دقيقا لايجاد موطي قدم في باحة المشروعية الديموقراطية ، نحو شرعنة الانتماء خدمة لأجندة وحده التاريخ سيكشفها ذات يوم آت لا محالة ؛ و ما ينبؤك مثل تاريخ ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى